موسوعة الآداب الشرعية

تَمهيدٌ في مشروعيَّةِ المزاحِ إذا خلا مِن المحظورِ


المُزاحُ المنضبطُ مِن أسبابِ التَّخفيفِ عن النَّفسِ وتنشيطِها، وإبعادِ المَلالةِ والسَّأمِ عنها، به تزيدُ المحبَّةُ بَيْنَ الإخوانِ والأصدِقاءِ، وتحصلُ المؤانسةُ، ويدخلُ السُّرورُ، وتتحققُ الألفةُ، وتُستمالُ القلوبُ.
والمُزاحُ إذا خَلا مِنَ المَحظورِ فهو سُنَّةٌ؛ فقد كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمزَحُ ولا يَقولُ إلَّا حَقًّا، وكان أصحابُه رِضوانُ اللَّهِ عليهم يَمزَحونَ.
فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّك تُداعِبُنا، قال: إنِّي لا أقولُ إلَّا حَقًّا)) [1022] أخرجه الترمذي (1990) واللَّفظُ له، وأحمد (8723). قال الترمذي: حسن صحيح، وحسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (6/547)، وجَوَّد إسنادَه ابنُ الملقن في ((شرح البخاري)) (24/607)، وحسَّنه الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (9/20)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8723). وذهب إلى تصحيحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1990). .
وعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَجُلًا استَحمَل رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنِّي حامِلُك على وَلَدِ النَّاقةِ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ما أصنَعُ بوَلَدِ النَّاقةِ؟! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وهل تَلِدُ الإبِلَ إلَّا النُّوقُ؟!)) [1023] أخرجه أبو داود (4998)، والترمذي (1991) واللفظ له، وأحمد (13817). صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4998)، وصَحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (13817)، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((رُبَّما قال لي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا ذا الأُذُنَينِ [1024] قال الخَطَّابيُّ: (كان مَزحُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَزحًا لا يَدخُلُه الكَذِبُ والتَّزَيُّدُ، وكُلُّ إنسانٍ له أُذُنانِ، فهو صادِقٌ في وصفِه إيَّاه بذلك. وقد يَحتَمِلُ وجهًا آخَرَ، وهو أن لا يَكونَ قَصَد بهذا القَولِ المُزاح، وإنَّما مَعناه الحَضُّ والتَّنبيهُ على حُسنِ الاستِماعِ والتَّلقُّفِ لِما يَقولُه ويُعَلِّمُه إيَّاه، وسَمَّاه ذا الأُذُنَينِ؛ إذ كان الاستِماعُ إنَّما يَكونُ بحاسَّةِ الأُذُنِ، وقد خَلقَ اللهُ تعالى له أُذُنَينِ يَسمَعُ بكُلِّ واحِدةٍ مِنهما، وجَعَلهما حُجَّةً عليه، فلا يُعذَرُ مَعَهما إن أغفل الاستِماعَ له ولم يُحسِنِ الوعيَ له. واللَّهُ أعلمُ). ((معالم السنن)) (4/ 135). ). يَعني: يُمازِحُه [1025] أخرجه أبو داود (5002)، والترمذي (1992) واللفظ له، وأحمد (12164). صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5002)، وقال الترمذي: حسنٌ غريبٌ صحيحٌ، وحَسَّنه ابنُ القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/822)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5002). .
وعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((إن كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُخالِطُنا، حتَّى يَقولَ لأخٍ لي صَغيرٍ: يا أبا عُمَير، ما فَعَل النُّغَير؟)) [1026] أخرجه البخاري (6129). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (فيه ما يَدُلُّ على جَوازِ المُزاحِ مَعَ الصَّغيرِ، لكِن إذا قال حَقًّا. وفيه ما يَدُلُّ على حُسنِ خُلُقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولطافةِ مُعاشَرَتِه) [1027] ((المفهم)) (5/ 472). .
قال ابنُ حَجَر: (فيه جوازُ الممازَحةِ، وتكريرُ المَزْحِ، وأنَّها إباحةُ سُنَّةٍ لا رُخصةٍ، وأنَّ مُمازحةَ الصَّبيِّ الذي لم يُمَيِّزْ جائزةٌ، وتكريرُ زيارةِ الممزوحِ معه، وفيه تَركُ التَّكبُّرِ والتَّرفُّعِ، والفَرقُ بَينَ كونِ الكبيرِ في الطَّريقِ فيتواقَرُ، أو في البَيتِ فيَمزَحُ) [1028] ((فتح الباري)) (10/ 584). .
وعن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قدِمتُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبَينَ يَدَيه خُبزٌ وتَمرٌ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ادنُ فكُلْ، فأخَذتُ آكُلُ مِنَ التَّمرِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَأكُلُ تَمرًا وبك رَمَدٌ؟! قال: فقُلتُ: إنِّي أمضُغُ مِن ناحيةٍ أُخرى! فتَبَسَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [1029] أخرجه ابن ماجه (3443) واللَّفظُ له، والحاكِمُ (5819). حسَّنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3443)، وصحَّح إسناده الحاكم، والبوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/51)، وجَوَّده الزيلعي في ((تخريج الكشاف)) (3/14)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/26). .
وعن عَوفِ بنِ مالِكٍ الأشجَعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ تَبوكَ وهو في قُبَّةٍ من أدَمٍ، فسلَّمتُ، فرَدَّ وقال: ادخُلْ، فقُلتُ: أكُلِّي يا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قال: كُلُّك! فدخَلْتُ)) [1030] أخرجه أبو داود (5000) واللفظ له، وابن ماجه (4042)، وأحمد (23996) مطوَّلًا. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6675)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (104)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5000)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5000). .
وقال الثَّعالبيُّ: (كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمزَحُ ولا يَقولُ إلَّا حَقًّا، وكان العَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عنه يَقولُ: مَزَحَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فصارَ المَزحُ سُنَّةً.
وقيل لسُفيانَ بنِ عُيَينةَ: المُزاحُ هُجنةٌ؟ فقال: بَل سُنَّةٌ، ولكِنَّ الشَّأنَ فيمَن يُحسِنُه ويَضَعُه مَواضِعَه.
وكان عليٌّ رَضِيَ اللهُ عنه فيه دُعابةٌ.
وكان يُقالُ: المَزحُ في الكَلامِ كالمِلحِ في الطَّعامِ. وقد نَظَمَه أبو الفَتحِ البُسْتيُّ، فقال:
أفِدْ طَبعَك المَكدودَ [1031] المكدودُ: المُثقَلُ المجهودُ المُتعَبُ المغلوبُ. يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/ 114)، ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (6/ 646)، ((الفائق في غريب الحديث)) للزمخشري (3/ 96). بالهَمِّ راحةً
قَليلًا وعَلِّلْه بشَيءٍ مِنَ المَزحِ
ولكِنْ إذا أعطَيتَه المَزحَ فليَكُنْ
بمِقدارِ ما تُعطي الطَّعامَ مِنَ المِلحِ
ويُقالُ: الإفراطُ في المَزحِ مُجونٌ، والاقتِصادُ فيه ظَرافةٌ، والتَّقصيرُ فيه نَدامةٌ) [1032] ((اللطائف والظرائف)) (ص: 151). ويُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (13/ 184). .
وفيما يلي بيانُ أهمِّ آدابِ المزاحِ:

انظر أيضا: