ثانيًا: الرِّفقُ بالشَّيخِ والمُعَلِّمِ وعَدَمُ إملالِهما
مِنَ الأدَبِ مَعَ المُعَلِّمِ أوِ الشَّيخِ: الرِّفقُ به، وعَدَمُ إملالِه، ومُراعاةُ حالِه، واغتِنامُ أوقاتِ نَشاطِه وطِيبِ نَفسِه
[979] قال الخَطيبُ البَغداديُّ: (إن رَآه في هَمٍّ قد عَرَضَ له، أو أمرٍ يَحولُ بَينَه وبَينَ لُبِّه، ويَصُدُّه عَنِ استيفاءِ فِكرِه؛ أمسَكَ عنه، حَتَّى إذا زالَ ذلك العارِضُ، وعادَ إلى المَألوفِ مِن سُكونِ القَلبِ، وطِيبِ النَّفسِ، فحينَئِذٍ يَسألُه، وقد نَبَّهَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك... [فعَن] عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي بَكْرةَ، أنَّ أباه كَتَبَ إليه وهو على سِجِستانَ: أن لا تَقضِ بَينَ رَجُلَينِ وأنتَ غَضبانُ؛ فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: «لا يَقضِ رَجُلٌ بَينَ رَجُلَينِ أو بَينَ خَصمَينِ وهو غضبانُ»)). ((الفقيه والمتفقه)) (2/ 381، 382). أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ البُخاريِّ: عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي بَكْرةَ، قال: كَتَبَ أبو بَكْرةَ إلى ابنِه - وكان بسِجِسْتانَ- بأن لا تَقضيَ بَينَ اثنَينِ وأنتَ غَضبانُ؛ فإنِّي سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((لا يَقضينَّ حَكَمٌ بَينَ اثنَينِ وهو غَضبانُ)). وقال النَّوويُّ: (مِمَّا يَتَأكَّدُ الاعتِناءُ به ألَّا يَقرَأَ على الشَّيخِ في حالِ شغلِ قَلبِ الشَّيخِ ومَلَلِه واستِفزازِه، ورَوعِه وغَمِّه وفرَحِه، وعَطَشِه ونُعاسِه وقَلَقِه، ونَحوِ ذلك مِمَّا يَشُقُّ عليه أو يَمنَعُه مِن كَمالِ حُضورِ القَلبِ والنَّشاطِ، وأن يَغتَنِمَ أوقاتَ نَشاطِه... وإذا جاءَ إلى مَجلِسِ الشَّيخِ فلَم يَجِدْه انتَظَرَ ولازَمَ بابَه، ولا يُفَوِّتْ وظيفتَه إلَّا أن يَخافَ كَراهةَ الشَّيخِ لذلك، بأن يَعلَمَ مِن حالِه الإقراءَ في وَقتٍ بِعينِه، وأنَّه لا يُقرِئُ في غَيرِه، وإذا وجَدَ الشَّيخَ نائِمًا أو مُشتَغِلًا بمُهمٍّ لَم يَستَأذِنْ عليه، بَل يَصبرُ إلى استيقاظِه أو فراغِه، أو يَنصَرِفُ، والصَّبرُ أَولى، كما كان ابنُ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما وغَيرُه يَفعَلونَ). ((التبيان في آداب حملة القرآن)) (ص: 49، 50). وقال أيضًا: (ولا يَقرَأْ عليه عِندَ شغلِ قَلبِ الشَّيخِ ومَلَلِه، وغَمِّه ونُعاسِه واستيفازِه [أي: احتِفازِه واستِعجالِه وعَدَمِ تَمَكُّنِه واطمِئنانِه في جُلوسِه]، ونَحوِ ذلك مِمَّا يَشُقُّ عليه أو يَمنَعُه استيفاءَ الشَّرحِ، ولا يَسألْه عن شيءٍ في غَيرِ مَوضِعِه إلَّا أن يَعلَمَ مِن حالِه أنَّه لا يَكرَهُه، ولا يُلحَّ في السُّؤالِ إلحاحًا مُضجِرًا، ويَغتَنِمُ سُؤالَه عِندَ طِيبِ نَفسِه وفَراغِه، ويَتَلَطَّفُ في سُؤالِه، ويُحسِنُ خِطابَه، ولا يَستَحي مِنَ السُّؤالِ عَمَّا أشكَلَ عليه، بَل يَستَوضِحُه أكمَلَ استيضاحٍ؛ فمَن رَقَّ وَجهُه رَقَّ عِلمُه، ومَن رَقَّ وَجهُه عِندَ السُّؤالِ ظَهَرَ نَقصُه عِندَ اجتِماعِ الرِّجالِ...). ((المجموع)) (1/ 37). ويُنظر: ((أدب المفتي والمستفتي)) لابن الصلاح (ص: 169). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والآثارِ:أ- مِنَ السُّنَّةِ1- عن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((إنَّ الرِّفقَ لا يَكونُ في شَيءٍ إلَّا زانَه، ولا يُنزَعُ مِن شَيءٍ إلَّا شانَه)) [980] أخرجه مسلم (2594). .
2- عن جَريرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن يُحرَمِ الرِّفقَ يُحرَمِ الخَيرَ)) [981] أخرجه مسلم (2592). .
3- عن أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((مَن أُعطيَ حَظَّه من الرِّفْقِ فقد أعطِيَ حَظَّه من الخيرِ، ومَن حُرِم حَظَّه من الرِّفْقِ حُرِم حَظَّه من الخيرِ)) [982] أخرجه الترمذي (2013) واللفظ له، وأحمد (27553) مطوَّلًا دونَ ذِكرِ "ومَن حُرِم..". صححه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2013)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
ب- مِنَ الآثارِ1- عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: (مِن حَقِّ العالِمِ ألَّا تُكثِرَ عليه بالسُّؤالِ، ولا تُعنِتَه بالجَوابِ، وألَّا تُلِحَّ عليه إذا كَسِلَ، ولا تَأخُذَ بثَوبِه إذا نَهَضَ، ولا تُفشِينَّ له سِرًّا، ولا تَغتابَنَّ عِندَه أحَدًا، ولا تَطلُبَنَّ عَثرتَه، وإن زَلَّ قَبِلتَ مَعذِرَتَه، وعليك أن توقِّرَه وتُعَظِّمَه للَّهِ ما دامَ يَحفظُ أمرَ اللهِ، ولا تَجلِسَنَّ أمامَه، وإن كانت له حاجةٌ سَبَقتَ القَومَ إلى خِدمَتِه)
[983] أخرجه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (841). .
2- عن عَبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: (إنْ كُنتُ لآتي الرَّجُلَ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا رَأيتُه نائِمًا لم أوقِظْه، وإذا رَأيتُه مَغمومًا لَم أسأَلْه، وإذا رَأيتُه مَشغولًا لَم أسأَلْه)
[984] أخرجه الخطيب في ((الجامع لأخلاق الراوي)) (390). .
3- عن عَبد اللهِ بن عَبَّاس رَضيَ اللهُ عنهما، قال: (وجَدتُ عامَّةَ عِلمِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ هذا الحيِّ من الأنصارِ، فإن كنتُ لآتي بابَ أحَدِهم فأَقيلُ ببابِه، ولو شِئتُ أن يؤذَنَ لي عليه لآذَنَ لي بقرابتي من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنِّي كُنتُ أبتغي بذلك طِيبَ نفسِه)
[985] أخرجه الدارمي (567)، والبيهقي في ((المدخل إلى السنن)) (674)، والخطيب في ((الجامع لأخلاق الراوي)) (216) واللفظ له. جود إسناده الألباني في تخريج ((العلم لأبي خيثمة)) (133). .
وعَنِ ابنِ أبي حُسَينٍ، قال: (كان ابنُ عَبَّاسٍ يَأتي الرَّجُلَ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُريدُ أن يَسألَه عَنِ الحَديثِ، فيُقالُ له: إنَّه نائِمٌ، فيَضطَجِعُ على البابِ، فيُقالُ له: ألَا نوقِظُه؟ فيَقولُ: لا)
[986] أخرجه الخطيب في ((الجامع لأخلاق الراوي)) (217). .
4- عن عَبد اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: (لمَّا توفِّيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُلتُ لرجُلٍ من الأنصارِ: هَلُمَّ فلْنَسألْ أصحابَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فإنَّهم اليومَ كثيرٌ، فقال: واعجَبًا لك يا ابنَ عبَّاسٍ! أترى النَّاسَ يفتَقِرون إليك وفي النَّاسِ مِن أصحابِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَن فيهم؟! قال: فتركتُ ذاك وأقبلتُ أسألُ أصحابَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن كان يبلُغُني الحديثُ عن الرَّجُلِ فآتي بابَه وهو قائِلٌ فأتوسَّدُ ردائي
[987] تَوسَّدَ رِداءَه: أي: جَعَل رِداءَه وِسادةً تَحتَ رَأسِه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (6/ 2359). على بابِه تَسفي
[988] سَفَتِ الرِّيحُ التُّرابَ والورَقَ تَسفيه سَفيًا: إذا ذَرَته ونَثَرَته أو حَمَلَته، فهو سَفِيٌّ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2377)، ((أساس البلاغة)) للزمخشري (1/ 461)، ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 1295). الرِّيحُ عَلَيَّ من التَّرابِ، فيخرُجُ فيراني فيقولُ: يا ابنَ عَمِّ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ما جاءَ بك؟ هلَّا أرسَلْتَ إليَّ فآتيَك؟ فأقولُ: لا، أنا أحَقُّ أن آتيَك، قال: فأسألُه عن الحديثِ، فعاش هذا الرَّجُلُ الأنصاريُّ حتَّى رآني وقد اجتمَع النَّاسُ حولي يسألوني، فيقولُ: هذا الفتى كان أعقَلَ منِّي)
[989] أخرجه الدارمي (570) واللفظ له، والطبراني (10/300) (10592)، والحاكم (6440). صحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (3/343). .
مِن أقوالِ السَّلفِ:1- عن أبي سَلَمةَ، قال: (لَو رَفَقتُ بابنِ عَبَّاسٍ لَأصَبتُ مِنه عِلمًا كَثيرًا)
[990] أخرجه الدارمي (412). .قال الشَّعبيُّ: (كان أبو سَلَمةَ يُماري ابنَ عَبَّاسٍ؛ فحُرِمَ بذلك عِلمًا كَثيرًا)
[991] ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبدالبر (1/519). .
وعَنِ الزُّهريِّ، قال: (كان أبو سَلَمةَ يَسألُ ابنَ عَبَّاسٍ فكان يَخزُنُ
[992] يَخزُنُ: أي: يَستُرُ ويَكتُمُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/ 2108)، ((لسان العرب)) لابن منظور (13/ 139). عنه، وكان عُبَيدُ اللهِ بنُ عَبدِ اللهِ يُلاطِفُه فكان يَغُرُّه غَرًّا
[993] غَرَّ الطَّيرُ فَرْخَه يَغُرُّه غَرًّا: إذا زَقَّه، أي: أطعَمَه بفَمِه. يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/ 123، 201)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 136). [994] ((الطبقات الكبرى)) لابن سعد (7/ 246)، ((الجامع لأخلاق الراوي)) للخطيب البغدادي (1/ 209). .
2- عَنِ ابنِ جُرَيجٍ، قال: (لَم أستَخرِجِ الذي استَخرَجتُ مِن عَطاءٍ إلَّا برِفقي به)
[995] ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 423، 518). .
3- عن مَيمونٍ، قال: (لا تُمارِ مَن هو أعلَمُ مِنك؛ فإنَّك إن مارَيتَه خَزَن عَنك عِلمَه، ولَم يُبالِ ما صَنَعتَ)
[996] ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (1/ 518). وعَنِ الرَّبيعِ الخَولانيِّ، قال: قال لُقمانُ لابنِه: (يا بُنَيَّ زاحِمِ العُلَماءَ برُكبَتَيك، ولا تُجادِلْهم فيَمقُتوك، وخُذْ مِنَ الدُّنيا بَلاغًا، ولا تَدخُلْ فيها دُخولًا يَضُرُّ بآخِرَتِك، ولا تَرفُضْها فتَصيرَ عِيالًا على النَّاسِ، وصُمْ صَومًا يَقطَعُ شَهوتَك، ولا تَصُمْ صَومًا يَمنَعُك عَنِ الصَّلاةِ؛ فإنَّ الصَّلاةَ أحَبُّ إلى اللهِ مِنَ الصِّيامِ). ((الزهد الكبير)) للبيهقي (ص: 84). ويُنظر: ((موطأ مالك)) (2/ 1002). .
4- عن أبي عُبَيدٍ القاسِمِ بنِ سَلامٍ، قال: (ما استَأذَنتُ قَطُّ على مُحدِّثٍ، كُنتُ أنتَظِرُه حَتَّى يَخرُجَ إليَّ، وتَأوَّلتُ قَولَه تعالى:
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [الحجرات: 5])
[997] ((الجامع لأخلاق الراوي)) للخطيب البغدادي (1/ 158). .