موسوعة الآداب الشرعية

ثالثًا: الالتِزامُ بالأحكامِ الشَّرعيَّةِ للطَّلاقِ


مِن أدَبِ الطَّلاقِ: الالتِزامُ بالأحكامِ الشَّرعيَّة الخاصَّة به، كالطَّلاقِ تطليقةً واحِدةً، في طُهرٍ لم يُجامِعْ فيه، فإذا وقَعَ الطَّلاقُ في طُهرٍ لم يُجامِعْها فيه فهو طَلاقٌ موافِقٌ للسُّنَّةِ وإذا طلَّق الرَّجُلُ امرَأتَه في حالِ حَيضِها أو في طُهرٍ جامَعَها فيه: فهو طَلاقٌ مُحَرَّمٌ -ويُسَمِّيه الفُقَهاءُ: الطَّلاقَ البِدعيَّ-، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابلةِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/193،189)، ((منح الجليل)) لعليش (4/35)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/136) و (8/3)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/78). وحُكيَ فيه الإجماعُ: قال الجَصَّاصُ: (ما نَعلمُ أحَدًا أباحَ طَلاقَها في الطُّهرِ بَعدَ الجِماعِ إلَّا شَيئًا رَواه وكيعٌ عنِ الحَسَنِ بنِ صالحٍ عن بَيان عنِ الشَّعبيِّ، قال: إذا طَلَّقَها وهيَ طاهرٌ فقد طَلَّقَها للسُّنَّةِ، وإن كان قد جامَعَها. وهذا القَولُ خِلافُ السُّنَّةِ الثَّابتةِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وخِلافُ إجماعِ الأُمَّةِ). ((أحكام القرآن)) (5/347). وقال القاضي عَبدُ الوهَّابِ: (طَلاقُ الحائِضِ مُحَرَّمٌ بإجماعٍ). ((المعونة)) (ص: 834). وقال الماوَرديُّ: (طَلاقُ البدعةِ في حَيضٍ أو في طُهرٍ مُجامَعٍ فيه: فهو مَحظورٌ مُحَرَّمٌ بوِفاقٍ). ((الحاوي الكبير)) (10/115). وقال ابنُ حَزمٍ: (لا خِلافَ بَينَ أحَدٍ مِن أهلِ العِلمِ قاطِبةً -وفي جُملتِهم جَميعُ المُخالفينَ لنا في ذلك- في أنَّ الطَّلاقَ في الحَيضِ أو في طُهرٍ جامَعَها فيه: بدعةٌ نَهى عنها رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسُلَّم، مُخالِفةٌ لأمرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ). ((المحلى)) (9/377). وقال ابنُ رُشدٍ: (أجمعَ العُلماءُ على أنَّ المُطَلِّقَ للسُّنَّةِ في المَدخولِ بها: هو الذي يُطَلِّقُ امرَأتَه في طُهرٍ لم يَمَسَّها فيه طَلقةً واحِدةً، وأنَّ المُطَلِّقَ في الحَيضِ أوِ الطُّهرِ الذي مَسَّها فيه: غَيرُ مُطَلِّقٍ للسُّنَّةِ). ((بداية المجتهد)) (2/63). وقال ابنُ قُدامةَ: (أمَّا المَحظورُ فالطَّلاقُ في الحَيضِ، أو في طُهرٍ جامَعَها فيه، أجمَعَ العُلماءُ في جَميعِ الأمصارِ وكُلِّ الأعصارِ على تَحريمِه، ويُسَمَّى طَلاقَ البدعةِ؛ لأنَّ المُطَلِّقَ خالف السُّنَّةَ). ((المغني)) (7/364). وقال القُرطُبيُّ: (حَصَل الإجماعُ على أنَّ الطَّلاقَ في الحَيضِ مَمنوعٌ، وفي الطُّهرِ مَأذونٌ فيه). ((الجامع لأحكام القرآن)) (18/153). وقال النَّوويُّ: (أجمَعَتِ الأُمَّةُ على تَحريمِ طَلاقِ الحائِضِ الحائِلِ). ((شرح مسلم)) (10/60). وقال ابنُ تَيميَّةَ: (الطَّلاقُ في الحَيضِ مُحَرَّمٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ؛ فإنَّه لا يُعلمُ في تَحريمِه نِزاعٌ، وهو طَلاقُ بِدعةٍ). ((الفتاوى الكبرى)) (3/247). وقال أيضًا: (فإن طَلَّقَها وهيَ حائِضٌ، أو وطِئَها وطَلَّقَها بَعدَ الوطءِ قَبلَ أن يَتَبَيَّنَ حَمْلها؛ فهذا طَلاقٌ مُحَرَّمٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ المسلمينَ). ((مجموع الفتاوى)) (33/72). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والآثارِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ  الطَّلاق: 1.
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ قَولَه تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي: طَلِّقوهنَّ مُستقبِلاتٍ لعِدَّتِهنَّ، أي: في الوَقتِ الَّذي يَشرَعْنَ فيه في العِدَّةِ، والطَّلاقُ في الحَيضِ مَنهيٌّ عنه بإجماعٍ، وزَمَنُ الحَيضِ لا يُحسَبُ مِنَ العِدَّةِ، فإذا طَلَّقَ فيه لم يَقَعْ طَلاقُه في الحالِ الَّتي أمَرَ اللهُ بها، وهو استِقبالُ العِدَّةِ يُنظر: ((التسهيل)) لابن جزي (2/383)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/497). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّه طَلَّقَ امرأتَه وهي حائِضٌ، في عَهدِ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسأل عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، فقال له رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مُرْه فلْيُراجِعْها، ثمَّ لِيَترُكْها حتَّى تَطهُرَ، ثمَّ تحيضَ، ثمَّ تَطهُرَ، ثمَّ إن شاء أمسَكَ بَعدُ، وإن شاء طَلَّقَ قَبلَ أن يمَسَّ؛ فتلك العِدَّةُ التي أمَرَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أن يُطَلَّقَ لها النِّساءُ)) أخرجه البخاري (5251) واللفظ له، ومسلم (1471). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّ الطَّلاقَ في العِدَّةِ لا يكونُ إلَّا في طُهرٍ يُعتَدُّ به، ومَوضِعٍ يُحتَسَبُ به مِن عِدَّتِها؛ بأنْ تُطَلَّقَ في طُهرٍ لم يُجامِعْ فيه، ويَستقبِلَها مِن حينئذٍ، وكان هذا منه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- بيانًا لِقَولِه تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ يُنظر: ((شرح صحيح البخارى)) لابن بطال (7/383)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 266). .
ج- مِنَ الإجماعِ
نَقَل الإجماعَ على ذلك غَيرُ واحِدٍ مِن أهلِ العِلمِ مِنهم: ابنُ نَصرٍ المَروَزيُّ، وابنُ المُنذِرِ، وابنُ عَبدِ البَرِّ. قال ابنُ نَصرٍ المَروَزيُّ: (أجمع أهلُ العِلمِ على أنَّ الرَّجُلَ إذا أرادَ أن يُطَلِّقَ امرَأتَه للسُّنَّةِ، وهيَ مِمَّن تَحيضُ: أنَّه إن أمهَلها حتَّى تَطُهرَ مِن حَيضِها، ثُمَّ طَلَّقَها مِن قَبلِ أن يُجامِعَها واحِدةً، ثُمَّ تَرَكَها حتَّى تَنقَضيَ عِدَّتُها، ولم يُطَلِّقْها غَيرَ تلك التَّطليقةِ: أنَّه مُطَلِّقٌ للسُّنَّةِ). ((اختلاف الفقهاء)) (ص: 236). وقال ابنُ المُنذِرِ: (أجمع أهلُ العِلمِ على أنَّ مَن طَلَّقَ زَوجَتَه طَلقةً واحِدةً، وهيَ طاهرةٌ مِن حَيضةٍ لم يُطَلِّقْها فيها، ولم يَكُنْ جامَعَها في ذلك الطُّهرِ: أنَّه مُصيبٌ للسُّنَّةِ). ((الإشراف على مذاهب العلماء)) (5/184).  قال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (أجمَعَ العُلماءُ على أنَّ مَن طَلَّقَ امرَأتَه وهيَ طاهرٌ طُهرًا لم يَمَسَّها فيه بَعدَ أن طَهُرَت مِن حَيضَتِها طَلقةً واحِدةً، ثُمَّ تَرَكَها حتَّى تَنقَضيَ عِدَّتُها، أو راجَعَها مُراجَعةَ رَغبةٍ: أنَّه مُطَلِّقٌ للسُّنَّةِ، وأنَّه قد طَلَّقَ للعِدَّةِ التي أمَرَ اللهُ بها). ((التمهيد)) (15/69). .
د- مِنَ الآثارِ
عن ابنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، في قَولِه تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ الطلاق: 1، قال: (في الطُّهرِ مِن غيرِ جِماعٍ) أخرجه الطبري (23/23). صَحَّح إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (9/346). .
وأمَّا التَّعليلُ: فلأنَّ الطَّلاقَ في الحَيضِ فِيهِ تَضرُّرٌ للمَرأةِ بِطُولِ العِدَّةِ؛ فإنَّ بقيَّةَ الحَيضِ لا تُحسَبُ منها يُنظر: ((مغني المحتاج)) للشربيني (4/497). .
فائِدةٌ في طَلاقِ الحامِلِ:
يجوزُ أن يُطَلِّقَ الرَّجُلُ امرأتَه وهي حامِلٌ وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ: الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافِعيَّةِ، والحَنابِلةِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (2/193)، ((الكافي في فقه أهل المدينة)) لابن عبد البر (2/572)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (3/310)، ((الإنصاف)) للمرداوي (8/335). وحُكِيَ الإجماعُ على أنَّ طلاقَ الحامِلِ ليس ببِدعةٍ. قال ابنُ القَيِّمِ: (طلاقُ الحامِلِ ليس ببدعةٍ في زمَنِ الدَّمِ وغَيرِه، إجماعًا). ((زاد المعاد)) (5/650). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما: ((أنَّه طَلَّق امرأتَه وهي حائِضٌ، فذكَرَ ذلك عُمَرُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: مُرْه فلْيُراجِعْها، ثمَّ لِيُطَلِّقْها طاهِرًا أو حامِلًا)) أخرجه مسلم (1471). .

انظر أيضا: