تمهيدٌ في أهميَّةِ الفتوَى
(الإفتاءُ عَظيمُ الخَطَرِ كَبيرُ المَوقِعِ كَثيرُ الفَضلِ؛ لأنَّ المُفتيَ وارِثُ الأنبياءِ صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم، وقائِمٌ بفرضِ الكِفايةِ
[2342] يَدورُ حُكمُ الإفتاءِ بَينَ الوُجوبِ العَينيِّ والكِفائيِّ، والاستِحبابِ والكَراهةِ، والإباحةِ، بَل والحُرمةِ أحيانًا؛ نَظَرًا لاختِلافِ دَرَجةِ الحاجةِ إليها، وحالِ المُفتي، وغَيرِ ذلك. ويُنظر تَفصيلُ ذلك في ((مَوسوعة أُصولِ الفِقه بمَوقِعِ الدُّرَرِ السِّنِّيَّة)) https://dorar.net/osolfeqh ، لكِنَّه مُعَرَّضٌ للخَطَأِ؛ ولهذا قالوا: المُفتي مُوَقِّعٌ عنِ اللهِ تعالى، وعن ابنِ المُنكَدِرِ قال: العالِمُ بَينَ اللهِ تعالى وخَلقِه، فيَنظُرُ كَيف يَدخُلُ بَينَهم)
[2343] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (1/ 40). .
وتَظهَرُ أهَمِّيَّةُ الفتوى مِن خِلالِ أمورٍ؛ منها:
1- كَونُ المُفتي مُوَقِّعًا عن رَبِّ العالَمينَ:قال ابنُ القَيِّمِ: (إذا كان مَنصِبُ التَّوقيعِ عنِ المُلوكِ بالمَحَلِّ الَّذي لا يُنكَرُ فَضلُه، ولا يُجهَلُ قَدرُه، وهو مِن أعلى المَراتِبِ السَّنيَّاتِ، فكيف بمَنصِبِ التَّوقيعِ عن رَبِّ الأرضِ والسَّمواتِ؟ فحَقيقٌ بمَن أقيمَ في هذا المَنصِبِ أن يُعِدَّ له عُدَّتَه، وأن يَتَأهَّبَ له أُهبَتَه، وأن يَعلَمَ قَدْرَ المَقامِ الذي أُقيمَ فيه، ولا يَكُنْ في صَدرِه حَرَجٌ مِن قَولِ الحَقِّ والصَّدعِ به؛ فإنَّ اللَّهَ ناصِرُه وهاديه. كَيف وهو المَنصِبُ الذي تَولَّاه بنَفسِه رَبُّ الأربابِ، فقال تعالى:
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [النساء: 127] ، وكَفى بما تَولَّاه اللهُ بنَفسِه تعالى شَرَفًا وجَلالة؛ إذ يَقولُ في كِتابِه:
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [النساء: 176] ، ولْيَعلَمِ المُفتي عَمَّن يَنوبُ في فتواه، وليوقِنْ أنَّه مسؤولٌ غَدًا ومَوقوفٌ بَينَ يَدَيِ اللهِ)
[2344] ((إعلام الموقعين)) (1/ 17). .
2- المُفتي قائِمٌ في الأمَّةِ مَقامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:قد تَولَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَنصِبَ الإفتاءِ بنَفسِه؛ فقد كان الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم يَرجِعونَ إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لبَيانِ ما يَحتاجونَه مِن أحكامٍ في مَعاشِهم وحَياتِهم
[2345] يُنظر: ((الفتوى)) للدخيل (ص: 48). ، ومِن ذلك ما جاءَ عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((سَألَ رَجُلٌ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنَّا نَركَبُ البَحرَ، ونَحمِلُ مَعنا القَليلَ مِنَ الماءِ، فإن تَوضَّأنا به عَطِشْنا، أفنَتَوضَّأُ مِنَ البَحرِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتَتُه)) [2346] أخرجه أبو داود (83) واللفظ له، والترمذي (69)، والنسائي (59). صحَّحه البخاري كما في ((عارضة الأحوذي)) لابن العربي (1/91)، والترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/228)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1243). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما:
((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقَف في حَجَّةِ الوداعِ بمِنًى للنَّاسِ يَسألونَه فجاءَه رَجُلٌ، فقال: لم أشعُرْ فحَلَقتُ قَبلَ أن أذبَحَ، فقال: اذبَحْ ولا حَرَجَ، فجاءَ آخَرُ، فقال: لم أشعُرْ فنَحَرتُ قَبلَ أن أرميَ، قال: ارمِ ولا حَرَجَ...)) [2347] أخرجه البخاري (83) واللفظ له، ومسلم (1306). .
فالمُفتي قائِمٌ في الأمَّةِ مَقامَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نائِبٌ عنه في تَبليغِ الأحكامِ، والعُلَماءُ وَرَثةُ الأنبياءِ.
3- عُمومُ الحاجةِ إلى الفتوى وعِظَمُ الأثَرِ المُتَرَتِّبِ عليها:فلا بُدَّ للنَّاسِ مِن عُلَماءَ يُبَيِّنونَ لهم أحكامَ الدِّينِ؛ ليَتَسَنَّى لهمُ العَمَلُ به، فليس كُلُّ أحَدٍ يُحسِنُ النَّظَرَ في الأدِلَّةِ، واستِنباطَ الأحكامِ منها، كما قال اللهُ تعالى:
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122] [2348] يُنظر: ((الفتوى)) للدخيل (ص: 50). .
كما أنَّ فتوى المُفتي حُكمٌ عامٌّ يَتَعَلَّقُ بالمُستَفتي وبغَيرِه، فالمُفتي يَحكُمُ حُكمًا عامًّا كُلِّيًّا أنَّ مَن فعَلَ كَذا ترَتَّب عليه كَذا، ومَن قال كَذا لزِمَه كَذا
[2349] يُنظر: ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 505). .
وإنَّ المُفتيَ مِن شَأنِه إصدارُ الفتاوى في ساعَتِه بما يَحضُرُه مِنَ القَولِ، فلا يَتَهَيَّأُ له مِنَ الصَّوابِ ما يَتَهَيَّأُ لمَن أطالَ النَّظَرَ وتَثبَّت كالقاضي
[2350] يُنظر: ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 505). ، فبكَلِمةٍ واحِدةٍ يَتَرَتَّبُ على فتواه الطَّلاقُ أو صِحَّةُ النِّكاحِ، وإحلالُ الفُروجِ أو تَحريمُها، وحِلُّ الأموالِ أو تَحريمُها، وغَيرُ ذلك، (فمَن عَرَّض نَفسَه للفُتيا فقد عَرَّضَها لأمرٍ عَظيمٍ)
[2351] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (2/ 29). .
فحَريٌّ بمَنصِبٍ هذا شَأنُه ألَّا يُتَعَرَّضَ له إلَّا مَن هو أهلٌ له، مَعَ التَّأنِّي، وبَذلِ الجُهدِ، وكَثرةِ اللُّجوءِ إلى اللهِ، والتَّوقُّفِ عَمَّا لا يَعلَمُ، وألَّا يتَسارَعَ فيه، وألَّا يُقالَ فيه عن جَهلٍ أو خَجَلٍ أو هَوًى!
قال تعالى:
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل: 116-117] .
قال الزَّمَخشَريُّ: (كَفى بهذه الآيةِ زاجِرةً زَجرًا بَليغًا عنِ التَّجَوُّزِ فيما يُسألُ عنه مِنَ الأحكامِ، وباعِثةً على وُجوبِ الاحتياطِ فيه، وأن لا يَقولَ أحَدٌ في شَيءٍ: جائِزٌ أو غَيرُ جائِزٍ، إلَّا بَعدَ إيقانٍ وإتقانٍ، ومَن لم يوقِنْ فليَتَّقِ اللَّهَ وليَصمُتْ، وإلَّا فهو مُفتَرٍ على اللهِ يَومَ القيامةِ مَنصوبٌ بالظَّنِّ، وهو ظَنٌّ واقِعٌ فيه، يعني: أيُّ شَيءٍ ظَنُّ المُفتَرينَ في ذلك اليَومِ ما يُصنَعُ بهم فيه، وهو يَومُ الجَزاءِ بالإحسانِ والإساءةِ، وهو وعيدٌ عَظيمٌ؛ حَيثُ أبهَمَ أمرَه)
[2352] ((الكشاف)) (2/ 354). .
إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآدابِ التي على المُفتي أن يُراعيَها.
وكذلك يَتَوَّجَهُ على المُستَفتي أُمورٌ هو عنها مسؤولٌ، وله آدابٌ يَنبَغي مُراعاتُها، ويَقبُحُ إهمالُها.
وفيما يَلي ذِكرٌ لأهَمِّ الآدابِ المُتَعَلِّقةِ بالفتوى والمُفتي والاستِفتاءِ.