فوائِدُ ومَسائِلُ
فضلُ مجالسِ الذِّكْرِعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((إنَّ للهِ تَبارَكَ وتعالى مَلائِكةً سَيَّارةً فُضُلًا يَتَتَبَّعونَ مَجالِسَ الذِّكرِ، فإذا وجَدوا مَجلِسًا فيه ذِكرٌ قَعَدوا مَعَهم، وحَفَّ بَعضُهم بَعضًا بأجنِحَتِهم، حتَّى يَملُؤوا ما بَينَهم وبَينَ السَّماءِ الدُّنيا، فإذا تَفرَّقوا عَرَجوا وصَعَدوا إلى السَّماءِ، قال: فيَسألُهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وهو أعلمُ بهم: من أينَ جِئتُم؟ فيَقولونَ: جِئْنا مِن عِندِ عِبادٍ لك في الأرضِ، يُسَبِّحونك ويُكَبِّرونَك ويُهَلِّلونك ويَحمَدونَك ويَسألونَك، قال: وماذا يَسألوني؟ قالوا: يَسألونَك جَنَّتَك، قال: وهل رَأوا جَنَّتي؟ قالوا: لا، أيْ رَبِّ، قال: فكَيف لو رَأوا جَنَّتي؟ قالوا: ويَستَجيرونَك، قال: ومِمَّ يَستَجيرونَني؟ قالوا: مِن نارِك يا رَبِّ، قال: وهل رَأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رَأوا ناري؟ قالوا: ويَستَغفِرونَك، قال: فيَقولُ: قد غَفَرتُ لهم فأعطَيتُهم ما سَألوا، وأجَرتُهم مِمَّا استَجاروا، قال: فيَقولونَ: رَبِّ، فيهم فُلانٌ عَبدٌ خَطَّاءٌ، إنَّما مَرَّ فجَلسَ مَعَهم! قال: فيَقولُ: وله غَفرتُ؛ همُ القَومُ لا يَشقى بهم جَليسُهم)) [1116] أخرجه البخاري (6408)، ومسلم (2689) واللَّفظُ له. .
جملةٌ مِن آدابِ المجالسِقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (قال أبو البختريِّ: كانوا يَكرَهونَ أن يَقومَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ مِن مَجلسِه، ولكِنْ ليُوسِّعْ له.
وحَدَّثَ الحَسَنُ البَصريُّ: أنَّ رَجُلًا تَناوَل عن رَأسِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ شَيئًا، فتَركه مَرَّتَينِ، ثُمَّ تَناوَل الثَّالثةَ، فأخَذَ عُمَرُ بيَدِه، فقال: أرِني ما أخَذتَ؟ وإذا هو لم يَأخُذْ شَيئًا! فقال: انظُروا إلى هذا، قد صَنَعَ هذا ثَلاثَ مَرَّاتٍ يُريني أنَّه يَأخُذُ مِن رَأسي شَيئًا ولا يَأخُذُه! فإذا أخَذَ أحَدُكُم مِن رَأسِ أخيه شَيئًا فليُرِه إيَّاه.
قال الحَسَنُ: نَهاهم أميرُ المُؤمِنينَ عنِ المَلَقِ
[1117] المَلَقُ: التَّمَلُّقُ، والزِّيادةُ في التَّوَدُّدِ والدُّعاءِ والتَّضَرُّعِ فوقَ ما ينبغي. والمَلَقُ أيضًا: أن يُنتزَعَ الشَّيءُ من مَوضِعِه انتزاعًا سَهلًا. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (4/ 454)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (9/ 149)، ((النهاية)) لابن الأثير (4/ 358). .
وقال الحَسَنُ: لو أنَّ إنسانًا أخَذَ مِن رَأسي شَيئًا، قُلتُ: صَرَف اللهُ عنك السُّوءَ.
وكان مُحَمَّدُ بنُ سِيرينَ: إذا أخَذَ أحَدٌ مِن لحيَتِه أو رَأسِه شَيئًا، قال: لا عَدِمت نافِعًا.
ورويَ عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أنَّه قال: إذا أخَذَ أحَدٌ عنك شَيئًا، فقُلْ: أخَذتَ بيَدِك خَيرًا.
وقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: حَسبُ المَرءِ مِنَ العِيِّ أن يُؤذيَ جَليسَه بما لا يَعنيه، وأن يَجِدَ على النَّاسِ فيما تَأتيه، وأن يَظهَرَ له مِنَ النَّاسِ ما يَخفى عليه مِن نَفسِه
[1118] في ((عيون الأخبار)) لابن قُتيبة (3/ 13): (عن مُجاهدٍ قال: ثَلاثٌ يُصفينَ لك وُدَّ أخيك: أن تَبدَأه بالسَّلامِ إذا لقيتَه، وتوسِّعَ له في المَجلسِ، وتَدعوَه بأحَبِّ أسمائِه إليه. وثَلاثٌ مِنَ العِيِّ: أن تَعيبَ على النَّاسِ ما تَأتي، وأن تَرى مِنَ النَّاسِ ما يَخفى عليك مِن نَفسِك، وأن تُؤذيَ جَليسَك فيما لا يَعنيك. وكان يُقالُ: لا يكُنْ حُبُّك كَلَفًا، ولا بُغضُك تَلَفًا. أي: لا تُسرِفْ في حُبِّك وبُغضِك. ونَحوُه قَولُ الحَسَنِ: أحِبُّوا هَونًا؛ فإنَّ أقوامًا أفرَطوا في حُبِّ قَومٍ فهَلكوا. وكان يُقالُ: مَن وجَدَ دونَ أخيه سِترًا فلا يَهتِكْه). .
وعن عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنه قال: إنَّ مِمَّا يُصفي وِدادَ أخيك: أن تَبدَأَه بالسَّلامِ إذا لقيتَه، وأن تَدعوَه بأحَبِّ الأسماءِ إليه، وأن تُوَسِّعَ له في المَجلِسِ.
قال أبو أيُّوبُ الأنصاريُّ: مَن أرادَ أن يَكثُرَ عِلمُه فليُجالِسْ غَيرَ عَشيرَتِه.
رَوى سُفيانُ بنُ عُيَينةَ، عن مالِكِ بنِ مَعنٍ، قال: قال عيسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: جالِسوا مَن تُذَكِّرُكم باللهِ رُؤيتُه، ويَزيدُ في عِلمِكُم مَنطِقُه، ويُرَغِّبُكُم في الآخِرةِ عَمَلُه.
قال المَدائِنيُّ: أوصى يَحيى بنُ خالدٍ ابنَه، فقال: يا بُنَيَّ، إذا حَدَّثَك جَليسُك حَديثًا فأقبِلْ عليه وأصغِ إليه، ولا تَقُلْ: قد سَمِعتُه، وإن كُنتَ أحفَظَ له، وكأنَّك لم تَسمَعْه إلَّا مِنه؛ فإنَّ ذلك يَكسِبُك المَحَبَّةَ والمَيلَ إليك.
وعن عَبدِ المَلِكِ بنِ عُمَيرٍ، قال: قال سَعيدُ بنُ العاصِ: لجَليسي عليَّ ثَلاثُ خِصالٍ: إذا دَنا رَحَّبتُ به، وإذا جَلسَ وسَّعتُ له، وإذا حَدَّثَ أقبَلتُ عليه.
وذَكَرَ ابنُ مِقسَمٍ، قال: سَمِعتُ المُبرِّدَ يَقولُ: الاستِماعُ بالعَينِ، فإذا رَأيتَ عينَ مَن تُحَدِّثُه ناظِرةً إليك فاعلَمْ أنَّه يُحسِنُ الاستِماعَ. وقد رُوِّينا هذا القَولَ عن سَهلِ بنِ عُبادةَ.
قال ابنُ وَهبٍ: سَمِعتُ مالكًا يَقولُ: إذا كان الرَّجُلُ عِندَ رَجُلٍ جالسًا، فجاءَه طالبُ حاجةٍ، فسَكَتَ عن عَونِه، فقد أعانَ عليه.
قال عَمرُو بنُ العاصِ: لا أمَلُّ جليسي ما فَهِمَ عنِّي، وإنَّما المَلالُ لدَناءةِ الرِّجالِ.
قال الشَّعبيُّ في قَومٍ ذَكَرَهم: ما رَأيتُ مِثلَهم أشَدَّ تَنابُذًا في مَجلِسٍ، ولا أحسَنَ فَهمًا مِن مُحَدِّثٍ.
رَوى الأصمَعيُّ عنِ العَلاءِ بنِ جَريرٍ عن أبيه، قال: قال الأحنَفُ بنُ قَيسٍ: لو جَلسَ إليَّ مِائةٌ لأحبَبتُ أن ألتَمِسَ رِضا كُلِّ واحِدٍ مِنهم.
وقال عَبدُ اللَّهِ بنُ عبَّاسٍ: أعَزُّ النَّاسِ عليَّ جَليسي الذي يَتَخَطَّى النَّاسَ إليَّ، أما واللَّهِ إنَّ الذُّبابَ يَقَعُ عليه فيَشُقُّ علَيَّ.
وعنه أيضًا رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سُئِل: مَن أكرَمُ النَّاسِ عليك؟ قال: جَليسي حتَّى يُفارِقَني.
قال مُعاويةُ لعَرابةَ الأوسيِّ: بأيِّ شَيءٍ استَحقَقتَ أن يَقولَ فيك الشَّمَّاخُ:
رَأيتُ عَرابةَ الأوسيَّ يَسمو
إلى الخَيراتِ مُنقَطِعَ القَرينِ
إذا ما رايةٌ رُفِعَت لمَجدٍ
تَلقَّاها عَرابةُ باليَمينِ
فقال عَرابةُ: سَماعُ هذا مِن غَيري أَولى بك وبي يا أميرَ المُؤمِنينَ! فقال: عَزَمتُ عليك لتُخبِرَنِّي. فقال: بإكرامي جَليسي، ومحاماتي على صَديقي.
فقال مُعاويةُ: لقدِ استَحقَقتَ.
قال عليُّ بنُ الحُسَينِ: ما جَلسَ إليَّ أحَدٌ قَطُّ إلَّا عَرَفتُ له فَضلَه حتَّى يَقومَ.
قال أبو عُبادةَ: ما جَلسَ رَجُلٌ بَينَ يَديَّ إلَّا مُثِّل لي أنِّي جالسٌ بَينَ يَدَيه.
رويَ عن عبدِ اللهِ بنِ يَزيدَ، وقد رُوِيَ ذلك لأبي حازِمٍ، أنَّه قال: وطِّنْ نَفسَك على الجَليسِ السُّوءِ؛ فإنَّه لا يَكادُ يُخطِئُك. وقد رُويَ ذلك عنِ الأحنَفِ، واللَّهُ أعلمُ.
قال بَعضُ الحُكَماءِ: رَجُلانِ ظالِمانِ يَأخُذانِ غَيرَ حَقِّهما: رَجُلٌ وُسِّعَ له في مَجلسٍ ضَيِّقٍ فتَرَبَّع وتَفتَّح، ورجلٌ أُهدِيَت إليه نَصيحةٌ فجَعَلها ذَنبًا!
وقال مِسعَرُ بنُ كِدامٍ: رَحِمَ اللهُ مَن أهدى إليَّ عُيوبي في سَترٍ بَيني وبَينَه؛ فإنَّ النَّصيحةَ في المَلأِ تَقريعٌ.
قال الأحنَفُ: لأن أُدعى مِن بُعدٍ أحَبُّ إليَّ مِن أن أُقصى عن قُربٍ.
وعنِ الأحنَفِ أيضًا أنَّه قال: ما جَلستُ مَجلِسًا قَطُّ أخافُ أن أُقامَ منه لغَيري.
وقال البَعيثُ بنُ حُرَيثٍ:
وإنَّ مَكاني في النَّديِّ ومَجلسي
له المَوضِعُ الأقصى إذا لم أُقَرَّبِ
ولستُ وإن قُرِّبتُ يَومًا ببائِعٍ
خَلاقي ولا ديني ابتِغاءَ التَّحَبُّبِ
ويَعتَدُّه قَومٌ كَثيرٌ تِجارةً
ويَمنَعُني مِن ذاكَ ديني ومَنصِبي
جَلسَ رَجُلٌ إلى الحَسَنِ بنِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، فقال: جَلستَ إلينا على حينِ قيامٍ، أفتَأذَنُ؟!
كان يُقالُ: إيَّاكَ وكُلَّ جَليسٍ لا تُصيبُ مِنه خَيرًا.
وعن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ، أنَّه قال: إيَّاكَ وكُلَّ جَليسٍ لا يُفيدُك عِلمًا.
كان يُقالُ: مَن سَرَّه أن يَعظُمَ حِلمُه، ويَنفَعَه عِلمُه، فليُقِلَّ مِن مُجالسَتِه مَن كان بَينَ ظَهرانَيه.
وقال الحَسَنُ البَصريُّ: انتَقوا الإخوانَ، والأصحابَ، والمَجالِسَ.
ورَوى هشامُ بنُ عُروةَ، عن مُحَمَّدِ بنِ المُنكَدِرِ، قال: كان يُقالُ: خيارُكُم أليَنُكُم مَناكِبَ في الصَّلاةِ، ورُكنًا في المَجالِسِ، الموطَّؤونَ أكنافًا، الذينَ يَألَفونَ ويُؤلَفونَ.
تَباعَد كَعبُ الأحبارِ يَومًا في مَجلِسِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فأنكَرَ ذلك عليه، فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ في حِكمةِ لُقمانَ ووصيَّتِه لابنِه: إذا جَلستَ إلى ذي سُلطانٍ فليَكُنْ بَينَك وبَينَه مَقعَدُ رَجُلٍ؛ فلعَلَّه يَأتيه مَن هو آثَرُ عِندَه مِنك فيُنَحِّيك فيَكونُ نَقصًا عليك.
وكان يُقالُ: الجَليسُ الصَّالحُ خَيرٌ مِنَ الوَحدةِ، والوَحدةُ خَيرٌ مِنَ الجَليسِ السُّوءِ.
قال زيادٌ: إنَّه ليُعجِبُني مِنَ الرِّجالِ مَن إذا أتى مَجلسًا أن يَعرِفَ أينَ يَكونُ مَجلِسُه، وإنِّي لآتي المَجلِسَ فأدَعُ ما لي مَخافةَ أن أُدفَعَ عَمَّا ليسَ لي.
وكان الأحنَفُ إذا أتاه رَجُلٌ أوسَعُ له، فإن لم يَكُنْ له سَعةٌ أراه كأنَّه يوسِّعُ له.
طَرَحَ أبو قِلابةَ لجَليسٍ له وِسادةً، فرَدَّها، فقال له: أمَّا سَمِعتَ الحَديثَ: لا تَرُدَّنَّ على أخيك كرامَتَه؟!
قال ابنُ شُبرُمةَ لابنِه: يا بُنَيَّ، إيَّاكَ وطولَ المُجالَسةِ، فإنَّ الأُسْدَ إنَّما يَجتَرِئُ عليها مَن أدامَ النَّظَرَ إليها.
وهذا عِندي مَأخوذٌ مِن قَولِ أردَشيرَ لابنِه: يا بُنَيَّ، لا تُمَكِّنِ النَّاسَ مِن نَفسِك؛ فإنَّ أجرَأَ النَّاسِ على السِّباعِ أكثَرُهم لها مُعايَنةً.
ومِن هذا -واللَّهُ أعلمُ- أخَذَ ابنُ المُعتَزِّ قَولَه:
رَأيتُ حَياةَ المَرءِ تُرخِصُ قَدْرَه
فإن ماتَ أغلَتْه المَنايا الطَّوائِحُ
كَما يُخلِقُ الثَّوبَ الجَديدَ ابتِذالُه
كَذا تُخلِقُ المَرءَ العُيونُ اللَّوامِحُ
ومِن سوءِ الأدَبِ في المُجالسةِ: أن تَقطَعَ على جَليسِك حَديثَه، أو تَبدُرَه إلى تَمامِ ما ابتَدَأ به خَبَرًا كان أو شِعرًا، تُتِمُّ له البَيتَ الذي بَدَأ به، وتُريه أنَّك أحفَظُ مِنه. فهذا غايةٌ في سوءِ المُجالَسةِ، بَل يَجِبُ أن تُصغيَ إليه كأنَّك لم تَسمَعْه قَطُّ إلَّا منه.
قيل لداودَ الطَّائيِّ: لمَ تَرَكتَ مُجالسةَ النَّاسِ؟ قال: ما بَقيَ إلَّا كَبيرٌ يَتَحَفَّظُ عليك، أو صَغيرٌ لا يوقِّرُك.
وقال عَبدُ الرَّحمنِ بنُ أبي ليلى: لا تُجالِسْ عَدُوَّك؛ فإنَّه يَحفظُ عليك سَقَطاتِك، ويُماريك في صَوابِك.
كان يُقالُ: رَأسُ التَّواضُعِ الرِّضا بالدُّونِ مِنَ المَجلِسِ. وهذا يُروى عن ابنِ مَسعودٍ أنَّه قال: إنَّ مِنَ التَّواضُعِ أن تَرضى بالدُّونِ مِنَ المَجلِسِ، وأن تَبدَأَ بالسَّلامِ مَن لَقِيتَ.
قال إبراهيمُ النَّخَعيُّ: إنَّ الرَّجُلَ ليَجلِسُ مَعَ القَومِ فيَتَكَلَّمُ بالكَلامِ يُريدُ اللَّهَ به، فتُصيبُه الرَّحمةُ فتَعُمُّ مَن حَولَه، وإنَّ الرَّجُلَ يَجلِسُ مَعَ القَومِ فيَتَكَلَّمُ بالكَلامِ يُسخِطُ اللَّهَ به، فتُصيبُه السُّخطةُ فتَعُمُّ مَن حَولَه)
[1119] ((بهجة المجالس)) (1/ 40-50). .
وقال عبد الفتاح أبو غدة: (... وإذا كُنتَ صَغيرَ القَومِ في المَجلسِ فلا تَتَكَلَّمْ إلَّا إجابةً عن سُؤالٍ يوجَّهُ إليك مِن أحَدِ الجالِسينَ، أو إلَّا إذا عَلِمتَ أنَّ حَديثَك وكَلامَك سَيَقَعُ مِنهم في مَوقِعِه، ويَسُرُّهم ويُرضيهم، ولا تُسهِبْ في الحَديثِ، ولا تَغفُلْ عن أدَبِ المَقامِ في هَيئةِ جُلوسِك وأُسلوبِ كَلامِك وخِطابِك.
وإذا دَخَلتَ مَجلسًا فلا تَجلِسْ بَينَ جَليسَينِ، ولكِن خُذْ ناحيَتَهما يَمينًا أو يَسارًا؛ فقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا يُجلَس بَينَ رَجُلينِ إلَّا بإذنِهما)) [1120] أخرجه أبو داود (4844) واللَّفظُ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (3652)، والبيهقي (6104) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رضِيَ اللهُ عنهما. حَسَّنه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4844)، وحَسَّن إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4844). ورُويَ بلفظ: ((لا يَحِلُّ للرَّجُلِ أن يُفرِّقَ بَينَ اثنَينِ إلَّا بإذنِهما)). أخرجه أبو داود (4845)، والترمذي (2752) واللَّفظُ له، وأحمد (6999). قال الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2752): حسن صحيح، وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (6999)، وحسنه ابن باز في ((الفوائد العلمية)) (6/29)، شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4845). .
ويُستَحَبُّ لمَن جَلسَ بَينَ اثنَينِ إذا فسَحا له وأكرَماه بذلك أن يَجمَعَ نَفسَه ولا يَتَرَبَّعَ.
قال ابنُ الأعرابيِّ: قال بَعضُ الحُكَماءِ: اثنانِ ظالِمانِ: رَجُلٌ أُهدِيَت له نَصيحةٌ فاتَّخَذَها ذَنبًا! ورَجُلٌ وُسِّعَ له في مَكانٍ ضَيِّقٍ فقَعَدَ مُتَرَبِّعًا.
وإذا جَلستَ إليهما فلا تُلقِ بسَمعِك إلى حَديثِهما، إلَّا إذا كان غَيرَ سِرٍّ ولا خاصٍّ بهما؛ فإنَّ تَطَلُّعَك إلى ذلك عَيبٌ في أخلاقِك، وسَيِّئةٌ تَرتَكِبُها، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَنِ استَمَعَ إلى حَديثِ قَومٍ وهم له كارِهونَ صُبَّ في أُذُنَيه الآنُكُ يَومَ القيامةِ)) [1121] أخرجه البخاري (7042) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظ: ((ومَنِ استَمَعَ إلى حَديثِ قَومٍ وهم له كارِهونَ، أو يَفِرُّونَ مِنه، صُبَّ في أُذُنِه الآنُكُ يَومَ القيامةِ)). ، أي: الرَّصاصُ المُذابُ.
واعلَمْ أنَّه لا يَسوغُ لك أن تُسارَّ جَليسَك بحَديثٍ إذا كُنتُم ثَلاثةً
[1122] عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ قال: ((كُنتُ أنا وعَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ عِندَ دارِ خالدِ بنِ عُقبةَ التي بالسُّوقِ، فجاءَ رَجُلٌ يُريدُ أن يُناجيَه، وليسَ مَعَ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ أحَدٌ غَيري وغَيرُ الرَّجُلِ الذي يُريدُ أن يُناجيَه، فدَعا عَبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رجُلًا حتَّى كُنَّا أربَعةً، فقال لي وللرَّجُلِ الذي دَعاه: استَأخِرا شَيئًا؛ فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: لا يَتَناجى اثنانِ دونَ واحِدٍ)). أخرجه أحمد (5501)، ومالك (2/988) واللَّفظُ له. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (582)، وصَحَّحَ إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (5501). وفي رِوايةٍ: ((إذا كان ثَلاثةٌ فلا يَتَناجى اثنانِ دونَ واحِدٍ)). أخرجها مسلم (2183). وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا كُنتُم ثَلاثةً، فلا يَتَناجى اثنانِ دونَ صاحِبهما؛ فإنَّ ذلك يَحزُنُه)). أخرجه البخاري (6290)، ومسلم (2184) واللَّفظُ له. ؛ فإنَّك بهذا توقِعُ على ثالثِكُما إيحاشًا
[1123] قال ابنُ عَقيلٍ الحَنبَليُّ: (يَحرُمُ أن يَتَناجى اثنانِ دونَ ثالثٍ؛ لأنَّه يوجِبُ إيحاشًا، وكَسرَ القَلبِ). ((فصول الآداب)) (ص: 46). وانقِطاعًا عنكُما، فتَمُرُّ بذِهنِه الخَواطِرُ البَعيدةُ والقَريبةُ، وهذا غَيرُ لائِقٍ بالمُسلِمينَ)
[1124] ((من أدب الإسلام)) (ص: 29). .
وقال أيضًا: (ومِن أدَبِ المُجالَسةِ أنَّك إذا حادَثتَ ضَيفَك أو أحَدًا مِنَ النَّاسِ، فليَكُنْ صَوتُك لطيفًا خَفيضًا، وليَكُنْ جَهرُك بالكَلامِ على قَدرِ الحاجةِ؛ فإنَّ الجَهرَ الزَّائِدَ عنِ الحاجةِ يُخِلُّ بأدَبِ المُتَحَدِّثِ، ويَدُلُّ على قِلَّةِ الاحتِرامِ للمُتَحَدَّثِ إليه.
وهذا الأدَبُ تَنبَغي مُراعاتُه مَعَ الصَّديقِ والمَثيلِ، ومَعَ مَن تَعرِفُه ومَن لا تَعرِفُه، ومَعَ الأصغَرِ مِنك والأكبَرِ، وتَزدادُ مُراعاتُه تَأكيدًا مَعَ الوالِدَينِ أو مَن في مَقامِهما، ومَعَ مَن تُعَظِّمُه مِنَ النَّاسِ الأفاضِلِ والأكابِرِ.
ومِن أدَبِ المُجالَسةِ أيضًا: أنَّك إذا حَدَّثَك جَليسُك بحَديثٍ ظَنَّك لم تَعرِفْه -وكُنتَ تَعرِفُه-، فلا تُخجِلْه بإظهارِ مَعرِفتِك له، ولا تُداخِلْه فيه، وأبْدِ له اهتِمامَك وإصغاءَك.
قال عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ: إنَّ الشَّابَّ ليُحَدِّثُني بحَديثٍ فأستَمِعُ له كَأنِّي لم أسمَعْه، ولقد سَمِعتُه قَبلَ أن يولَدَ!
وقال خالِدُ بنُ صَفوانَ التَّميميُّ جَليسُ الخَليفةِ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزيزِ وهِشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ: إذا رَأيتَ مُحَدِّثًا يُحَدِّثُ حَديثًا قد سَمِعتَه، أو يُخبرُ بخَبَرٍ قد عَلِمتَه، فلا تُشارِكْه فيه؛ حِرصًا على أن يَعلمَ مَن حَضَرَك أنَّك قد عَلِمتَه؛ فإنَّ ذلك خِفَّةٌ مِنك، وسوءُ أدَبٍ
[1125] رواه الخطيب البغدادي في ((الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)) (1/ 200). ثُمَّ رَوى الخَطيبُ عن إبراهيمَ بنِ الجُنَيدِ، قال: كان بَعضُ الحُكَماءِ يَقولُ: إنَّ مِنَ الأدَبِ أن لا يُشارِكَ الرَّجُلُ غَيرَه في حَديثِه، وإن كان أعلمَ به منه، وأنشَدَ: ولا تُشارِكْ في الحَديثِ أهلَه وإن عَرَفتَ فَرعَه وأصلَه .
وقال عَبدُ اللَّهِ بنُ وَهبٍ القُرَشيُّ المِصريُّ: إنِّي لأسمَعُ مِنَ الرَّجُلِ الحَديثَ قد سَمِعتُه قَبلَ أن يَجتَمِعَ أبَواه -يَعني: قَبلَ وِلادَتِه ووُجودِه- فأُنصِتُ له كَأنِّي لم أسمَعْه.
وقال إبراهيمُ بنُ الجُنَيدِ: قال حَكيمٌ لابنِه: تَعلَّمْ حُسنَ الاستِماعِ كَما تَتَعَلَّمُ حُسنَ الكَلامِ؛ فإنَّ حُسنَ الاستِماعِ إمهالُك للمُتَكَلِّمِ حتَّى يُفضيَ إليك بحَديثِه، وإقبالُك بالوَجهِ والنَّظَرِ عليه، وتَركُ المُشارَكةِ له في حَديثٍ أنتَ تَعرِفُه
[1126] رواه الخطيب البغدادي في ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 62، 63). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ في ((جامع بيان العلم وفضله)) (1/ 521): (قال الحُسَينُ بنُ عَليٍّ لابنِه: يا بُنَيَّ، إذا جالَستَ العُلَماءَ فكُنْ على أن تَسمَعَ أحرَصَ مِنك على أن تَقولَ، وتَعَلَّمْ حُسنَ الاستِماعِ كما تَتَعَلَّمُ حُسنَ الصَّمتِ، ولا تَقطَعْ على أحَدٍ حَديثًا وإن طالَ حَتَّى يُمسِكَ). ويُنظر: ((الأمالي)) للقالي (2/ 188). وقال ابنُ عَبدِ رَبِّه: (قالتِ الحُكَماءُ: رَأسُ الأدَبِ كُلِّه حُسنُ الفهمِ والتَّفهُّمِ، والإصغاءُ للمُتَكَلِّمِ. وذَكَرَ الشَّعبيُّ قَومًا فقال: ما رَأيتُ مِثلَهم أسَدَّ تَناوُبًا في مَجلِسٍ، ولا أحسَنَ فَهمًا مِن مُحَدِّثٍ. وقال الشَّعبيُّ فيما يَصِفُ به عَبدَ المَلِكِ بنَ مَروانَ: واللهِ ما عَلِمتُه إلَّا آخِذًا بثَلاثٍ، تارِكًا لثَلاثٍ: آخِذًا بحُسنِ الحَديثِ إذا حَدَّثَ، وبحُسنِ الاستِماعِ إذا حُدِّثَ، وبأيسَرِ المَؤونةِ إذا خُولِفَ؛ تارِكًا لمُجاوَبةِ اللَّئيمِ، ومُماراةِ السَّفيهِ، ومُنازَعةِ اللَّجوجِ. وقال بَعضُ الحُكَماءِ لابنِه: يا بُنَيَّ، تَعَلَّمْ حُسنَ الاستِماعِ كما تَتَعَلَّمُ حُسنَ الحَديثِ، وليَعلَمِ النَّاسُ أنَّك أحرَصُ على أن تَسمعَ مِنك على أن تَقولَ؛ فاحذَرْ أن تُسرِعَ في القَولِ فيما يَجِبُ عنه الرُّجوعُ بالفِعلِ، حتَّى يَعلمَ النَّاسُ أنَّك على فِعلِ ما لم تَقُلْ أقرَبُ مِنك إلى قَولِ ما لم تَفعَلْ. قالوا: مِن حُسنِ الأدَبِ ألَّا تُغالِبَ أحَدًا على كَلامِه، وإذا سُئِل غَيرُك فلا تُجِبْ عنه، وإذا حَدَّثَ بحَديثٍ فلا تُنازِعْه إيَّاه، ولا تَقتَحِمْ عليه فيه، ولا تُرِه أنَّك تَعلَمُه، وإذا كَلَّمتَ صاحِبَك فأخَذَته حُجَّتُك فحَسِّنْ مَخرَجَ ذلك عليه، ولا تُظهِرِ الظَّفَرَ به، وتَعَلَّمْ حُسنَ الاستِماعِ كَما تَعَلَّمُ حُسنَ الكَلامِ). ((العقد الفريد)) (2/ 264). .
ومِن أدَبِ المُجالَسةِ أيضًا: أنَّك إذا أشكَلَ عليك شَيءٌ من حديثِ مُحَدِّثِك، فاصبِرْ عليه حتَّى يَنتَهيَ مِنَ الحَديثِ، ثُمَّ استَفهِمْ منه بأدَبٍ ولُطفٍ وتَمهيدٍ حَسَنٍ للاستِفهامِ، ولا تَقطَعْ عليه كَلامَه أثناءَ الحَديثِ؛ فإنَّ ذلك يُخِلُّ بأدَبِ الاستِماعِ، ويُحَرِّكُ في النَّفسِ الكَراهةَ، إلَّا إذا كان المَجلِسُ مَجلِسَ دِراسةٍ وتَعَلُّمٍ؛ فإنَّ له حينَئِذٍ شَأنًا آخَرَ، ويَحسُنُ فيه السُّؤالُ والمُناقَشةُ عِندَ تَمامِ الجُملةِ أوِ المَعنى الذي يَشرَحُه المُعَلِّمُ، ويَنبَغي أن تَكونَ المُناقَشةُ فيه بأدَبٍ وكياسةٍ. قال الخَليفةُ المَأمونُ: العِلمُ على المُناقَشةِ أثبَتُ منه على المُتابَعةِ.
وقال الهَيثَمُ بنُ عَدِيٍّ: قالتِ الحُكَماءُ: مِنَ الأخلاقِ السَّيِّئةِ مُغالَبةُ الرَّجُلِ على كَلامِه، والاعتِراضُ فيه لقَطعِ حَديثِه
[1127] يُنظر: ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 171). .
ومِن أدَبِ المُجالَسةِ أيضًا: إذا سُئِل جَليسُك عن شَيءٍ ألَّا تُبادِرَ أنتَ إلى الإجابةِ عنه، بل يَنبَغي ألَّا تَقولَ فيه شَيئًا حتَّى تُسأَلَ عنه؛ فإنَّ ذلك أحفَظُ لأدَبِك، وأنبَلُ لشَخصِك، وأرفَعُ لحَديثِك ومَقامِك.
وعن مُجاهدِ بنِ جَبرٍ، قال: قال لُقمانُ لابنِه: إيَّاكَ إذا سُئِل غَيرُك أن تَكونَ أنتَ المُجيبَ، كأنَّك أصَبتَ غَنيمةً، أو ظَفِرتَ بعَطيَّةٍ؛ فإنَّك إن فعَلتَ ذلك أزرَيتَ بالمسؤولِ، وعنَّفتَ السَّائِلَ، ودَلَلتَ السُّفهاءَ على سَفاهةِ حِلمِك، وسوءِ أدَبِك
[1128] يُنظر: ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 171). .
قال ابنُ بَطَّةَ الحَنبَليُّ: كُنتُ عِندَ أبي عُمَرَ الزَّاهدِ -المُلقَّبُ: غُلامُ ثَعلَبٍ- فسُئِل عن مَسألةٍ، فبادَرتُ أنا فأجبتُ السَّائِلَ، فالتَفتَ إليَّ أبو عُمَرَ الزَّاهدُ، فقال لي: تَعرِفُ الفُضوليَّاتِ المُنتَقِباتِ؟! يَعني: أنتَ فُضوليٌّ! فأخجَلَني
[1129] يُنظر: ((الآداب الشرعية)) لابن مفلح (2/ 171). .)
[1130] يُنظر: ((من أدب الإسلام)) (ص: 60). .