موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: أن تكون دعوتُه بالمَوعِظةِ الحَسَنةِ


إنِ انقادَ المَدعوُّ بالحِكمةِ، وإلَّا فيُنتَقَلُ مَعَه بالدَّعوةِ بالمَوعِظةِ الحَسَنةِ [2197] قال المَيدانيُّ: (يَندَرِجُ في المَوعِظةِ الحَسَنةِ كُلُّ الأساليبِ التي تُؤَثِّرُ في النَّفسِ الإنسانيَّةِ، والتي مِن شَأنِها أن تُواجِهَ عَوامِلَ الأنفُسِ في جِهةِ الِاقتِناعِ بالحَقيقةِ) ((الأخلاق الإسلامية وأسسها)) (1/ 205). ، وهو الأمرُ والنَّهيُ المَقرونُ بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ؛ إمَّا بما تَشتَمِلُ عليه الأوامِرُ مِنَ المَصالِحِ وتَعدادِها، والنَّواهي مِنَ المَضارِّ وتَعدادِها، وإمَّا بذِكرِ إكرامِ مَن قامَ بدينِ اللهِ، وإهانةِ مَن لَم يَقُمْ به، وإمَّا بذِكرِ ما أعَدَّ اللَّهُ للطَّائِعينَ مِنَ الثَّوابِ العاجِلِ والآجِلِ، وما أعَدَّ للعاصينَ مِنَ العِقابِ العاجِلِ والآجِلِ [2198] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 452). وقال ابنُ تيميَّةَ: (الوَعظُ في القُرآنِ هو الأمرُ والنَّهيُ والتَّرغيبُ والتَّرهيبُ، كقَولِه تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 66 - 68] ؛ فقَولُه: مَا يُوعَظُونَ بِهِ أي: ما يُؤمَرون به، وقال: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [النور: 17] ، أي: ينهاكم عن ذلك). ((الرد على المنطقيين)) (ص: 467). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكتابِ:
قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125] .
قال ابنُ باديسَ: (الوَعظُ والمَوعِظةُ: الكَلامُ المُلَيِّنُ للقَلبِ، بما فيه مِن تَرغيبٍ وتَرهيبٍ، فيَحمِلُ السَّامِعَ -إذا اتَّعَظَ وقَبِلَ الوَعظَ، وأثَّرَ فيه- على فِعلِ ما أُمِرَ به، وتَركِ ما نُهيَ عنه. وقد يُطلَقُ على نَفسِ الأمرِ والنَّهيِ.
ففي حَديثِ العِرباضِ الذي رَواه التِّرمذيُّ وغَيرُه: ((وعَظَنا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ مَوعِظةً وَجِلَت مِنها القُلوبُ، وذَرَفت مِنها العُيونُ...)) [2199] لفظه: عن العِرباضِ بنِ ساريةَ، قال: ((وعَظَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا بَعدَ صَلاةِ الغَداةِ مَوعِظةً بَليغةً ذَرَفت مِنها العُيونُ ووجِلَت مِنها القُلوبُ، فقال رَجُلٌ: إنَّ هذه مَوعِظةُ مُودِّعٍ، فماذا تَعهَدُ إلينا يا رَسولَ اللهِ؟ قال: أوصيكُم بتَقوى اللهِ، والسَّمعِ والطَّاعةِ، وإنْ عَبدٌ حَبَشيٌّ؛ فإنَّه مَن يَعِشْ مِنكُم يَرى اختِلافًا كَثيرًا، وإيَّاكُم ومُحدَثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّها ضَلالةٌ، فمَن أدرَكَ ذلك مِنكُم فعليه بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ المَهديِّينَ، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ)). أخرجه أبو داود (4607)، والترمذي (2676) واللفظ له، وابن ماجه (42). صحَّحه البزار كما في ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البر (2/1164)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5)، والحاكم في ((المستدرك)) (333)، وابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/1164)، وقال الترمذي: حسن صحيح. ، فقد خَطَبَ فيهم خُطبةً كان لَها هذا الأثَرُ في قُلوبِهم، فهذه حَقيقةُ المَوعِظةِ.
وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ [النساء: 66] ، أي: يُؤمَرونَ به. وقال تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا [النور: 17] ، أي: يَنهاكُم.
فهذا مِن إطلاقِ الوَعظِ على الأمرِ والنَّهيِ؛ لأنَّ شَأنَ الأمرِ والنَّهيِ أن يَقتَرِنَ بما يَحمِلُ على امتِثالِه مِنَ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ.
ويَكونُ الوَعظُ بذِكرِ أيَّامِ اللهِ في الأُمَمِ الخاليةِ، وباليَومِ الآخِرِ وما يَتَقدَّمُه، وما يَكونُ فيه مِن مَواقِفِ الخَلقِ وعَواقِبِهم، ومَصيرِهم إلى الجَنَّةِ أوِ النَّارِ، وما في الجَنَّةِ مِن نَعيمٍ، وما في النَّارِ من عَذابٍ أليمٍ، وبوَعدِ اللهِ ووَعيدِه، وهذه أكثَرُ ما يَكونُ بها الوَعظُ.
ويَكونُ بغَيرِها، كتَذكيرِ الإنسانِ بأحوالِ نَفسِه؛ ليُعامِلَ غَيرَه بما يُحِبُّ أن يُعامَلَ به، وهو مِن أدَقِّ فُنونِ الوَعظِ وأبلَغِها، مِثلُ قَولِه تعالى -وقد نَهى أن يُقالَ لمَن ألقى السَّلامَ: لَستَ مُؤمِنًا-: كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء: 94] ، وقَولِه تعالى -وقد أمَرَ بالعَفوِ والصَّفحِ-: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22] .
والمَوعِظةُ التي تُحَصِّلُ المَقصودَ مِنها مِن تَرقيقٍ للقُلوبِ للحَملِ على الِامتِثالِ لِما فيه خَيرُ الدُّنيا والآخِرةِ: هيَ المَوعِظةُ الحَسَنةُ.
وإنَّما يَحصُلُ المَقصودُ مِنها إذا حَسُنَ لَفظُها بوُضوحِ دَلالَتِه على مَعناها، وحسُنَ مَعناها بعَظيمِ وقعِه في النُّفوسِ، فعَذُبَت في الأسماعِ، واستَقَرَّت في القُلوبِ، وبَلَغَت مَبلَغَها مِن دَواخِلِ النَّفسِ البَشَريَّةِ؛ فأَثارَتِ الرَّغبةَ والرَّهبةَ، وبَعَثَتِ الرَّجاءَ والخَوفَ، بلا تَقنيطٍ مِن رَحمةِ اللهِ، ولا تَأمينٍ مِن مَكرِه، وانبَعَثَت عن إيمانٍ ويَقينٍ، ونادَت بحَماسٍ وتَأَثُّرٍ؛ فتَلَقَّتها النَّفسُ مِنَ النَّفسِ، وتَلَقَّفها القَلبُ مِنَ القَلبِ، إلَّا نَفسًا أحاطَت بها الظُّلمةُ، وقَلبًا عَمًى عليه الرَّانُ، عافى اللهُ قُلوبَ المُؤمِنينَ.
كُلُّ هذا تَجِدُه في مَواعِظِ القُرآنِ، وفيما صَحَّ مِن مَواعِظِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ...
هَدَتنا الآيةُ الكَريمةُ بمَنطوقِها ومَفهومِها إلى أنَّ مِنَ المَوعِظةِ ما هو حَسَنٌ، وهو الذي تَكونُ به الدَّعوةُ، ومِنها ما هو ليس بحَسَنٍ فيُتَجَنَّبُ، وبَيَّنَت مَواعِظُ القُرآنِ ومَواعِظُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسِلم ذلك الحُسنَ، فعلينا أن نَلتَزِمَه؛ لأنَّه هو الذي تَبلُغُ به المَوعِظةُ غايَتَها، وتُثمِرُ بإِذنِ اللهِ ثَمَرَتَها.
وعلينا أن نَجتَنِبَ كُلَّ ما خالَفه مِمَّا يُعدِمُ ثَمَرةَ المَوعِظةِ كَتَعقيدِ ألفاظِها، أو يَقلِبُها إلى ضِدِّ المَقصودِ مِنها) [2200] ((مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير)) (ص: 322-324). وقال ابنُ باديسَ في تَحذيرٍ: (أكثَرُ الخُطَباءِ في الجُمُعاتِ اليَومَ في قُطرِنا يَخطُبونَ النَّاسَ بخُطَبٍ مُعَقَّدةٍ مُسَجَّعةٍ طَويلةٍ، مِن مُخَلَّفاتِ الماضي، لا يُراعى فيها شَيءٌ مِن أحوالِ الحاضِرِ وأمراضِ السَّامِعينَ، تُلقى بتَرَنُّمٍ وتَلحينٍ، أو غَمغَمةٍ وتَمطيطٍ، ثُمَّ كَثيرًا ما تُختَمُ بالأحاديثِ المُنكَراتِ أوِ المَوضوعاتِ! هذه حالةٌ بِدعيَّةٌ في شَعيرةٍ مِن أعظَمِ الشَّعائِرِ الإسلاميَّةِ، سَدَّ بها أهلُها بابًا عَظيمًا مِنَ الخَيرِ فتَحَه الإسلامُ، وعَطَّلوا بها الوَعظَ والإرشادَ، وهو رَكنٌ عَظيمٌ مِن أركانِ الإسلامِ. فحَذارِ أيُّها المُؤمِنُ مِن أن تَكونَ مِثلَهم إذا وقَفتَ خَطيبًا في النَّاسِ. وحَذارِ مِن أن تَترُكَ طَريقةَ القُرآنِ والمَواعِظِ النَّبَويَّةِ إلى ما أحدَثَه المُحْدَثونَ. ورَحِمَ اللهُ أبا الحَسَنِ -كَرَّم اللهُ وَجهَه- فقد قال: "الفَقيهُ كُلُّ الفقيهِ كُلُّ الفقيهِ: مَن لَم يُقَنِّطِ النَّاسَ مِن رَحمةِ اللهِ، ولَم يُؤَمِّنْهم مِن مَكْرِه، ولَم يَدَعِ القُرآنَ رَغبةً عنه إلى ما سِواه). ((المصدر السابق)). .
فَوائِدُ:
تقييدُ المَوعِظةِ بـ(الحَسَنةِ) دونَ الحِكمةِ
قُيِّدَتِ المَوعِظةُ بالحَسَنةِ، ولَم تُقَيَّدِ الحِكمةُ بمِثلِ ذلك في قَولِه تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ؛ لأنَّ المَوعِظةَ لمَّا كان المَقصودُ مِنها غالِبًا رَدعَ نَفسِ المَوعوظِ عن أعمالِه السَّيِّئةِ، أو عن تَوقُّعِ ذلك مِنه؛ كانت مَظِنَّةً لصُدورِ غِلظةٍ مِنَ الواعِظِ، ولِحُصولِ انكِسارٍ في نَفسِ المَوعوظِ- أرشَدَ اللهُ رَسولَه أن يَتَوخَّى في المَوعِظةِ أن تَكونَ حَسَنةً، أي: بإِلانةِ القَولِ، وتَرغيبِ المَوعوظِ في الخَيرِ؛ قال تعالى خِطابًا لموسى وهارونَ: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43-44] . وأمَّا الحِكمةُ فهيَ تَعليمٌ لمُتَطَلِّبي الكَمالِ مِن مُعَلِّمٍ يَهتَمُّ بتَعليمِ طُلَّابِه، فلا تَكونُ إلَّا في حالةٍ حَسَنةٍ، فلا حاجةَ إلى التَّنبيهِ على أن تَكونَ حَسَنةً، فوَصفُ الحُسنِ لَها ذاتيٌّ، وأمَّا المَوعِظةُ فقَيَّدَها بوَصفِ الإحسانِ؛ إذ ليس كُلُّ مَوعِظةٍ حَسَنةً، وكذلك الجَدَلُ قد يَكونُ بالتي هيَ أحسَنُ، وقد يَكونُ بغَيرِ ذلك، وهذا يحتملُ أن يَرجِعَ إلى حالِ المُجادِلِ وغِلظَتِه، ولينِه وحِدَّتِه ورِفقِه، فيَكونُ مَأمورًا بمُجادَلَتِهم بالحالِ التي هيَ أحسَنُ، ويحتملُ أن يَكونَ صِفةً لِما يُجادلُ به مِنَ الحُجَجِ والبَراهينِ، والكَلِماتِ التي هيَ أحسَنُ شَيءٍ وأبيَنُه، وأدَلُّه على المَقصودِ، وأوصَلُه إلى المَطلوبِ، والتَّحقيقُ: أنَّ الآيةَ تَتَناولُ النَّوعَينِ [2201] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/444)، ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (14/329). .
الوَعظُ بالقَولِ الحَكيمِ نَوعانِ
يَنبَغي للدَّاعي إلى اللهِ تعالى أن يَكونَ وَعظُه للنَّاسِ بالقَولِ الحَكيمِ على نَوعَينِ: تَعليمٍ، وتَأديبٍ؛ فأمَّا وَعظُ التَّعليمِ: فيَكونُ ببَيانِ عَقائِدِ التَّوحيدِ، وبَيانِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ الخَمسةِ: مِنَ الواجِبِ، والحَرامِ، والمَسنونِ، والمَكروهِ، والمُباحِ، ويُراعى في ذلك كُلِّه ما يُناسِبُ كُلَّ طَبَقةٍ، والحَثُّ على التَّمَسُّكِ بها، والتَّحذيرُ مِنَ التَّهاوُنِ فيها.
وأمَّا وَعظُ التَّأديبِ فيَكونُ بتَحديدِ الأخلاقِ الحَسَنةِ: كالحِلمِ والأناةِ، والشَّجاعةِ، والوفاءِ، والصَّبرِ، والكَرَمِ...، وبَيانِ آثارِها ومَنافِعِها في المُجتَمَعِ، والحَثِّ على التَّخَلُّقِ بها والتِزامِها، وتَعريفِ وتَحديدِ الأخلاقِ السَّيِّئةِ: كالغَضَبِ، والعَجَلةِ، والغَدرِ، والجَزَعِ، والجُبنِ، والبُخلِ...، والتَّحذيرِ عنِ الِاتِّصافِ بها مِن طَريقَي التَّرغيبِ والتَّرهيبِ.
ويَنبَغي للدَّاعيةِ إلى اللهِ أن يَستَشهدَ في كُلٍّ مِنَ النَّوعَينِ بما جاءَ فيه مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ الثَّابِتةِ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وآثارِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ والأئِمَّةِ المُجتَهِدينَ، وأحوالِهم في ذلك؛ فإِنَّ لهذا شَأنًا عَظيمًا يوصِلُ إلى الغايةِ المَقصودةِ مَتى صَدَرَ مِن قَلبٍ سَليمٍ نَقيٍّ مُتَخَلِّقٍ بما يَدعو إليه؛ لأنَّ المَوعِظةَ في الغالِبِ إذا صَدَرَت مِنَ القَلبِ وقَعَت في القَلبِ، وإن خَرَجَت مِنَ اللِّسانِ لَم تَتَجاوزِ الآذانَ [2202] يُنظر: ((هداية المرشدين)) لعلي محفوظ (ص: 143-145)، ((كيفية دعوة عصاة المسلمين)) للقحطاني (ص: 5-8). .

انظر أيضا: