موسوعة الآداب الشرعية

خامسَ عشر: الدُّعاءُ للمَدْعوِّينَ


يَنبَغي للدَّاعي أن يَدعوَ لمَدْعوِّيه أن يَهدِيَهم اللهُ ويَغفِرَ لهم [2284] قال ابنُ بازٍ: (مِن أهَمِّ الأخلاقِ ومِن أعظَمِها في حَقِّ الدَّاعيةِ: أن يَعمَلَ بما يَدعو إليه، وأن يَنتَهيَ عَمَّا يَنهى عنه، وأن يَكونَ ذا خُلُقٍ فاضِلٍ، وسيرةٍ حَميدةٍ، وصَبرٍ ومُصابَرةٍ، وإخلاصٍ في دَعوتِه، واجتِهادٍ فيما يوصِلُ الخَيرَ إلى النَّاسِ، وفيما يُبعِدُهم مِنَ الباطِلِ، ومَعَ ذلك يَدعو لَهم بالهدايةِ، هذا مِنَ الأخلاقِ الفاضِلةِ؛ أن يَدعوَ لَهم بالهدايةِ، ويَقولَ للمَدعوِّ: هداك اللَّهُ، وفَّقَك اللَّهُ لقَبولِ الحَقِّ، أعانَك اللَّهُ على قَبولِ الحَقِّ، تَدعوه وتُرشِدُه وتَصبِرُ على الأذى، ومَعَ ذلك تَدعو له بالهدايةِ... والتَّوفيقِ لقَبولِ الحَقِّ، وتَصبِرُ وتُصابِرُ في ذلك، ولا تَقنَطْ ولا تَيأَسْ ولا تَقُلْ إلَّا خَيرًا، لا تُعنِّفْ ولا تَقُلْ كَلامًا سَيِّئًا يُنَفِّرُ مِنَ الحَقِّ، ولَكِن مَن ظَلَمَ وتَعَدَّى له شَأنٌ آخَرُ، كَما قال اللهُ جَلَّ وعَلا: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [العنكبوت: 46] ). ((الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة)) (ص: 47، 48). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
 1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قَدِم طُفَيلُ بنُ عَمرٍو الدَّوسيُّ وأصحابُه على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ دَوسًا عَصَت وأَبَت، فادْعُ اللهَ عليها، فقيل: هلَكَت دَوسٌ! قال: ((اللَّهُمَّ اهْدِ دَوسًا وَأْتِ بهم)) [2285] أخرجه البخاري (3937) واللفظ له، ومسلم (2524). .
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اللَّهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ بعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ خاصَّةً)) [2286] أخرجه ابن ماجه (105)، وابن حبان (6882)، والحاكم (4541). صحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3225)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9/508). وذهَب إلى تصحيحِه ابنُ حبانَ، والحاكمُ على شرطِ الشَّيخينِ. .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنتُ أدعو أمِّي إلى الإسلامِ وهي مُشرِكةٌ، فدعوتُها يومًا، فأسمعَتْني في رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أكرَهُ! فأتيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أبكي، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ إنِّي كنتُ أدعو أمِّي إلى الإسلامِ، فتأبى عليَّ، فدعوتُها اليومَ فأسمعَتْني فيك ما أكره، فادْعُ اللهَ أن يهدِيَ أمَّ أبي هُرَيرةَ، فقال: اللهمَّ اهْدِ أمَّ أبي هُرَيرةَ، فخرجتُ مُستبشِرًا بدعوةِ نَبيِّ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا جِئتُ فصِرْتُ إلى البابِ، فإذا هو مُجافٌ [2287] المجافُ: المُغلَقُ، يقال: أجَفْتُ البابَ: إذا أغلَقْتَه، فهو مُجافٌ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 594)، ((جامع الأصول)) لابن الأثير (11/ 375). ، فسمعَتْ أمِّي خَشْفَ [2288] خَشفُ القَدَمِ: صوتُه وحَرَكتُه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 594). قَدَميَّ، فقالت: مكانَك يا أبا هُرَيرةَ، وسمعتُ خَضخَضةَ [2289] خَضحَضةُ الماءِ: صوتُ تحريكِه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 594). الماءِ، قال: فاغتسلَتْ، ولبسَتْ دِرْعَها [2290] دِرعُ المرأةِ: قميصُها. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (6/ 235). ، وعَجِلَت عن خمارِها، ففتَحَت البابَ، ثُمَّ قالت: يا أبا هُرَيرةَ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُه ورَسولُه! فرجعتُ إلى رَسولِ اللهِ فأتيتُه وأنا أبكي من الفَرَحِ! قال: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أبشِرْ، قد استجاب اللهُ دعْوَتَك، وهدى أمَّ أبي هُرَيرةَ، فحَمِدَ اللهَ، وأثنى عليه، وقال خَيرًا، قال: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ادعُ اللَّهَ أن يُحَبِّبَني أنا وأُمِّي إلى عِبادِه المُؤمِنينَ، ويُحَبِّبَهم إلينا، قال: فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللهُمَّ حَبِّبْ عُبيدَك هذا -يَعني: أبا هُرَيرةَ- وأُمَّه إلى عِبادِك المُؤمِنينَ، وحَبِّبْ إليهمُ المُؤمِنينَ، فما خُلِقَ مُؤمِنٌ يَسمَعُ بي ولا يَراني إلَّا أحَبَّني)) [2291] أخرجه مسلم (2491). .
4- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كأَنِّي أنظُرُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَحكي نَبيًّا مِنَ الأنبياءِ ضَرَبَه قَومُه فأدمَوه [2292] أدمَوه، أي: جَرَحوه بحيثُ جرى عليه الدَّمُ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (24/ 84). ، وهو يَمسَحُ الدَّمَ عن وَجهِه ويَقولُ: اللهُمَّ اغفِرْ لقَومي؛ فإنَّهم لا يَعلَمونَ)) [2293] أخرجه البخاري (3477) واللفظ له، ومسلم (1792). .
قال النَّوَويُّ: (فيه ما كانوا عليه -صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليهم- مِن الحِلمِ والتَّصبُّرِ والعَفوِ والشَّفقةِ على قومِهم، ودُعائِهم لهم بالهِدايةِ والغُفرانِ، وعُذرِهم في جِنايتِهم على أنفُسِهم بأنَّهم لا يعلَمونَ، وهذا النَّبيُّ المُشارُ إليه مِن المُتقدِّمينَ، وقد جرى لنبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثلُ هذا يومَ أحُدٍ) [2294] ((شرح مسلم)) (12/ 150). .
5- عن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((إنَّ فتًى شابًّا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، ائذَنْ لي بالزِّنا، فأقبَل القَومُ عليه فزَجَروه وقالوا: مَه مَه! فقال: ادْنُه، فدَنا مِنه قَريبًا. قال: فجَلسَ قال: أتَحُبُّه لأُمِّك؟ قال: لا واللَّهِ، جَعَلني اللهُ فِداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأُمَّهاتِهم. قال: أفتُحِبُّه لابنَتِك؟ قال: لا واللَّهِ يا رَسولَ اللهِ جَعَلني اللهُ فداءَك، قال: ولا النَّاس يُحِبُّونَه لبَناتِهم. قال: أفتُحِبُّه لأُختِك؟ قال: لا واللَّهِ جَعَلني اللهُ فداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأخَواتِهم. قال: أفتُحِبُّه لعَمَّتِك؟ قال: لا واللَّهِ جَعَلني اللهُ فداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لعَمَّاتِهم. قال: أفتُحِبُّه لخالتِك؟ قال: لا واللَّهِ جَعَلني اللهُ فداءَك. قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لخالاتِهم. قال: فوضعَ يَدَه عليه وقال: اللهُمَّ اغفِرْ ذَنبَه، وطَهِّرْ قَلبَه، وحَصِّنْ فرجَه. قال: فلم يَكُنْ بَعدَ ذلك الفتى يَلتَفِتُ إلى شَيءٍ)) [2295] أخرجه أحمدُ (22211) واللفظُ له، والطبراني (8/190) (7679)، والبيهقيُّ في ((شعب الإيمان)) (5415). صحَّحه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (501)، وصحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/712)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22211)، وجوَّده العراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/411). .

انظر أيضا: