موسوعة الآداب الشرعية

سادسًا: إفصاحُ المُتَّصِلِ عنِ اسمِه


إذا طَلبَ المُتَّصَلُ عليه مَعرِفةَ مَن يهاتِفُه، وسَأل: مَنِ المُتَّصِلُ؟ فيَنبَغي أن يُصَرِّحَ باسمِه وما يُعَرِّفُه عِندَه دونَ تَعميةٍ أو قَولِ: أنا [1729] قال النَّوويُّ: (يَنبَغي إذا استأذَنَ على إنسانٍ بالسَّلامِ أو بدَقِّ البابِ، فقيل له: مَن أنتَ؟ أن يَقولَ: فُلانُ بنُ فُلانٍ، أو فُلانٌ الفُلانيُّ، أو فُلانٌ المَعروفُ بكَذا، أو ما أشبَهَ ذلك، بحَيثُ يَحصُلُ التَّعريفُ التَّامُّ به، ويُكرَهُ أن يَقتَصِرَ على قَولِه: أنا، أوِ الخادِمُ، أو بَعضُ الغِلمانِ، أو بَعضُ المُحِبِّينَ، وما أشبَهَ ذلك... ولا بَأسَ أن يَصِفَ نَفسَه بما يُعرَفُ إذا لم يَعرِفْه المُخاطَبُ بغَيرِه، وإن كان فيه صورةُ تَبجيلٍ له، بأن يُكَنِّيَ نَفسَه، أو يَقولَ: أنا المُفتي فلانٌ، أوِ القاضي، أوِ الشَّيخُ فُلانٌ، أو ما أشبَهَ ذلك). ((الأذكار)) (ص: 260، 261). وقال بَكر أبو زَيد: (واحذَرْ أن تَقَعَ في طَبعِ مَن يُحجِمُ عنِ الإخبارِ باسمِه إذا لم يَجِدِ الشَّخصَ المُرادَ؛ ففي هذا نَقصٌ في الأدَبِ، واستِصغارٌ للآخَرينَ، وإشغالٌ لبالِ أهلِ الدَّارِ، ومَن أنتَ يا عَظيمَ القَدرِ في نَفسِه؟!). ((أدب الهاتف)) (ص: 15). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أنَسِ بنِ مالكٍ، عن مالِكِ بنِ صَعصَعةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بينا أنا عِندَ البَيتِ بَينَ النَّائِمِ واليَقظانِ -وذَكَرَ: يَعني رَجُلًا بَينَ الرَّجُلينِ- فأُتيتُ بطَستٍ مِن ذَهَبٍ، مُلئَ حِكمةً وإيمانًا، فشُقَّ مِنَ النَّحرِ إلى مَراقِّ البَطنِ [1730] مراقُّ البَطنِ: ما سَفُل منه ورَقَّ مِن جِلدِه، واحِدُها مَرَقٌّ. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (3/ 182). ، ثُمَّ غُسِل البَطنُ بماءِ زَمزَمَ، ثُمَّ مُلئَ حِكمةً وإيمانًا، وأُتيتُ بدابَّةٍ أبيَضَ دونَ البَغلِ وفوقَ الحِمارِ: البُراقُ، فانطَلقتُ مَعَ جِبريلَ حتَّى أتَينا السَّماءَ الدُّنيا، قيل: مَن هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: مَن مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد أُرسِلَ إليه؟ قال: نَعَم، قيل: مَرحَبًا به، ولنِعْمَ المَجيءُ جاءَ! فأتَيتُ على آدَمَ فسَلَّمتُ عليه، فقال: مَرحَبًا بكَ مِنِ ابنٍ ونَبيٍّ، فأتَينا السَّماءَ الثَّانيةَ، قيل: مَن هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: مَن مَعَكَ؟ قال: مُحَمَّدٌ، قيل: أُرسِل إليه، قال: نَعَم، قيل: مَرحَبًا به، ولنِعمَ المَجيءُ جاءَ! فأتَيتُ على عيسى ويَحيى فقالا: مَرحَبًا بكَ مِن أخٍ ونَبيٍّ، فأتَينا السَّماءَ الثَّالثةَ، قيل: مَن هذا؟ قيل: جِبريلُ، قيل: مَن مَعَكَ؟ قيل: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد أُرسِل إليه؟ قال: نَعَم، قيل: مَرحَبًا به، ولنِعمَ المَجيءُ جاءَ! فأتَيتُ على يوسُفَ فسَلَّمتُ عليه، قال: مَرحَبًا بكَ مِن أخٍ ونَبيٍّ، فأتَينا السَّماءَ الرَّابعةَ، قيل: مَن هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: مَن مَعَكَ؟ قيل: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد أُرسِلَ إليه؟ قيل: نَعَم، قيل: مَرحَبًا به، ولنِعمَ المَجيءُ جاءَ، فأتَيتُ على إدريسَ فسَلَّمتُ عليه، فقال: مَرحَبًا بكَ مِن أخٍ ونَبيٍّ، فأتَينا السَّماءَ الخامِسةَ، قيل: مَن هذا؟ قال: جِبريلُ، قيل: ومَن مَعَك؟ قيل: مُحَمَّدٌ، قيل: وقد أُرسِل إليه؟ قال: نَعَم، قيل: مَرحَبًا به، ولنِعمَ المَجيءُ جاءَ، فأتَينا على هارونَ فسَلَّمتُ عليه، فقال: مَرحَبًا بكَ مِن أخٍ ونَبيٍّ، فأتَينا على السَّماءِ السَّادِسةِ، قيل: مَن هذا؟ قيل: جِبريلُ، قيل: مَن مَعَك؟ قيل: مُحَمَّدٌ)) [1731] أخرجه البخاري (3207) واللَّفظُ له، ومسلم (164). .
2- عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في دَينٍ كان على أبي، فدَقَقتُ البابَ، فقال: مَن ذا؟ فقُلتُ: أنا، فقال: أنا أنا! كَأنَّه كَرِهَها)) [1732] أخرجه البخاري (6250) واللَّفظُ له، ومسلم (2155). .
قال الخَطَّابيُّ: (قَولُه: "أنا" لا يَتَضَمَّنُ الجَوابَ عَمَّا سَأل، ولا يُفيدُ العِلمَ بما استُعلِمَ، وكان الجَوابُ أن يَقولَ: أنا جابرٌ؛ ليَقَعَ بتَعريفِ الاسمِ تَعيينُ الشَّخصِ الذي وقَعَتِ المَسألةُ عنه، فلمَّا قال: أنا، لم يَزِدْ عليه، صارَ كَأنَّه تَعَرُّفٌ إلى نَفسِه، فاستَقصَرَه عليه، فكان ذلك مَعنى الكَراهةِ) [1733] ((أعلام الحديث)) (3/ 2233). .
وقال ابنُ الجَوزيِّ: (اعلَمْ أنَّ كَراهيةَ هذه الكَلِمةِ لوجهَينِ؛ أحَدُهما: أنَّها ليسَت بجَوابِ قَولِه: "مَن ذا؟"، فبَقيَ سُؤالُ الرَّسولِ عليه السَّلامُ الذي انتَظَرَ جَوابَه بلا جَوابٍ.
ودُقَّ البابُ يَومًا على بَعضِ العُلماءِ، فقال: مَن؟ فقال الدَّاقُّ: أنا، فقال: هذا دَقٌّ ثانٍ.
والثَّاني: أنَّ لفظةَ "أنا" مِن غَيرِ أن يُضافَ إليها "فُلانٌ" تَتَضَمَّنُ نَوعَ كِبرٍ، كَأنَّه يَقولُ: أنا الذي لا أحتاجُ أن أُسَمِّيَ نَفسي، أو: أتَكَبَّرُ على تَسميَتِها؛ فيُكرَهُ لهذا أيضًا) [1734] ((كشف المشكل)) (3/ 29، 30). .

انظر أيضا: