تَمهيدٌ في خَطرِ الدَّيْنِ والتَّشْديدِ في أمرِه
حَثَّ الشَّرعُ الشَّريفُ على تَنفيسِ الكُرُباتِ، وقَضاءِ الحاجاتِ، ومِن ذلك إقراضُ مَن يَحتاجُ.
فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن نَفَّسَ عن مُؤمِنٍ كُربةً مِن كُرَبِ الدُّنيا نَفَّسَ اللهُ عنه كُربةً مِن كُرَبِ يَومِ القيامةِ، ومِن يَسَّر على مُعسِرٍ يَسَّر اللَّهُ عليه في الدُّنيا والآخِرةِ، ومَن سَتَرَ مُسلِمًا سَتره اللَّهُ في الدُّنيا والآخِرةِ، واللهُ في عَونِ العَبدِ ما كان العَبدُ في عَونِ أخيه)) [1883] أخرجه مسلم (2699). .
وعنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((مَن مَنَح مَنيحةَ لبَنٍ أو وَرِقٍ، أو هَدى زُقاقًا [1884] قال التِّرمِذيُّ: (مَعنى قَولِه: «مَن مَنَحَ مَنيحةَ وَرِقٍ» إنَّما يَعني به: قَرضَ الدَّراهِمِ. قَولُه: «أو هَدى زُقاقًا»: يَعني به هدايةَ الطَّريقِ، وهو إرشادُ السَّبيلِ). ((سنن الترمذي)) (4/ 341). وقال الخَطَّابيُّ: (مَنيحةُ الوَرِقِ هيَ القَرضُ، قاله أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ. ومَعنى المَنيحةِ إباحةُ المَنفَعةِ مَعَ استيفاءِ الرَّقَبةِ. ومِنه مَنيحةُ الغَنَمِ، وهو أن تَمنَحَه شاةً حَلوبًا يُشرَبُ لبَنُها فإذا لُجِبَت [أي: قَلَّ لبَنُها] رَدَّها إلى صاحِبِها. وقَولُه: «هَدى زُقاقًا» مَعناه تَصدَّقَ بزُقاقٍ مِنَ النَّخلِ فجَعَله هَديًا. والزُّقاقُ: الطَّريقةُ المُستَويةُ المُصطَفَّةُ مِنَ النَّخلِ، وهو السِّكَّةُ أيضًا، إلَّا أنَّ السِّكَّةَ أوسَعُ مِنَ الزُّقاقِ. ويُحتَمَلُ أن يَكونَ مَعنى قَولِه: «هَدى زُقاقًا» مِن هدايةِ الطَّريقِ والدَّلالةِ عليه). ((غريب الحديث)) (1/ 729). كان له مِثلُ عِتقِ رَقَبةٍ)) [1885] أخرجه الترمذي (1957) واللَّفظُ له، وأحمد (18665). صحَّحه العقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (4/86)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5096)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/336)، وقال الترمذيُّ: حَسَنٌ صحيحٌ غَريبٌ. .
وفي الوَقتِ عَينِه شَدَّدَ الشَّرعُ في أمرِ الدَّينِ، وحَذَّر مِن أخذِ أموالِ النَّاسِ يُريدُ إتلافَها، ومِن أن يَموتَ المَرءُ وعليه دَينٌ ولا يَترُكَ وَفاءً.
عن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن ماتَ وهو بَريءٌ مِن ثَلاثٍ -الكِبرِ، والغُلولِ، والدَّينِ- دَخَل الجَنَّةَ)) [1886] أخرجه الترمذي (1572)، والحاكم (2252) واللفظ لهما، وابن حبان (198). صحَّحه ابن حبان، والحاكم على شرط الشيخين، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1572). .
وفي رِوايةٍ:
((مَن فارَقَ الرُّوحُ الجَسَدَ وهو بَريءٌ مِن ثَلاثٍ دَخَل الجَنَّةَ: مِنَ الكِبرِ، والغُلولِ، والدَّينِ)) [1887] أخرجها الترمذي (1573)، وابن ماجه (2412)، وأحمد (22427). صحَّحها الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2412)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/161)، وصحَّح إسنادَها على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22427). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((مَن أخَذَ أموالَ النَّاسِ يُريدُ أداءَها أدَّى اللَّهُ عنه، ومَن أخَذَ يُريدُ إتلافَها أتلَفَه اللَّهُ)) [1888] أخرجه البخاري (2387). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (هذا الحَديثُ شَريفٌ، ومَعناه: الحَضُّ على تَركِ استِئكالِ أموالِ النَّاسِ، والتَّنَزُّهِ عنها، وحُسنِ التَّأديةِ إليهم عِندَ المُدايَنةِ، وقد حَرَّمَ اللهُ في كِتابِه أكلَ أموالِ النَّاسِ بالباطِلِ، وخَطَبَ النَّبيُّ عليه السَّلامُ بذلك في حَجَّةِ الوداعِ، فقال: «إنَّ دِماءَكُم وأموالَكُم عليكُم حَرامٌ»
[1889] لفظُه: عن أبي بَكرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ الزَّمانَ قَدِ استدار كهَيئتِه يومَ خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عَشرَ شهرًا، منها أربعةٌ حُرمٌ: ثلاثةٌ مُتوالِياتٌ: ذو القَعدةِ، وذو الحِجَّةِ، والمُحرَّمُ، ورَجبُ مُضَرَ، الذي بَينَ جُمادى وشَعبانَ، أيُّ شهرٍ هذا؟ قُلْنا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، فسكَت حتَّى ظنَنَّا أنَّه سيُسمِّيه بغَيرِ اسمِه، قال: أليس ذا الحِجَّةِ؟ قُلْنا: بلى، قال: فأيُّ بلدٍ هذا؟ قُلْنا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، فسكَت حتَّى ظنَنَّا أنَّه سيُسمِّيه بغَيرِ اسمِه، قال: أليس البَلدةَ؟ قُلْنا: بلى، قال: فأيُّ يومٍ هذا؟ قُلْنا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، فسكَت حتَّى ظنَنَّا أنَّه سيُسمِّيه بغَيرِ اسمِه، قال: أليس يومَ النَّحرِ؟ قُلْنا: بلى يا رسولَ اللهِ، قال: فإنَّ دِماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حَرامٌ عليكم كحُرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا، وستلقَونَ ربَّكم فيسألُكم عن أعمالِكم، ألا فلا تَرجِعُنَّ بَعدي كفَّارًا -أو ضُلَّالًا- يضرِبُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ)). أخرجه البخاري (4406) واللَّفظُ له، ومسلم (1679) من حديثِ أبي بَكرةَ نُفَيعِ بنِ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنه. ، يَعني: مِن بَعضِكُم على بَعضٍ.
وفي حَديثِ أبي هرَيرةَ أنَّ الثَّوابَ قد يَكونُ مِن جِنسِ الحَسَنةِ، وأنَّ العُقوبةَ قد تَكونُ مِن جِنسِ الذُّنوبِ؛ لأنَّه جَعَل مَكانَ أداءِ الإنسانِ أداءَ اللَّهِ عنه، ومَكانَ إتلافِه إتلافَ اللَّهِ له)
[1890] ((شرح صحيح البخاري)) (6/ 513). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((نَفسُ المُؤمِنِ مُعَلَّقةٌ بدَينِه [1891] أي: روحُ المؤمِنِ بَعدَ مَوتِه محبوسةٌ عَمَّا أُعِدَّ لها أو عن دُخولِ الجنَّةِ بسَبَبِ بقاءِ الدَّينِ في ذِمَّتِه. يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) للصنعاني (10/511). ؛ حتَّى يُقضى عنه)) [1892] أخرجه الترمذي (1079)، وابن ماجه (2413)، وأحمد (10607). صحَّحه ابنُ معين كما في ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (45/73)، وابن عبد البر في ((الاستذكار)) (4/101)، وابن الملقن في ((شرح البخاري)) (14/120)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2413). .
وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((ماتَ رَجُلٌ فغَسَّلناه وكَفَّنَّاه وحَنَّطناه ووضَعناه لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَيثُ توضَعُ الجَنائِزُ عِندَ مَقامِ جِبريلَ عليه السَّلامُ، ثُمَّ آذَنَّا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّلاةِ عليه، فجاءَ مَعنا خُطًى، ثُمَّ قال: لعَلَّ على صاحِبِكم دَينًا؟ قالوا: نَعَم، دينارانِ، فتَخلَّف، فقال له رَجُلٌ مِنَّا -يُقالُ له أبو قتادةَ-: يا رَسولَ اللهِ، هما عَلَيَّ، فجَعَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: هما عليك، وفي مالِك، وحَقُّ الرَّجُلِ عليك، والمَيِّتُ مِنهما بَريءٌ؟ فقال: نَعَم، فصَلَّى عليه، فجَعَل رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا لقيَ أبا قتادةَ يَقولُ: ما صَنَعتَ في الدِّينارَينِ؟ حتَّى كان آخِرَ ذلك قال: قد قَضَيتُهما يا رَسولَ اللهِ، قال: الآنَ حينَ بَرَّدتَ عليه جِلدَه)) [1893] أخرجه أحمد (14536)، والدارقطني (4/54) واللفظ له، والحاكم (2381). حسَّنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2753)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن الدارقطني)) (3084)، وحسَّن إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/51)، والنووي في ((خلاصة الأحكام)) (2/931). وذهب إلى تصحيحه ابن حبان كما في ((بلوغ المرام)) لابن حجر (258). .
وعن سَمُرةَ بنِ جُندَبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((خَطَبَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: هاهنا أحَدٌ من بَني فُلانٍ؟ فلم يُجِبْه أحَدٌ، ثُمَّ قال: هاهنا أحَدٌ من بَني فُلانٍ؟ فلم يُجِبْه أحَدٌ، ثُمَّ قال: هاهنا أحَدٌ مِن بَني فُلانٍ؟ فقامَ رَجُلٌ، فقال: أنا يا رَسولَ اللهِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما مَنعَك أن تُجيبَني في المَرَّتَينِ الأولَيَينِ؟! أمَا إنِّي لم أُنَوِّهْ [1894] نوَّهتُ باسمِه: إذا رفَعتَ ذِكرَه. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2254). بكُم إلَّا خَيرًا، إنَّ صاحِبَكُم مَأسورٌ بدَينِه)). فلقد رَأيتُه أدَّى عنه حتَّى ما بَقيَ أحَدٌ يَطلُبُه بشَيءٍ
[1895] أخرجه أبو داود (3341) واللفظ له، والنسائي (4685)، وأحمد (20231). حسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3341)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3341). .
وفي رِوايةٍ:
((صَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ، فقال: هاهنا أحَدٌ من بَني فُلانٍ؟ فنادى ثَلاثًا لا يُجيبُه أحَدٌ، ثُمَّ قال: إنَّ الرَّجُلَ الذي ماتَ بَينَكُم قدِ احتُبِسَ عنِ الجَنَّةِ مِن أجلِ الدَّينِ الذي عليه، فإن شِئتُم فافدوه، وإن شِئتُم فأسلِموه إلى عَذابِ اللَّهِ)) [1896] أخرجها الحاكم (2248). صحَّحها الحاكم، والألباني في ((أحكام الجنائز)) (26) على شرطِ الشَّيخَينِ. .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال
((يُغفَرُ للشَّهيدِ كُلُّ ذَنبٍ إلَّا الدَّينَ)) [1897] أخرجه مسلم (1886). .
وفي رِوايةٍ:
((القَتلُ في سَبيلِ اللهِ يُكَفِّرُ كُلَّ شَيءٍ إلَّا الدَّينَ)) [1898] أخرجها مسلم (1886). .
وعن أبي قَتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
((أنَّه قام فيهم فذَكَرَ لهم أنَّ الجِهادَ في سَبيلِ اللهِ والإيمانَ باللهِ أفضَلُ الأعمالِ. فقام رجُلٌ فقال: يا رَسولَ اللهِ، أرأيتَ إن قُتِلتُ في سبيلِ اللهِ تُكَفَّرُ عنِّي خطاياي؟ فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعَم، إنْ قُتِلتَ في سبيلِ اللهِ وأنت صابِرٌ محتَسِبٌ، مُقبِلٌ غَيرُ مُدبِرٍ. ثمَّ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كيف قُلتَ؟ قال: أرأيتَ إن قُتِلتُ في سبيلِ اللهِ أتُكَفَّرُ عنِّي خطاياي؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نَعَم، وأنت صابِرٌ محتَسِبٌ، مُقبِلٌ غَيرُ مُدبِرٍ، إلَّا الدَّينَ؛ فإنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ قال لي ذلك)) [1899] أخرجه مسلم (1885). .
وعن عَبدِ اللهِ بنِ جَحشٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((جاء رجُلٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، ماذا لي إن قاتَلتُ في سَبيلِ اللهِ حتَّى أُقتَلَ؟ قال: الجنَّةُ، قال: فلمَّا وَلَّى قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إلَّا الدَّينَ، سارَّني به جِبريلُ عليه السَّلامُ)) [1900] أخرجه أحمد (19078). صحَّحه الألباني في ((شرح الطحاوية)) (403)، وصحَّحه لغيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (19078) .
وعن محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ جَحشٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كُنَّا جُلوسًا عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَفعَ رَأسَه إلى السَّماءِ، ثُمَّ وضَعَ راحَتَه على جَبهَتِه، ثُمَّ قال: سُبحانَ اللَّهِ، ماذا نَزَل مِنَ التَّشديدِ؟! فسَكَتنا وفَزِعنا، فلمَّا كان مِنَ الغَدِ سَألتُه: يا رَسولَ اللهِ، ما هذا التَّشديدُ الذي نَزَل؟ فقال: والذي نَفسي بيَدِه لو أنَّ رَجُلًا قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ ثُمَّ أُحيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ أُحيِيَ، ثُمَّ قُتِلَ، وعليه دَينٌ، ما دَخَل الجَنَّةَ حتَّى يُقضى عنه دَينُه)) [1901] أخرجه النسائي (4684) واللفظ له، وأحمد (22493). حسَّنه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4684)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (2246)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (2145). وذهَب إلى تصحيحِه ابنُ عبدِ البرِّ في ((الاستذكار)) (4/101). .
ولذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَستَعيذُ مِنَ المَغرَمِ وضَلَعِ الدَّينِ.
فعن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه:
((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأبي طَلحةَ: التَمِسْ غُلامًا مِن غِلمانِكُم يَخدُمُني حتَّى أخرُجَ إلى خَيبَرَ، فخَرَجَ بي أبو طَلحةَ مُردِفي [1902] مُرْدِفي: أي: أردَفَني خَلفَه على الدَّابَّةِ، يقالُ: رَدِفتُ الرَّجُلَ: إذا رَكِبتَ وراءَه، وأردَفتُه: إذا أركَبتَه وراءَك. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (5/ 90) و(8/ 488). وأنا غُلامٌ راهَقتُ الحُلُمَ [1903] راهَقتُ الحُلُمَ: أي: قارَبتُ البُلوغَ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (14/ 177). ، فكُنتُ أخدُمُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا نَزَل، فكُنتُ أسمَعُه كَثيرًا يَقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجزِ والكَسَلِ، والبُخلِ والجُبنِ، وضَلَعِ الدَّينِ [1904] قال الخَطَّابيُّ: (ضَلَعُ الدَّينِ: ثِقَلُه وغِلَظُه. ويُقالُ: رَجُلٌ ضَليعٌ: إذا كان بَدينًا قَويًّا). ((أعلام الحديث)) (2/ 1394). وقال ابنُ القَيِّمِ: (الذَّنبُ إمَّا يُميتُ القَلبَ أو يُمرِضُه مَرَضًا مَخوفًا، أو يُضعِفُ قُوَّتَه ولا بُدَّ حتَّى يَنتَهيَ ضَعفُه إلى الأشياءِ الثَّمانيةِ التي استَعاذَ مِنها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهيَ: الهَمُّ والحَزَنُ، والعَجزُ والكَسَلُ، والجُبنُ والبُخلُ، وضَلَعُ الدَّينِ وغَلَبةُ الرِّجالِ، وكُلُّ اثنَينِ مِنها قَرينانِ. فالهَمُّ والحَزَنُ قَرينانِ: فإنَّ المَكروهَ الوارِدَ على القَلبِ إن كان مَن أمرٍ مُستَقبَلٍ يَتَوقَّعُه أحدَثَ الهَمَّ، وإن كان من أمرٍ ماضٍ قد وقَعَ أحدَثَ الحَزَنَ. والعَجزُ والكَسَلُ قَرينانِ: فإن تَخَلَّف العَبدُ عن أسبابِ الخَيرِ والفلاحِ، إن كان لعَدَمِ قُدرَتِه فهو العَجزُ، وإن كان لعَدَمِ إرادَتِه فهو الكَسَلُ. والجُبنُ والبُخلُ قَرينانِ: فإنَّ عَدَمَ النَّفعِ مِنه إن كان ببَدَنِه فهو الجُبنُ، وإن كان بمالِه فهو البُخلُ. وضَلَعُ الدَّينِ وقَهرُ الرِّجالِ قَرينانِ: فإنَّ استِعلاءَ الغَيرِ عليه إن كان بحَقٍّ فهو مِن ضَلَعِ الدَّينِ، وإن كان بباطِلٍ فهو مِن قَهرِ الرِّجالِ). ((الجواب الكافي)) (ص: 73). وقال أيضًا: (ضَلَعُ الدَّينِ وقَهرُ الرِّجالِ قَرينانِ، وهما مُؤلمانِ للنَّفسِ مُعَذِّبانِ لها؛ أحَدُهما: قَهرٌ بحَقٍّ، وهو ضَلَعُ الدَّينِ، والثَّاني: قَهرٌ بباطِلٍ، وهو غَلَبةُ الرِّجالِ، وأيضًا فضَلَعُ الدَّينِ قَهرٌ بسَبَبٍ مِنَ العَبدِ في الغالِبِ، وغَلَبةُ الرِّجالِ قَهرٌ بغَيرِ اختيارِه). ((بدائع الفوائد)) (2/ 207). ، وغَلَبةِ الرِّجالِ)) [1905] أخرجه البخاري (2893) واللَّفظُ له، ومسلم (1365) دونَ قَولِه: "فكُنتُ أسمَعُه كَثيرًا يَقولُ: ...". .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها:
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَدعو في الصَّلاةِ: اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِن عَذابِ القَبرِ، وأعوذُ بك مِن فِتنةِ المَسيحِ الدَّجَّالِ، وأعوذُ بك مِن فِتنةِ المَحيا وفِتنةِ المَماتِ [1906] قال ابنُ العَطَّارِ: (قَولُه: «ومِن فِتنةِ المحيا والمماتِ»: أي: الحياةِ والموتِ؛ ففِتنةُ المَحْيَا: ما يَتعرَّضُ له الإنسانُ مُدَّةَ حَياتِه مِنَ الافتِتَانِ بالدُّنيا والشَّهَوَاتِ والجَهَالاتِ، وأشَدُّها وأعظَمُها -والعِياذُ باللهِ تعالى منه- أمرُ الخاتِمَةِ عندَ الموتِ، وفتنةُ المماتِ قيل: المرادُ: فِتنةُ القَبرِ، وقد صَحَّ عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الاستعاذةُ من عذابِ القَبرِ، وفِتنةُ القَبرِ كمِثلِ أو أعظَمَ مِن فِتنةِ الدَّجَّالِ، ولا يكونُ من هذا الوَجهِ متكَرِّرًا مع قولِه: «من عذابِ القَبرِ»؛ لأنَّ العذابَ مرتَّبٌ على الفتنةِ، والسَّبَبُ غيرُ المسَبَّبِ، ولا يقالُ: إنَّ المقصودَ زوالُ عذابِ القَبرِ؛ لأنَّ الفِتنةَ نَفسَها أمرٌ عظيمٌ، وهو شديدٌ يُستعاذُ باللهِ من شَرِّه، ويجوزُ أن يرادَ بفِتنةِ المماتِ: الفِتنةُ عندَ الموتِ، وأضيفَت إلى الموتِ؛ لقُربِها منه عندَ الاحتضارِ، أو قَبلَه بقليلٍ، وتكونُ فِتنةُ المحيا على هذا ما يقَعُ قَبلَ ذلك في مدَّةِ الحياةِ للإنسانِ وتصَرُّفِه في الدُّنيا، فإنَّ ما قارب الشَّيءَ يُعطى حُكمَه، فحالةُ الموتِ تُشبَّهُ بالموتِ، فلا تُعَدُّ من الدُّنيا، فعلى هذا يكونُ الجَمعُ بَينَ فتنةِ المحيا والمماتِ وفِتنةِ المسيحِ الدَّجَّالِ وفِتنةِ القَبرِ مِن بابِ ذِكرِ الخاصِّ بعدَ العامِّ، ونظائِرُه كثيرةٌ. واللهُ أعلَمُ. ويحتَمِلُ أن يُرادَ بفِتنةِ المحيا والمماتِ حالةُ الاحتضارِ وحالةُ المساءلةِ في القَبرِ، فكأنَّه استعاذ من فتنةِ هذين المقامَينِ، وسأل التَّثبيتَ فيهما). ((العدة في شرح العمدة)) (2/ 615). ، اللهُمَّ إنِّي أعوذُ بك مِنَ المَأثَمِ والمَغرَمِ. فقال له قائِلٌ: ما أكثَرَ ما تَستَعيذُ مِنَ المَغرَمِ، فقال: إنَّ الرَّجُلَ إذا غَرِمَ حَدَّثَ فكَذَب، ووعَدَ فأخلَفَ [1907] قال ابنُ بَطَّالٍ: (قال المُهلَّبُ: فيه وُجوبُ قَطعِ الذارئعِ؛ لأنَّه عَليه السَّلامُ إنَّما استَعاذَ مِنَ الدَّينِ؛ لأنَّه ذَريعةٌ إلى الكَذِبِ، والخُلفُ في الوعدِ مَعَ ما يَقَعُ المِديانُ تَحتَه مِنَ الذِّلَّةِ، وما لصاحِبِ الدَّينِ عَليه مِنَ المَقالِ... وأمَّا المَغرَمُ الذي استَعاذَ مِنه عَليه السَّلامُ فإنَّه الدَّينُ الذي استُدِينَ على أوجُهٍ ثَلاثةٍ: إمَّا فيما يَكرَهُه اللهُ، ثُمَّ لا يَجِدُ سَبيلًا إلى قَضائِه، أو مُستَدينٌ فيما لا يَكرَهُه اللهُ ولكِن لا وَجهَ لقَضائِه عِندَه، فهو مُتَعَرِّضٌ لهَلاكِ مالِ أخيه ومُتلِفٌ له، أو مُستَدينٌ له إلى القَضاءِ سَبيلٌ غَيرَ أنَّه نَوى تَركَ القَضاءِ وعَزَم على جَحدِه، فهو عاصٍ لرَبِّه ظالمٌ لنَفسِه؛ فكُلُّ هؤلاء لوَعدِهم إن وعَدوا مَنِ استَدانوا مِنه القَضاءَ يُخلِفونَ، وفي حَديثِهم كاذِبونَ). ((شرح صحيح البخاري)) (6/ 520، 521). ) [1908] أخرجه البخاري (832) واللَّفظُ له، ومسلم (589). .
وفيما يلي بيانُ أهمِّ الآدابِ المتعلِّقةِ بالقرضِ والمداينةِ: