موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: السِّرُّ والسِّترُ


الأصلُ في النَّصيحةِ: أن تَكونَ في سِرٍّ وسِترٍ، لا في مَلأٍ ولا مَعَ فضيحةٍ.
أقوالٌ في النُّصحِ سرًّا
1- قال ابنُ حِبَّانَ: (الواجِبُ على العاقِلِ لُزومُ النَّصيحةِ للمُسلمينَ كافَّةً، وتَركُ الخيانةِ لهم بالإضمارِ والقَولِ والفِعلِ مَعًا؛ إذِ المُصطَفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَشتَرِطُ على مَن بايَعَه مِن أصحابِه النُّصحَ لكُلِّ مُسلمٍ مَعَ إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، وخَيرُ الإخوانِ أشَدُّهم مُبالغةً في النَّصيحةِ، كما أنَّ خَيرَ الأعمالِ أحمَدُها عاقِبةً، وأحسنُها إخلاصًا، وضَربُ النَّاصِحِ خَيرٌ مِن تَحيَّةِ الشَّانِئِ...
والنَّصيحةُ تَجِبُ على النَّاسِ كافَّةً، ولكِن إبداؤُها لا يَجِبُ إلَّا سِرًّا؛ لأنَّ مَن وعَظَ أخاه عَلانيةً فقد شانَه، ومَن وعَظَه سِرًّا فقد زانَه، فإبلاغُ المَجهودِ للمُسلمِ فيما يَزينُ أخاه أحرى مِنَ القَصدِ فيما يَشينُه...
عن سُفيانَ قال: قلْتُ لمِسعَرٍ: تُحِبُّ أن يُخبِرَك رجُلٌ بعُيوبِك؟ قال: أمَّا أن يجيءَ إنسانٌ فيُوبِّخَني بها فلا، وأمَّا أن يجيءَ ناصِحٌ فنعَم.
وعن ابنِ المُبارَك قال: كان الرَّجلُ إذا رأى مِن أخيه ما يكرَهُ أمَره في سِترٍ، ونَهاه في سِترٍ، فيُؤجَرُ في سِترِه، ويُؤجَرُ في نَهيِه، فأمَّا اليومَ فإذا رأى أحدٌ مِن أحدٍ ما يكرَهُ استغضَب أخاه، وهتَك سِترَه!
وعن سُفيانَ قال: جاءَ طَلحةُ إلى عَبدِ الجَبَّارِ بنِ وائِلٍ وعِندَه قَومٌ، فسارَّه بشيءٍ ثُمَّ انصَرَف، فقال: أتَدرونَ ما قال لي؟ قال: رَأيتُك التَفَتَّ أمسِ وأنتَ تُصَلِّي!
والنَّصيحةُ إذا كانت على نَعتِ ما وصَفْنا تُقيمُ الأُلفةَ وتُؤَدِّي حَقَّ الأخوَّةِ، وعَلامةُ النَّاصِحِ إذا أرادَ زينةَ المَنصوحِ له أن يَنصَحَه سِرًّا، وعَلامةُ مَن أرادَ شَينةً أن يَنصَحَه عَلانيةً) [2050] يُنظر: ((روضة العقلاء)) (ص: 194-197). .
2- قال أبو طالبٍ المَكِّيُّ: (يَنبَغي أن يَنصَحَ له فيما بَينَه وبَينَه، ولا يوبِّخَه بَينَ المَلأِ، ولا يُطلعَ على غَيبِه أحَدًا؛ فقد قيل: إنَّ نَصائِحَ المُؤمِنينَ في آذانِهم.
ومِن أخلاقِ السَّلَفِ: كان الرَّجُلُ إذا كَرِهَ مِن أخيه خُلُقًا عاتَبَه فيما بَينَه وبَينَه أو كاتَبَه في صَحيفةٍ، وهذا لعَمْرِي فَرقٌ بَينَ النَّصيحةِ والفضيحةِ؛ فما كان في السِّرِّ فهو نَصيحةٌ، وما كان على العَلانيةِ فهو فضيحةٌ، وقَلَّما تَصِحُّ فيه النِّيَّةُ لوَجهِ اللهِ تعالى؛ لأنَّ فيه شَناعةً، وكذلك الفَرقُ بَينَ العِتابِ والتَّوبيخِ، فالعِتابُ ما كان في خَلوةٍ، والتَّوبيخُ لا يَكونُ إلَّا في جَماعةٍ؛ ولذلك يُعاتِبُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ رَجُلًا مِنَ المُؤمِنينَ يَومَ القيامةِ تَحتَ كَنَفِه، ويُسبِلُ عليه سِترَه، فيوقِفُه على ذُنوبه سِرًّا، وأمَّا أهلُ التَّوبيخِ فيُنادَونَ على رؤوسِ الأشهادِ، فلا يَخفى على أهلِ المَوقِفِ فضيحَتُهم، فيَزدادُ ذلك في عَذابِهم، وكذلك الفَرقُ بَينَ المُداراةِ والمُداهَنةِ، فالمُداراةُ ما أرَدتَ به وَجهَ اللهِ تعالى وطَريقَ الآخِرةِ مِن دَفعٍ عن دينٍ، وقَصَدتَ به سَلامةَ أخيك مِنَ الإثمِ، وصَلاحَ قَلبِه للهِ تَبارَكَ وتعالى، والمُداهَنةُ ما اجتَلبتَ به دُنيا وأرَدتَ به حَظَّ نَفسِك) [2051] ((قوت القلوب)) (2/ 370، 371). ويُنظر: ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (5/ 1/ 221). .
3- قال أحمد شَوقي: (آفةُ النُّصحِ أن يَكونَ جِدالًا، وأذاه أن يَكونَ جِهارًا) [2052] ((أسواق الذهب)) (ص: 143). .
وقال أيضًا: (النُّصحُ ثَقيلٌ؛ فلا تَجعَلْه جَدَلًا، ولا تُرسِلْه جَبَلًا) [2053] ((أسواق الذهب)) (ص: 124). .
4- عن يَحيى بن مَعينٍ، قال: (أخطَأ عَفَّانُ في نَيِّفٍ وعِشرينَ حَديثًا ما أعلَمتُ بها أحَدًا، وأعلَمتُه فيما بَيني وبَينَه، ولَقد طَلَبَ إليَّ خَلَفُ بنُ سالمٍ، فقال قُلْ لي: أيُّ شَيءٍ هيَ؟ فما قُلتُ له، وكان يُحِبُّ أن يَجِدَ عليه.
قال يَحيى: (ما رَأيتُ على رَجُلٍ قَطُّ خَطأً إلَّا سَتَرتُه، وأحبَبتُ أن أُزَيِّنَ أمرَه، وما استَقبَلتُ رَجُلًا في وَجهِه بأمرٍ يَكرَهُه، ولَكِنْ أُبَيِّنُ له خَطَأَه فيما بَيني وبَينَه، فإن قَبِلَ ذلك، وإلَّا تَرَكتُه) [2054] رواه الخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد)) (16/ 272). .
5- قال سُليمانُ الخَوَّاصُ: (مَن وعَظَ أخاه فيما بَينَه وبَينَه فهيَ نَصيحةٌ، ومَن وعَظَه على رؤوسِ النَّاسِ فإنَّما فضَحَه) [2055] رواه ابنُ أبي الدنيا في ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (61). .
6- وقال الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ: (المُؤمِنُ يَستُرُ ويَعِظُ ويَنصَحُ، والفاجِرُ يَهتِكُ ويُعَيِّرُ ويُفشي) [2056] رواه أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/ 95). .
قال ابنُ رَجَبٍ: (هذا الذي ذَكَرَه الفُضَيلُ مِن عَلاماتِ النُّصحِ والتَّعييرِ، وهو أنَّ النُّصحَ يَقتَرِنُ به السَّترُ، والتَّعييرَ يَقتَرِنُ به الإعلانُ، وكان يُقالُ: مَن أمَرَ أخاه على رؤوسِ المَلأِ فقد عَيَّرَه... وكان السَّلَفُ يَكرَهونَ الأمرَ بالمَعروفِ والنَّهيَ عنِ المُنكَرِ على هذا الوَجهِ، ويُحِبُّونَ أن يَكونَ سِرًّا فيما بَينَ الآمِرِ والمَأمورِ؛ فإنَّ هذا مِن عَلاماتِ النُّصحِ، فإنَّ النَّاصِحَ ليسَ له غَرَضٌ في إشاعةِ عُيوبِ مَن يَنصَحُ له، وإنَّما غَرَضُه إزالةُ المَفسَدةِ التي وقَعَ فيها. وأمَّا إشاعةُ وإظهارُ العُيوبِ فهو مِمَّا حَرَّمَه اللهُ ورَسولُه؛ قال اللهُ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، وقال بَعضُ العُلماءِ لمَن يَأمُرُ بالمَعروفِ: واجتَهِدْ أن تَستُرَ العُصاةَ؛ فإنَّ ظُهورَ عَوراتِهم وَهنٌ في الإسلامِ، وأحَقُّ شَيءٍ بالسَّترِ العَورةُ.
فلهذا كان إشاعةُ الفاحِشةِ مُقتَرِنةً بالتَّعييرِ، وهما مِن خِصالِ الفُجَّارِ؛ لأنَّ الفاجِرَ لا غَرَضَ له في زَوالِ المَفاسِدِ ولا في اجتِنابِ المُؤمِنِ للنَّقائِصِ والمَعايِبِ، إنَّما غَرَضُه في مُجَرَّدِ إشاعةِ العَيبِ في أخيه المُؤمِنِ، وهَتكِ عِرضِه؛ فهو يُعيدُ ذلك ويُبديه، ومَقصودُه تَنقُّصُ أخيه المُؤمِنِ في إظهارِ عُيوبِه ومَساويه للنَّاسِ؛ ليُدخِلَ عليه الضَّرَرَ في الدُّنيا.
وأمَّا النَّاصِحُ فغَرَضُه بذلك إزالةُ عَيبِ أخيه المُؤمِنِ واجتِنابُه له) [2057] ((الفرق بين النصيحة والتعيير)) (ص: 17، 18). .
7- وقال الغَزاليُّ: (يَنبَغي أن يَكونَ ذلك في سِرٍّ لا يَطَّلعُ عليه أحَدٌ، فما كان على المَلأِ فهو تَوبيخٌ وفضيحةٌ، وما كان في السِّرِّ فهو شَفَقةٌ ونَصيحةٌ؛ إذ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «المُؤمِنُ مِرآةُ المُؤمِنِ»، أي: يَرى مِنه ما لا يَرى مِن نَفسِه، فيَستَفيدُ المَرءُ بأخيه مَعرِفةَ عُيوبِ نَفسِه، ولوِ انفرَدَ لم يَستَفِدْ، كما يَستَفيدُ بالمِرآةِ الوُقوفَ على عُيوبِ صورَتِه الظَّاهرةِ.
وقال الشَّافِعيُّ: مَن وعَظَ أخاه سِرًّا فقد نَصَحَه وزانَه، ومَن وعَظَه عَلانيةً فقد فضَحَه وشانَه.
وقيل لمِسعَرٍ: أتُحِبُّ مَن يُخبرُك بعُيوبِك؟ فقال: إن نَصَحَني فيما بَيني وبَينَه فنَعَمْ، وإن قَرَّعني بَينَ المَلأِ فلا.
وقد صَدَقَ؛ فإنَّ النُّصحَ على المَلأِ فضيحةٌ) [2058] ((إحياء علوم الدين)) (2/ 182). .

انظر أيضا: