موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: ألَّا يَعمَلَ بالفتوى دونَ أن يَطمَئِنَّ لها قَلبُه


إنَّ اللَّهَ فطَرَ عِبادَه على مَعرِفةِ الحَقِّ والسُّكونِ إليه وقَبولِه، ورَكَزَ في الطِّباعِ مَحَبَّةُ ذلك والنُّفورُ عن ضِدِّه.
وقد وجَّهَ الشرع إلى الرُّجوعِ للقُلوبِ عِندَ الاشتِباهِ فما سَكَنَ إليه القَلبُ وانشَرَحَ إليه الصَّدرُ، فهو البِرُّ والحَلالُ، وما كان خِلافَ ذلك فهو الإثمُ والحَرامُ. قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَديثِ: ((والإثمُ ما حاكَ في صَدرِك وكَرِهتَ أن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ)) [2460] أخرجه مسلم (2553) من حديثِ النَّوَّاس بن سَمعان رَضِيَ اللهُ عنه. إشارةٌ إلى أنَّ الإثمَ ما أثَّرَ في الصَّدرِ حَرَجًا وضِيقًا وقَلَقًا واضطِرابًا، فلَم يَنشَرِحْ له الصَّدرُ.
وهذا على مَراتِبَ:
المَرتَبةُ الأولى: ما أثَّرَ في الصَّدرِ حَرَجًا وضِيقًا وقَلَقًا واضطِرابًا، فلَم يَنشَرِحْ له الصَّدرُ، ومَعَ هذا فهو عِندَ النَّاسِ مُستَنكَرٌ بحَيثُ يُنكِرونَه عِندَ اطِّلاعِهم عليه، وهذا أعلى مَراتِبِ مَعرِفةِ الإثمِ عِندَ الاشتِباهِ.
المَرتَبةُ الثَّانيةُ: إن أفتاه غَيرُه بأنَّه ليسَ بإثمٍ، بأن يَكونَ الشَّيءُ مُستَنكَرًا عِندَ فاعِلِه دونَ غَيرِه، وقد جَعَلَه أيضًا إثمًا، وهذا في حالةِ كَونِ المُفتي يُفتي بمُجَرَّدِ ظَنٍّ أو مَيلٍ إلى هَوًى مِن غَيرِ دَليلٍ شَرعيٍّ.
فأمَّا ما كان مَعَ المُفتي به دَليلٌ شَرعيٌّ فالواجِبُ على المُستَفتي الرُّجوعُ إليه وإن لم يَنشَرِحْ له صَدرُه، وهذا كالرُّخصةِ الشَّرعيَّةِ، مِثلُ الفِطرِ في السَّفَرِ والمَرَضِ، وقَصرِ الصَّلاةِ في السَّفَرِ، ونَحوِ ذلك مِمَّا لا يَنشَرِحُ به صُدورُ كَثيرٍ مِنَ الجُهَّالِ. فهذا لا عِبرةَ به، وقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحيانًا يَأمُرُ أصحابَه بما لا تَنشَرِحُ به صُدورُ بَعضِهم فيَمتَنِعونَ مِن قَولِه، فيَغضَبُ مِن ذلك، كَما أمَرَهم بفَسخِ الحَجِّ إلى العُمرةِ فكَرِهَه مَن كَرِهَه مِنهم [2461] عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أهلَلنا -أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الحَجِّ خالِصًا لَيسَ مَعَه عُمرةٌ، قال عَطاءٌ: قال جابِرٌ: فقدِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صُبحَ رابِعةٍ مَضَت مِن ذي الحِجَّةِ، فلَمَّا قدِمنا أمَرَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نُحِلَّ، وقال: أَحِلُّوا وأصيبوا مِنَ النِّساءِ، قال عَطاءٌ: قال جابِرٌ: ولم يَعزِمْ عليهم، ولَكِن أحَلَّهنَّ لَهم، فبَلَغَه أنَّا نَقولُ: لَمَّا لَم يَكُنْ بَينَنا وبَينَ عَرَفةَ إلَّا خَمسٌ أمَرَنا أن نَحِلَّ إلى نِسائِنا، فنَأتيَ عَرَفةَ تَقطُرُ مَذاكيرُنا المَذيَ! قال: ويَقولُ جابِرٌ بيَدِه هَكَذا، وحَرَّكَها، فقامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: قد عَلِمتُم أنِّي أتقاكُم للهِ وأصدَقُكُم وأبَرُّكُم، ولَولا هَدْيي لَحَلَلتُ كَما تَحِلُّونَ، فحِلُّوا، فلَوِ استَقبَلتُ مِن أمري ما استَدبَرتُ ما أهدَيتُ، فحَلَلنا وسَمِعنا وأطَعنا)). أخرجه البخاري (7367) واللَّفظُ له، ومسلم (1216). ، وكَما أمَرَهم بنَحرِ هَديِهم والتَّحَلُّلِ مِن عُمرةِ الحُدَيبيَةِ فكَرِهوه وكَرِهوا مُفاوضَتَه لقُرَيشٍ على أن يَرجِعَ مِن عامِه، وعلى أنَّ مَن أتاه مِنهم يَرُدُّه إليهم [2462] ينظر ما أخرجه البخاري (2731، 2732). . فما ورَدَ النَّصُّ به فليس للمُؤمِنِ إلَّا طاعةُ اللهِ ورَسولِه، كما قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36] ، ويَنبَغي أن يَتَلَقَّى ذلك بانشِراحِ الصَّدرِ والرِّضا؛ فإنَّ ما شَرَعَه اللهُ ورَسولُه يَجِبُ الإيمانُ والرِّضا به والتَّسليمُ له، كَما قال اللهُ تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
وأمَّا ما ليسَ فيه نَصٌّ مِنَ اللهِ ولا رَسولِه، ولا عَمَّن يُقتَدى بقَولِه مِنَ الصَّحابةِ وسَلَفِ الأمَّةِ، فإذا وقَعَ في نَفسِ المُؤمِنِ المُطَمئِنِّ قَلبُه بالإيمانِ المُنشَرِحِ صَدرُه بنورِ المَعرِفةِ واليَقينِ منه شَيءٌ، وحاكَ في صَدرِه بشُبهةٍ مَوجودةٍ، ولم يَجِدْ مَن يُفتي فيه بالرُّخصةِ إلَّا مَن يُخبِرُ عن رَأيِه، وهو مِمَّن لا يوثَقُ بعِلمِه وبِدينِه، بَل هو مَعروفٌ باتِّباعِ الهَوى، فهنا يَرجِعُ المُؤمِنُ إلى ما حاكَ في صَدرِه، وإن أفتاه هؤلاء المُفْتون.
قال ابنُ القَيِّمِ: (لا يَجوزُ له العَمَلُ بمُجَرَّدِ فتوى المُفتي إذا لم تَطمَئِنَّ نَفسُه، وحاكَ في صَدرِه مِن فتواه، وتَرَدَّدَ فيها؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «استَفتِ نَفسَك... وإن أفتاك النَّاسُ وأفتَوك» [2463] لَفظُه: عن وابِصةَ بنِ مَعبَدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أُريدُ ألَّا أدَعَ شَيئًا منَ البِرِّ والإثمِ إلَّا سَألتُه عنه، وإذا عِندَه جَمعٌ، فذَهَبتُ أتَخَطَّى النَّاسَ، فقالوا: إلَيك يا وابِصةُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلَيك يا وابِصةُ، فقُلتُ: أنا وابِصةُ، دَعوني أدنو منه؛ فإنَّه مِن أحَبِّ النَّاسِ إلَيَّ أن أدنوَ منه، فقال لي: ادنُ يا وابِصةُ، ادنُ يا وابِصةُ، فدَنَوتُ منه حتَّى مَسَّت رُكبَتي رُكبَتَه، فقال: يا وابِصةُ أُخبِرُكَ ما جِئتَ تَسألُني عنه، أو تَسألُني؟ فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، فأخبِرْني، قال: جِئتَ تَسألُني عنِ البِرِّ والإثمِ؟ قُلتُ: نَعَمْ، فجَمَعَ أصابِعَه الثَّلاثَ فجَعَلَ يَنكُتُ بها في صَدري، ويَقولُ: يا وابِصةُ، استَفتِ نَفسَكَ، البِرُّ ما اطمَأنَّ إلَيه القَلبُ، واطمَأنَّت إلَيه النَّفسُ، والإثمُ ما حاكَ في القَلبِ، وتَرَدَّدَ في الصَّدرِ، وإن أفتاكَ النَّاسُ وأفتَوكَ)). أخرجه أحمد (18001) واللفظ له، والدارمي (2575)، وأبو يعلى (1586). حسَّنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1734)، وحسَّن إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/23). وذهب إلى تحسينه النووي في ((الأذكار)) (504)، والشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/284). ، فيَجِبُ عليه أن يَستَفتيَ نَفسَه أوَّلًا. ولا تُخَلِّصُه فتوى المُفتي مِنَ اللهِ إذا كان يَعلَمُ أنَّ الأمرَ في الباطِنِ بخِلافِ ما أفتاه، كَما لا يَنفَعُه قَضاءُ القاضي له بذلك، كَما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَن قَضَيتُ له بشَيءٍ مِن حَقِّ أخيه فلا يَأخُذْه؛ فإنَّما أقطَعُ له قِطعةً مِن نارٍ» [2464] أخرجه البخاري (6967)، ومسلم (1713) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ولفظُ البخاري: ((إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّكُم تَختَصِمونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعضَكُم أن يَكونَ ألحَنَ بحُجَّتِه مِن بَعضٍ، وأقضيَ لَه على نَحوِ ما أسمَعُ، فمَن قَضَيتُ لَه مِن حَقِّ أخيه شَيئًا فلا يَأخُذْ؛ فإنَّما أقطَعُ لَه قِطعةً مِنَ النَّارِ)). . والمُفتي والقاضي في هذا سَواءٌ، فلا يَظُنَّ المُستَفتي أنَّ مُجَرَّدَ فتوى الفقيهِ تُبيحُ له ما سَألَ عنه، إذا كان يَعلَمُ أنَّ الأمرَ بخِلافِه في الباطِنِ، سَواءٌ تَرَدَّدَ أو حاكَ في صَدرِه؛ لعِلمِه بالحالِ في الباطِنِ، أو لشَكِّه فيه، أو لجَهلِه به، أو لعِلمِه جَهلَ المُفتي، أو مُحاباتِه في فتواه، أو عَدَمِ تَقَيُّدِه بالكِتابِ والسُّنَّةِ، أو لأنَّه مَعروفٌ بالفتوى بالحيَلِ والرُّخَصِ المُخالِفةِ للسُّنَّةِ، وغَيرِ ذلك مِنَ الأسبابِ المانِعةِ مِنَ الثِّقةِ بفتواه، وسُكونِ النَّفسِ إليها. فإن كان عَدَمُ الثِّقةِ والطُّمَأنينةِ لأجلِ المُفتي سَألَ ثانيًا وثالِثًا حتَّى تَحصُلَ له الطُّمَأنينةُ، فإن لم يَجِدْ فلا يُكَلِّفُ اللهُ نَفسًا إلَّا وُسعَها، والواجِبُ تَقوى اللهِ بحَسَبِ الاستِطاعةِ) [2465] ((إعلام الموقعين)) (5/ 168، 169). .

انظر أيضا: