موسوعة الآداب الشرعية

ثامنًا: اختيارُ الوقتِ المُناسِبِ للدَّعوةِ


يَنبَغي مُراعاةُ الوقتِ المُناسِبِ للدَّعوةِ، واختيارُ الحالِ الموائِمةِ، والظُّروفِ المُلائِمةِ؛ فإنَّ إهمالَ ذلك قد يُؤَدِّي إلى رَفضِ الدَّعوةِ، أو تَأخيرِ وتَقليلِ الثَّمَرةِ المَرجوَّةِ مِنها.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح: 1 - 9] .
فجَعَلَ نوحٌ عليه السَّلامُ دَعوتَه مَظروفةً في زَمَنَي اللَّيلِ والنَّهارِ؛ للدَّلالةِ على عَدَمِ الهَوادةِ في حِرصِه على إرشادِهم، وأنَّه يَتَرَصَّدُ الوَقتَ الذي يَتَوسَّمُ أنَّهم فيه أقرَبُ إلى فَهمِ دَعوتِه مِنهم في غَيرِه مِن أوقاتِ النَّشاطِ، وهيَ أوقاتُ النَّهارِ، ومِن أوقاتِ الهُدوءِ وراحةِ البالِ، وهيَ أوقاتُ اللَّيلِ، وجَمَعَ بَينَ الجَهرِ والإسرارِ؛ لأنَّ الجَمعَ بَينَ الحالَتَينِ أقوى في الدَّعوةِ وأغلَظُ مِن إفرادِ إحداهما [2219] يُنظر: ((الكشاف)) للزمخشري (4/616)، ((البحر المحيط)) لأبي حيان (10/281)، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (29/194، 197). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي وائلٍ شقيقِ بنِ سَلَمةَ، قال: (كان عبدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ في كُلِّ خميسٍ، فقال له رجُلٌ: يا أبا عبدِ الرَّحمنِ، لوَدِدْتُ أنَّك ذكَّرْتَنا كُلَّ يومٍ؟ قال: أمَا إنَّه يمنعُني من ذلك أني أكرَهُ أن أُمِلَّكم، وإنِّي أتخَوَّلُكم بالموعظةِ كما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتخَوَّلُنا بها مخافةَ السَّآمةِ علينا)) [2220] أخرجه البخاري (70). .
وفي رِوايةٍ: كان عَبدُ اللَّهِ يُذَكِّرُنا كُلَّ يَومِ خَميسٍ، فقال لَه رَجُلٌ: يا أبا عَبدِ الرَّحمنِ، إنَّا نُحِبُّ حَديثَك ونَشتَهيه، ولَوَدِدْنا أنَّك حَدَّثتَنا كُلَّ يَومٍ، فقال: ما يَمنَعُني أن أحَدِّثَكُم إلَّا كَراهيةُ أن أُمِلَّكُم، ((إنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يتخَوَّلُنا بالمَوعِظةِ في الأيَّامِ؛ كَراهيةَ السَّآمةِ علينا)) [2221] أخرجها مسلم (2821). .
قال البَغويُّ: (قَولُه: «يتخَوَّلُنا» أي: يَتَعَهَّدُنا بها في مَظانِّ القَبولِ، لا يُكَلِّمُنا في كُلِّ وقتٍ؛ لئَلَّا نَسأَمَ) [2222] ((شرح السنة)) (1/ 313). .
2- عن أبي وائِلٍ، قال: خَطَبَنا عَمَّارٌ، فأوجَزَ وأبلَغ، فلَمَّا نَزَلَ قُلْنا: يا أبا اليَقظانِ، لَقد أبلَغتَ وأوجَزتَ، فلَو كُنتَ تَنَفَّستَ [2223] أي: أطلتَ الكلامَ شيئًا ووسَّعتَه ومددْتَ أنفاسَك فيه، وأصلُه: أنَّ المتكلِّمَ إذا تنفَّس استأنَفَ القولَ، وسهُل عليه الإطالةُ. يُنظر: (إكمال المعلم)) لعياض (3/ 272)، ((مطالع الأنوار)) لابن قُرْقُول (4/ 198)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (5/ 682). ، فقال: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ طولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وقِصَرَ خُطبَتِه مَئِنَّةٌ مِن فِقهِه [2224] مَئِنَّةٌ: أي: علامةٌ تدُلُّ على فقهِ الرَّجُلِ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 347). ، فأطيلوا الصَّلاةَ، وأقصِروا الخُطبةَ، وإنَّ مِنَ البَيانِ سِحرًا)) [2225] أخرجه مسلم (869). .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ أبي أَوفى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ الذِّكرَ، ويُقِلُّ اللَّغوَ، ويُطيلُ الصَّلاةَ، ويُقصِرُ الخُطبةَ، ولا يَأنَفُ أن يَمشيَ مَعَ الأرمَلةِ، والمِسكينِ فيَقضي لَه الحاجةَ)) [2226] أخرجه النسائي (1414) واللفظ له، والدارمي (74)، وابن حبان (6424). صحَّحه ابنُ حبان، والحاكم على شرط الشيخين في ((المستدرك)) (4277)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (1414)، وحسَّنه البخاري كما في ((العلل الكبير)) (360). .
قال ابنُ عبدِ البَرّ: (وأمَّا قِصَرُ الخُطبةِ فسُنَّةٌ مَسنونةٌ كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأمُرُ بذلك ويَفعَلُه، وكان يَخطُبُ بكَلِماتٍ طَيِّباتٍ قَليلاتٍ، وقد كَرِهَ التَّشَدُّقَ والتَّفيهُقَ، وأهلُ العِلمِ يَكرَهونَ مِنَ المَواعِظِ ما يُنسي بَعضُه بَعضًا لطولِه، ويَستَحِبُّونَ مِن ذلك ما وقَف عليه السَّامِعُ المَوعوظُ، فاعتَبَرَه بَعدَ حِفظِه له، وذلك لا يَكونُ إلَّا مَعَ القِلَّةِ) [2227] ((الاستذكار)) (2/ 363، 364). .
4- عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا بَعَثَ أحَدًا مِن أصحابِه في بَعضِ أمرِه، قال: بَشِّروا ولا تُنَفِّروا، ويَسِّروا ولا تُعَسِّروا)) [2228] أخرجه مسلم (1732). .
وفي رِوايةٍ عن أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعَثَه ومُعاذًا إلى اليَمَنِ، فقال: يَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا، وتَطاوَعا ولا تَختَلِفا)) [2229] أخرجها مسلم (1733). .
5- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا)) [2230] أخرجه البخاري (69) واللفظ له، ومسلم (1734). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (المُرادُ: تَأليفُ مَن قَرُب إسلامُه، وتَركُ التَّشديدِ عليه في الِابتِداءِ، وكذلك الزَّجرُ عنِ المَعاصي يَنبَغي أن يَكونَ بتَلَطُّفٍ ليُقبَلَ، وكَذا تَعليمُ العِلمِ يَنبَغي أن يَكونَ بالتَّدريجِ؛ لأنَّ الشَّيءَ إذا كان في ابتِدائِه سَهلًا حُبِّبَ إلى مَن يَدخُلُ فيه وتَلقَّاه بانبِساطٍ، وكانت عاقِبتُه غالِبًا الِازديادَ بخِلافِ ضِدِّه) [2231] ((فتح الباري)) (1/ 163). .

انظر أيضا: