موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: الدُّعاءُ لهم والتَّرَحُّمُ عليهم


مِنَ الأدَبِ مَعَ العُلَماءِ: الدُّعاءُ لهم، والتَّرَحُّمُ عليهم.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- من الكتابِ
قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (وإذا قال المُؤمِنُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [ الحشر: 10] يَقصِدُ كُلَّ مَن سَبَقه مِن قُرونِ الأُمَّةِ بالإيمانِ، وإن كان قد أخطَأ في تَأويلٍ تَأوَّله فخالَف السُّنَّةَ، أو أذنَبَ ذَنبًا، فإنَّه مِن إخوانِه الذينَ سَبَقوه بالإيمانِ، فيَدخُلُ في العُمومِ) [923] ((منهاج السنة النبوية)) (5/ 240، 241). .
فالمؤمنون يَنتَفِعُ بعضُهم ببَعضٍ، ويَدعو بعضُهم لبَعضٍ؛ بسبَبِ المُشارَكةِ في الإيمانِ المُقتَضي لعَقدِ الأُخُوَّةِ بيْنَ المُؤمِنينَ، الَّتي مِن فُروعِها أن يَدعوَ بَعضُهم لبَعضٍ، وأن يُحِبَّ بَعضُهم بعضًا [924] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 851). . فكيف إذا كانوا مِن العلماءِ؟
وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (ليسَ لأحَدٍ أن يَتَّبِعَ زَلَّاتِ العُلماءِ كَما ليسَ له أن يَتَكَلَّمَ في أهلِ العِلمِ والإيمانِ إلَّا بما هم له أهلٌ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى عَفا للمُؤمِنينَ عَمَّا أخطَئوا، كما قال تعالى: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال اللهُ: «قد فعَلتُ» [925] لفظُه: عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: ((لمَّا نَزَلَت هذه الآيةُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البَقَرة: 284] ، قال: دَخَلَ قُلوبَهم مِنها شيءٌ لَم يَدخُلْ قُلوبَهم مِن شيءٍ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قولوا: سَمِعْنا وأطَعْنا وسَلَّمْنا، قال: فألقى اللهُ الإيمانَ في قُلوبِهم، فأنزَلَ اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا قال: قَد فعَلتُ. رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قال: قَد فعَلتُ. وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا قال: قَد فعَلتُ)). أخرجه مسلم (126). . وأمَرَنا أن نَتَّبِعَ ما أُنزِلَ إلينا مِن رَبِّنا ولا نَتَّبعَ مِن دونِه أولياءَ، وأمَرَنا أن لا نُطيعَ مَخلوقًا في مَعصيةِ الخالقِ، ونَستَغفِرَ لإخوانِنا الذينَ سَبَقونا بالإيمانِ، فنَقولَ: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ الآية.
وهذا أمرٌ واجِبٌ على المُسلمينَ في كُلِّ ما كان يُشبِهُ هذا مِنَ الأُمورِ، ونُعَظِّمُ أمرَه تعالى بالطَّاعةِ للهِ ورَسولِه، ونَرعى حُقوقَ المُسلمينَ، لا سيَّما أهلِ العِلمِ مِنهم كَما أمَرَ اللهُ ورَسولُه.
ومَن عَدَل عن هذه الطَّريقِ فقد عَدَل عنِ اتِّباعِ الحُجَّةِ إلى اتِّباعِ الهَوى في التَّقليدِ، وآذى المُؤمِنينَ والمُؤمِناتِ بغَيرِ ما اكتَسَبوا؛ فهو مِنَ الظَّالِمينَ، ومَن عَظَّمَ حُرُماتِ اللهِ وأحسَنَ إلى عِبادِ اللهِ كان مِن أولياءِ اللهِ المُتَّقينَ) [926] ((مجموع الفتاوى)) (32/ 239). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَنِ استَعاذَ باللهِ فأعيذوه، ومَن سَألَ باللهِ فأعطَوه، ومَن دَعاكُم فأجيبوه، ومَن صَنَعَ إليكُم مَعروفًا فكافِئوه، فإن لَم تَجِدوا ما تُكافِئونَه فادعُوا له حَتَّى تَرَوا أنَّكُم قد كافَأتُموه)) [927] أخرجه أبو داود (1672) واللفظ له، والنسائي (2567)، وأحمد (5365). صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (1522)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (744) وقالا: على شرط الشيخين، والنووي في ((المجموع)) (6/245)، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (5/250)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1672) .
وَجهُ الدَّلالةِ:
(يَعني: مَن أحسَنَ إليكُم أيَّ إحسانٍ فكافِئوه بمِثلِه، فإن لم تَجِدوا فبالِغوا في الدُّعاءِ له جُهدَكُم حتَّى تَحصُلَ المِثليَّةُ) [928] ((السراج المنير)) للعزيزي (4/ 262). ، ومِن أعظَمِ الإحسانِ إحسانُ أهلِ العِلمِ بتَعليمِهمُ العِلمَ ونَشرِه، ورَفعِ الجَهلِ عنِ النَّاسِ
مِن أقوالِ السَّلفِ:
1- عن أبي حَنيفةَ، قال: (ما صَلَّيتُ صَلاةً مُنذُ ماتَ حَمَّادٌ إلَّا استَغفَرتُ له مَعَ والِدي، وإنِّي لأستَغفِرُ لمَن تَعَلَّمتُ مِنه عِلمًا أو عَلَّمتُه عِلمًا) [929] ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (15/ 457). .
2- عن ابنِ أبي مَريَم، قال: (ذُكِر مالِكُ بنُ أنَسٍ عِندَ اللَّيثِ بنِ سَعدٍ في المَسجِدِ الجامِعِ، فقال اللَّيثُ: واللهِ إنِّي لأدعو لمالكٍ في صَلاتي بأن يُبقيَه اللَّهُ، وذَكَر مِن حاجةِ النَّاسِ إليه) [930] ((الطيوريات)) لأبي طاهر السلفي (2/ 345)، ((ترتيب المدارك)) لعياض (1/ 170). .
3- عن مُحَمَّدِ بنِ اللَّيثِ الرَّازِيِّ، قال: سَمِعتُ أحمَدَ بنَ حَنبَلٍ يَقولُ: (ما صَلَّيتُ صَلاةً مُنذُ أربَعينَ سَنةً إلَّا وأنا أدعو فيها للشَّافِعيِّ).
وعَنِ الفَضلِ بنِ زيادٍ القَطَّانِ، قال: قال أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ: (هذا الذى تَرَونَه أو عامَّتَه مِنِّي هو عَنِ الشَّافِعيِّ، وماتَ مُنذُ كَذا كَذا سَنةً، وأنا أدعو اللَّهَ للشَّافِعيِّ وأستَغفِرُ له) [931] ((الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء)) لابن عبد البر (ص: 76). .
4- قال أبو عَليٍّ الصَّدَفيُّ: (قَرَأتُ على رِزقِ اللهِ التَّميميِّ برِوايةِ قالونَ خَتمةً، وكان كَبيرَ بَغدادَ وجَليلَها... وسَمِعتُه يَقولُ: يَقبُحُ بكُم أن تَستَفيدوا مِنَّا، ثُمَّ تَذكُرونا فلا تَتَرَحَّموا علينا!) [932] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (18/ 613). .

انظر أيضا: