موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ ومَسائِلُ


تسجيل المكالمة الهاتفية
(أذيَّةُ المُسلمِ حَرامٌ، وتَخوُّنُه حَرامٌ، وهَتكُ حُرُماتِه حَرامٌ.
ومِن هذه الأذايا ما يَقَعُ في المهاتَفةِ، ومِنها:
الخيانةُ المُضاعَفةُ: لا يَجوزُ لمُسلمٍ يَرعى الأمانةَ ويُبغِضُ الخيانةَ أن يُسَجِّلَ كَلامَ المُتَكَلِّمِ دونَ إذنِه وعِلمِه، مَهما يَكُنْ نَوعُ الكَلامِ: دينيًّا أو دُنيَويًّا، كَفتوى أو مُباحَثةٍ عِلميَّةٍ أو ماليَّةٍ وما جَرى مَجرى ذلك... فإذا سَجَّلتَ مُكالمَتَه دونَ إذنِه وعِلمِه فهذا مَكرٌ وخَديعةٌ، وخيانةٌ للأمانةِ، وإن نَشَرتَ هذه المُكالَمةَ للآخَرينَ فهيَ زيادةٌ في التَّخَوُّنِ وهَتكِ الأمانةِ.
وإن فعَلتَ فَعلَتَك الثَّالثةَ -التَّصَرُّفَ في نَصِّ المُكالَمةِ بتَقطيعٍ وتَقديمٍ وتَأخيرٍ، ونَحوِ ذلك إدخالًا أو إخراجًا (دَبلَجة)- فالآنَ تَرتَدي الخيانةَ مُضاعَفةً، وتَسقُطُ على أُمِّ رَأسِك في "أُمِّ الخَبائِثِ" غَيرَ مَأسوفٍ على خائِنٍ.
ولذا ضَعُف التَّسجيلُ عن حُجِّيَّةِ الإثباتِ والحُكمِ قَضاءً إلى رُتبةِ القَرائِنِ.
والخُلاصةُ: أنَّ تَسجيلَ المُكالَمةِ هاتِفيَّةً أو غَيرَ هاتِفيَّةٍ دونَ عِلمِ المُتَكَلِّمِ وإذنِه فُجورٌ وخيانةٌ وجرحةٌ في العَدالةِ، ولا يَفعَلُها إلَّا الضَّامِرون في الدِّينِ والخُلُقِ والأدَبِ، لا سيَّما إن تَضاعَفت كَما ذُكِرَ. فاتَّقوا اللَّهَ عِبادَ اللهِ، ولا تَخونوا أماناتِكُم، ولا تَغدِروا بإخوانِكُم) [1739] ((أدب الهاتف)) لبكر أبو زيد (ص: 27). .
جِهازُ التَّنَصُّتِ
جِهازُ التَّنَصُّتِ: بَلغَتِ التِّقنيَّةُ الحَديثةُ ومُختَرَعاتُها مَبلغًا وصَل في بَعضِها إلى حَدِّ اللَّعِبِ بكَرامةِ الإنسانِ، أوِ استِغلالِه في إهدارِها.
ومِنه: ما يَقومُ به فَردٌ مِنَ النَّاسِ باستِعمالِ جِهازِ التَّنَصُّتِ ونَقلِ المُكالَماتِ، لا سيَّما غَيرِ المُغَطَّاةِ، ويَقضي ساعاتِ ليلِه ونَهارِه في الفُرجةِ على أحاديثِ النَّاسِ وما يَجري بَينَهم دونَ عِلمٍ مِنهم، وهذا مُحَرَّمٌ لا يَجوزُ، سَواءٌ عَرَف المتهاتِفَينِ أم أحَدَهما أو لم يَعرِفْهما.
وقد ثَبَتَ من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَنِ استَمَعَ إلى حَديثِ قَومٍ وهم له كارِهونَ صُبَّ في أُذُنَيه الآنُك [1740] الآنُكُ: الرَّصاصُ المُذابُ. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/ 556). يَومَ القيامةِ)) [1741] أخرجه البخاري (7042) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظ: ((ومَنِ استَمَعَ إلى حَديثِ قَومٍ وهم له كارِهونَ أو يَفِرُّونَ مِنه، صُبَّ في أُذُنِه الآنُكُ يَومَ القيامةِ)). ويُنظر: ((أدب الهاتف)) لبكر أبو زيد (ص: 30). .
المُعاكَسةُ
تَتَوالى الشَّكوى مِن فَعلاتِ السُّفهاءِ في تَتَبُّعِ مَحارِم المُسلمينَ في عُقرِ دورِهنَّ، فيَستجِرُّونَهنَّ بالمُكالَمةِ والمُعاكَسةِ السَّافِلةِ.
ومِنَ السِّفلةِ مَن يَتَّصِلُ على البُيوتِ مُستَغِلًّا غَيبةَ الرَّاعي؛ ليَتَّخِذَها فُرصةً عَلَّه يَجِدُ مَن يَستَدرِجُه إلى سَفالتِه! وهذا نَوعٌ مِنَ الخَلوةِ أو سَبيلٌ إليها، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إيَّاكُم والدُّخولَ على النِّساءِ)) [1742] أخرجه البخاري (5232)، ومسلم (2172) من حديثِ عُقبةَ بنِ عامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، أي: الأجنَبيَّاتِ عنكُم.
فهذا وأيمُ اللَّهِ حَرامٌ حَرامٌ، وإثمٌ وجُناحٌ، وفاعِلُه حَريٌّ بالعُقوبةِ، فيُخشى أن تَنزِلَ به عُقوبةٌ تُلوِّثُ وَجهَ كَرامَتِه، وعلى رَبِّ الدَّارِ أن يَبذُلَ الأسبابَ ويوفِّرَ الضَّماناتِ لحِمايةِ مَحارِمِه مِنَ العابِثينَ والسُّفَهاءِ [1743] يُنظر: ((أدب الهاتف)) لبكر أبو زيد (ص: 31). .
سُعارُ الاتِّصالِ
احذَرْ فُضولَ المهاتَفةِ حتَّى لا يُصيبَك سُعارُ الاتِّصالِ، فكم مِن مُصابٍ به! فمِن حينِ يَرفعُ رَأسَه مِن نَومَتِه يُدني مُذَكِّرَتَه "النُّوتةَ" ولا كالطِّفلِ يَلتَقِمُ ثَديَ أُمِّه، فيَشغَلُ نَفسَه وغَيرَه عَبرَ الهاتِفِ، مَن دارٍ إلى دارٍ، ومِن مَكتَبٍ إلى آخَرَ، يُرَوِّحُ عن نَفسِه ويُلقي بالأذى على غَيرِه.
وليسَ لنا مَعَ هؤلاء إلَّا الدُّعاءُ بالعافيةِ، ونَنصَحُهم بمُعالجةِ وَضعِهم مِن هذا الفُضولِ [1744] يُنظر: ((أدب الهاتف)) لبكر أبو زيد (ص: 32). .
هاتِفُ الإرهابِ
ثَبَتَ في السُّنَّةِ التَّرهيبُ مِن تَرويعِ المُسلمِ وإخافتِه، وأنَّ تَرويعَه وإخافتَه مِن كَبائِرِ الذُّنوبِ، والظُّلمِ العَظيمِ؛ فعن رِجالٍ مِن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَحِلُّ لمُسلِمٍ أن يُرَوِّعَ مُسلِمًا)) [1745] لفظُه: عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي ليلى، حَدَّثَنا أصحابُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّهم كانوا يَسيرونَ مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنامَ رَجُلٌ مِنهم فانطَلقَ بَعضُهم إلى حَبلٍ فأخَذَه، ففَزِعَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا يَحِلُّ لمُسلمٍ أن يُرَوِّعَ مُسلمًا)). أخرجه أبو داود (5004) واللَّفظُ له، وأحمد (23064). صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (5004)، والوادِعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1470)، وصَحَّحَ إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5004). .
كَما ثَبَتَ النَّهيُ عنِ الإشارةِ إلى المُسلمِ بحَديدةٍ لإخافتِه [1746] لفظُه: عن أبي هرَيرةَ يَقولُ: قال أبو القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أشارَ إلى أخيه بحَديدةٍ فإنَّ المَلائِكةَ تَلعنُه، حتَّى يَدَعَه، وإن كان أخاه لأبيه وأُمِّه)). أخرجه مسلم (2616). ، وورَدَ النَّهيُ عنِ النَّظرةِ المُخيفةِ إليه لتَرويعِه وإخافتِه، فكذلك المهاتَفةُ المُرهِبةُ، فكَم مِن قَلبٍ نُكِتَت فيه أدواءٌ مِنَ الغِلِّ والحِقدِ والحَسَدِ، فتَحَوَّلت آدَميَّتُه إلى حَياةٍ سَبُعيَّةٍ ضاريةٍ وكَلبٍ عَقورٍ! فما إن يَجِد في نَفسِه على آخَرَ أيَّ وَجدٍ إلَّا ويَسلُكُ أقذَرَ السُّبُلِ لإيصالِ الشَّرِّ إليه، وتَمَنِّي زَوالِه وزَوالِ نِعمتِه.
ومِنه مَسلَكُ الإخافةِ والإرهابِ الهاتِفيِّ، فيَتَّصِلُ الفاجِرُ مِن هاتِفٍ مَجهولٍ مُتَقَمِّصًا صَوتًا مُستَنكِرًا، فيَذكُرُ له مِن أنواعِ التَّرويعِ والإخافةِ ما عَسى أن يُقِضَّ مَضجَعَه، ويُؤَثِّرَ عليه بأيِّ سالِبٍ.
وهذا الكَلبُ العَقورُ حَريٌّ أن يُعاقِبَه اللهُ في لحظَتِه، ورُبَّ دَعوةٍ تَسري إليه بليلٍ وهو عنها غافِلٌ، فتُصيبَه العُقوبةُ في عُقرِ دارِه [1747] يُنظر: ((أدب الهاتف)) لبكر أبو زيد (ص: 33). .
من آدابِ الهاتفِ المتعلقةِ بالمرأةِ
إن كان أحَدُ المتهاتِفَينِ امرَأةً فلتَحذَرِ الخُضوعَ بالقَولِ؛ فإنَّ اللَّهَ سُبحانَه نَهى نِساءَ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّهاتِ المُؤمِنينَ رَضِيَ اللهُ عنهنَّ اللَّاتي لا يَطمَعُ فيهنَّ طامِعٌ، وهنَّ في عَهدِ النُّبوَّةِ وحَياةِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم؛ نَهاهنَّ عن أن يَخضَعنَ بالقَولِ، فقال تعالى: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب: 32] ، فكيف بمَن سِواهنَّ؟! إنَّ نَهيَهنَّ عنِ الخُضوعِ في القَولِ مِن بابِ أَولى.
فاتَّقَينَ اللَّهَ يا نِساءَ المُؤمِنينَ، لا تَخضَعنَ بالقَولِ، وقُلنَ قَولًا مَعروفًا في الخَيرِ، أي: بلا تَرخيمٍ ولا تَمطيطٍ، فلا تُخاطِبِ المَرأةُ الأجانِبَ كما تُخاطِبُ زَوجَها.
ولتَحذَرِ المَرأةُ الاستِرسالَ في الكَلامِ مَعَ الرِّجالِ الأجانِبِ عنها -بَل ومَعَ مَحارِمِها- بما تُنكِرُه الشَّريعةُ، وتَأباه النُّفوسُ، ويُحدِثُ في نَفسِ السَّامِعِ عَلاقةً.
ولتَحذَرْ رَفعَ الصَّوتِ عنِ المُعتادِ، وتَمطيطَ الكَلامِ، وتَحسينَه وتَليينَه، وتَرخيمَه وتَرقيقَه، وتَنغيمَه بالنَّبرةِ اللَّيِّنةِ، واللَّهجةِ الخاضِعةِ.
وإذا كان يَحرُمُ عليها ذلك فيَحرُمُ على الرَّجُلِ سَماعُ صَوتِها بتَلذُّذٍ، ولو كان صَوتُها بقِراءةِ القُرآنِ، وإذا شَعَرَتِ المَرأةُ بذلك حَرُمَ عليها الاستِمرارُ في الكَلامِ مَعَه؛ لِما يَدعو إليه مِنَ الفِتنةِ.
وهنا يَتَعَيَّنُ على الرَّجُلِ الرَّاعي لأهلِ بَيتِه أن يُرَتِّبَ أُمورَه على السَّترِ والتَّصَوُّنِ وحِفظِ المَحارِمِ، فلا تَكونُ المَرأةُ هيَ أوَّلَ مَن يُبادِرُ إلى إجابةِ الهاتِفِ مَعَ وُجودِ أحَدٍ مِنَ الرِّجالِ، ولا تُجيبُ في حالةِ غيابِهم في كُلِّ حالٍ مِنَ الأحوالِ، بَل حَسَبَما يوجِّهُها به وليُّ أمرِها بما يَراه حَسَبَ الأحوالِ والمُقتَضَياتِ، وعليها السَّمعُ والطَّاعةُ في المَعروفِ، ورِعايةُ الأصلَحِ، وتَركُ المُشاقَّةِ [1748] ((أدب الهاتف)) لبكر أبو زيد (ص: 17، 18). .

انظر أيضا: