فوائِدُ مُتَفرِّقةٌ
1- قال الخَطيبُ البَغداديُّ: (قال بَعضُ الأُدَباءِ: البُخلُ بالعِلمِ على غَيرِ أهلِه قَضاءٌ لحَقِّه ومَعرِفةٌ بفَضلِه، وكان بَعضُ أهلِ العِلمِ إذا أتاه رَجُلٌ يَستَفيدُ مِنه عِلمًا، أو يَستَعيرُ مِنه كِتابًا، امتَحَنَه فإن وجَدَه أهلًا له أعارَه، وإلَّا مَنَعَه، وكان إذا أرادَ أن يُعيرَه وعَدَه ورَدَّدَه، فإن عاد إليه ولم يَضجَرْ أعارَه، وإن لم يَعُدْ إليه كُفِي أمرَه، وعَلِم أنَّها خَطرةٌ بقَلبِه خَطَرَت، وشَهوةٌ كاذِبةٌ عَرَضَت، وكان يَقولُ: لا تُعِرْ كِتابَ عِلمٍ مَن ليسَ مِن أهلِه، واعتِبارُك ذلك بأن تَستَقريَه الكِتابَ الذي طَلبَه، فإن قَرَأه قِراءةً صحيحةً فهو مِن أهلِه، وإن لم يُحسِنْ قِراءَتَه فليسَ مِن أهلِه، فلا تُعِرْه، وكان يَقولُ: مِن حَقِّ العِلمِ إعزازُه.
وقال غَيرُه: لا تُعِرْ كِتابًا إلَّا بَعدَ يَقينٍ بأنَّ المُستَعيرَ ذو عِلمٍ ودينٍ...
رَأى بَعضُ الحُكَماءِ رَجُلًا يَبتَذِلُ كِتابًا، فقال له: بَيَّنتَ عن نَقصِك، وبَرهَنتَ عن جَهلِك؛ فما أهانَ أحَدٌ كِتابَ عِلمٍ إلَّا لجَهلِه بما فيه، وسوءِ مَعرِفتِه بما يَحويه. ورَأى آخَرُ رَجُلًا قد جَلسَ على كِتابٍ، فقال: سُبحانَ اللَّهِ! يَصونُ ثيابَه ولا يَصونُ كِتابَه، لصَونُ الكِتابِ أَولى مِن صَونِ الثِّيابِ! وكان بَعضُهم إذا سَأله إنسانٌ أن يُعيرَه كِتابًا قال: أرِني كُتُبَك، فإن وجَدَها مَصونةً مَكنونةً أعارَه، وإن رَآها مُغبَرَّةً مُتَغَيِّرةً مَنَعه.
وقيل: مَن أعارَ كِتابَ عِلمٍ غَيرَ أهلِ العِلمِ فقد جَهِل حَقَّ العِلمِ وأضاعَه.
وكان بَعضُ أهلِ العِلمِ يَكتُبُ على ظُهورِ كُتُبِه التي يُعيرُها: يا رَبِّ، مَن حَفِظَ كِتابي فاحفَظْه، ومَن أضاعَه فلا تَحفَظْه!
وكَتَب آخَرُ: ليسَ مِن أهلِ العِلمِ مَن أضاعَ كِتابَ عِلمٍ.
وكَتَب آخَرُ: الكِتابُ أمانةٌ، وهو حَقيقٌ بالصِّيانةِ.
وكَتَب آخَرُ: أكرَم اللَّهُ مَن أكرَمَك، ورَدَّك كما تَسَلَّمَك.
وكَتَب آخَرُ: كِتابي أعَزُّ شَيءٍ عليَّ، وإحسانُك إليه إحسانُك إليَّ.
وقال مُحَمَّدُ بنُ خَلَفِ بنِ المَرزُبانِ: أنشدتُ
أيُّها المُستَعيرُ مِنِّي كِتابًا
إن رَدَدتَ الكِتابَ كان صَوابَا
أنتَ واللَّهِ إن رَدَدتَ كِتابًا
كُنتَ أُعطيتَه أخَذتَ كِتابَا
قَرَأتُ في كِتابِ القاضي أبي الحُسَينِ أحمَدَ بنِ عليٍّ التَّوَّزيِّ الذي سَمِعَه مِن أبي مُحَمَّدٍ عَبدِ الحَميدِ بنِ عبدِ الرَّحيمِ التَّوَّزيِّ، قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رَجُلٍ يَستَعيرُ مِنه كِتابًا، فأعارَه وقال له: لا تَكُنْ في حَبسِك له كَصاحِبِ القِربةِ، قال: لا، ولا تَكُنْ أنتَ في ارتجاعِك له كَصاحِب المِصباحِ، قال: لا، وكان من حديثِ هَذَينِ أنَّ رَجُلًا استَعارَ مِن رَجُلٍ قِربةً على أن يَستَقيَ فيها مَرَّةً واحِدةً ثُمَّ يَرُدَّها، فاستَسقى فيها سَنةً ثُمَّ رَدَّها إليه مُتَخَرِّقةً! وأمَّا الآخَرُ فإنَّ رَجُلًا ضافه ضَيفٌ مِنَ النَّهارِ، فاستَعارَ مِن جارٍ له مِصباحًا ليُسرِجَه لضَيفِه في اللَّيلِ، فلمَّا كان بَعدَ ساعةٍ أتاه وطالبَه برَدِّه، فقال له: أعَرْتَني مِصباحًا للَّيلِ أو للنَّهارِ؟ قال: للَّيلِ، قال: فما دَخَل اللَّيلُ!
قال عَبدُ الرَّحيمِ: وأعارَ رَجُلٌ رَجُلًا كِتابًا وقال له: لا تَكُنْ كَصاحِبِ السُّلَّمِ، قال: وما مَعنى ذلك؟ قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رَجُلٍ يَستَعيرُ مِنه سُلَّمًا، فقال له: ما أُطيقُ حَملَه، قال: سُبحانَ اللَّهِ، وهَل أُكَلِّفُك حَملَه؟ أنا أحمِلُه، قال: صَدَقتَ أنتَ تَحمِلُه ولا تَرُدُّه، فأحتاجُ إلى أن أجيءَ وأحمِلَه!
قال: وسَأل رَجُلٌ رَجُلًا أن يُعيرَه كِتابًا، فأبى عليه، فقال: خُذْ مِنِّي رَهنًا، فقال: مَن وجَبَ أن يَستُرَهنَ على عِلمٍ فواجِبٌ ألَّا يُعارَ.
قال: وسَأل رَجُلٌ رَجُلًا أن يُعيرَه كِتابًا، فقال: عليَّ يَمينٌ أن لا أُعيرَ كِتابًا إلَّا برَهنٍ، قال: فهذا كِتابٌ استَعَرتُه مِن فُلانٍ فأترُكُه رَهنًا عِندَك! فقال: أخافُ أن تَرهَنَ كِتابي كما رَهَنتَ كِتابَ غَيري!
قال مُحَمَّدُ بنُ خَلفِ بنِ المَرزُبانِ: أنشدتُ
أعِرِ الدَّفتَرَ للصَّاحِبِ
بالرَّهنِ الوَثيقِ
إنَّه ليسَ قَبيحًا
أخذُ رَهنٍ مِن صَديقِ
استَعارَ رَجُلٌ مِن أبي حامِدٍ أحمَدَ بنِ أبي طاهِرٍ الأسفَرائينيِّ الفقيهِ كِتابًا، فرَآه أبو حامِدٍ يَومًا وقد أخَذَ عليه عِنَبًا، ثُمَّ إنَّ الرَّجُلَ سَأله بَعدَ ذلك أن يُعيرَه كِتابًا، فقال: تَأتيني إلى المَنزِلِ، فأتاه فأخرجَ الكِتابَ إليه في طَبَقٍ وناوَله إيَّاه، فاستَنكَرَ الرَّجُلُ ذلك، وقال: ما هذا؟! فقال له أبو حامِدٍ: هذا الكِتابُ الذي طَلبتَه، وهذا طَبَقٌ تَضَعُ عليه ما تَأكُلُه! فعَلِمَ بذلك ما كان مِن ذَنبِه.
قَرَأتُ في كِتابِ أبي الحُسَينِ بنِ التَّوَّزيِّ سَماعَه مِن عَبدِ الحَميدِ بنِ عبدِ الرَّحيمِ، قال: استَعارَ رَجُلٌ مِن بَعضِ أهلِ العِلمِ كِتابًا، ثُمَّ رَدَّه إليه بَعدَ حينٍ مُتَكَسِّرًا مُتَغَيِّرًا، عليه آثارُ البُزورِ وغَيرِه، فسَأله أن يُعيرَه غَيرَه، فقال له: ما أحسَنتَ ضيافةَ الأوَّلِ؛ فنُضيفَك الثَّانيَ!
قال: واستَعارَ رَجُلٌ مِن رَجُلٍ كِتابًا بنَفسِه، ثُمَّ رَدَّه مَعَ غُلامٍ له، فكَتَبَ إليه: ليسَ مِن حَقِّ العِلمِ أن يُمَكَّنَ مِنه غَيرُ أهلِ العِلمِ، وقد كان يَنبَغي أن تَكونَ الكَرامةُ في رَدِّه كالكَرامةِ في أخذِه، وإنَّك لمَّا أخَذتَه بنَفسِك وجَبَ أن تَرُدَّه بنَفسِك، فكَتَبَ إليه: إنَّ الغُلامَ الذي أنفذتُه مَعَه مُؤتَمَنٌ على المالِ، فكَتَبَ إليه: العِلمُ أفضَلُ مِنَ المالِ، وليسَ كُلُّ مُؤتَمَنٍ على المالِ يُؤتَمَنُ على العِلمِ، والمالُ يَعرِفُ قَدرَه كُلُّ أحَدٍ؛ فهو يَصونُه ويُعَظِّمُه، وليسَ العِلمُ كذلك، ولم يُعِرْه شَيئًا بَعدَ ذلك.
قال مُسافِرُ بنُ الحَسَنِ أحَدُ أُدَباءِ خُراسانَ:
أجودُ بجُلِّ مالي لا أُبالي
وأبخَلُ عِندَ مَسألةِ الكِتابِ
وذاكَ لأنَّني أنفَقتُ حِرصًا
على تَحصيلِه شَرخَ الشَّبابِ
قال أبو ضياءٍ بِشرُ بنُ يَحيى القتَبيُّ: حَدَّثَني بَعضُ البَصريِّينَ، قال: أعارَني رَجُلٌ مِن وُجوهِ بَني هاشِمٍ بالبَصرةِ دَفتَرًا، فضاعَ، فتَفجَّع لذلك، فاعتَذَرتُ إليه وقُلتُ:
يا مالكًا ما تَزالُ راحَتُه
تُعطي المَعالي وتَبسُطُ النِّعَما
هَبْ لمُقِرٍّ بالذَّنبِ مُعتَرِفٍ
بواسِعِ العَفوِ مِنك ما اجتَرَما
أعَرتَه دَفتَرًا تَضَنُّ به
فخانَه الدَّهرَ فيه فاصطَلَما
[2489] الصَّادُ واللَّامُ والميمُ: أصلٌ واحِدٌ يدُلُّ على قَطعٍ واستئصالٍ، واصطَلَم القومُ: إذا أُبيدوا من أصلِهم. يُنظر: ((العين)) للخليل (7/ 129)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/ 299). إعظامُك العِلمَ إذ فُجِعتَ به
يَزيدُ عِندي خَطيئَتي عِظَمَا
ذَكَرَ أبو الحُسَينِ بنُ التَّوَّزيِّ أنَّ عَبدَ الحَميدِ بنَ عبدِ الرَّحيمِ أنشَدَه:
أجَلُّ مَصائِبِ الرَّجُلِ العليمِ
مَصائِبُه بأسفارِ العُلومِ
إذا فقَدَ الكِتابَ فذاكَ خَطبٌ
عَظيمٌ قد يَجِلُّ عنِ العَظيمِ
وكَم قد ماتَ مِن أسَفٍ عليها
أُناسٌ في الحَديثِ وفي القديمِ)
[2490] يُنظر: ((تقييد العلم)) (ص: 146-150). .
2- قال الرَّاغِبُ الأصفهانيُّ: (قال بَعضُ الشُّعَراءِ:
إنِّي حَلفتُ برَبِّ البَيتِ والحَرَمِ
هَل فوقَها حَلفةٌ تُرجَى لذي قَسَمِ
أن لا أُعيرَ كِتابًا فيه لي أَرَبٌ
إلَّا أخا ثِقةٍ عِندي وذا كَرَمِ
كَتَبَ كُشاجِمٌ إلى صَديقٍ له:
غَدرتَ بحَبسِ دَفتَرِنا
وعَهدي بالأديبِ ثِقَه
ولستُ أحِبُّ للأدَبا
ءِ أن يَتَأدَّبوا سَرِقَه
وقال أبو العِبَرِ في سَخَفيَّاتٍ له: حَدَّثَني لحيانُ عن موسى الفَهَّادِ، عن رَجُلٍ مِن أهلِ جرجرايا، عن شَيخٍ مِن بادرويا، أنَّ السِّفلةَ مَن إذا استَعارَ كِتابًا لم يَرُدَّه!
قال الشَّريفُ ابنُ طباطبا:
إذا فَجَعَ الدَّهرُ امرَأً بخَليلِه
تَسَلَّى ولا يُسَلَّى لفَجعِ الدَّفاتِرِ)
[2491] ((محاضرات الأدباء)) (1/ 151، 153). .
3- قال أبو سَعدٍ السَّمعانيُّ: أنشَدَنا أبو مُحَمَّدٍ عَبدُ اللَّهِ بنُ نَصرٍ السُّويديُّ مَن أهلِ أذرَبيجانَ لنَفسِه مِن لفظِه، وكَتَبَ لي بخَطِّه:
أعِرْ صَديقَك ما حَصَلتَ مِن كُتُبٍ
تَفُزْ بشُكرِ أريجِ النَّشرِ عن كَثَبِ
فإن أعاروك فاردُدْها على عَجَلٍ
حتَّى تُعارَ بلا مَنعٍ ولا نَصَبِ
سَمِعتُ أبا عَبدِ اللَّهِ عَبدَ الغَفَّارِ بنَ إبراهيمَ القُزوينيَّ بحُلوانَ يَقولُ: حَبَسَ رَجُلٌ على الحمدونيِّ كُتُبًا استَعارَها مِنه، فكَتَبَ إليه:
ما بالُ كُتُبي في يَدَيك رَهينةً
حُبِسَت على كَرِّ الزَّمانِ الأوَّلِ
فأْذَنْ لها في الانصِرافِ فإنَّها
كَنزٌ عليه إذا افتَقَرتُ مِعوَلي
ولقد تَغَنَّت حينَ طالَ مُقامُها
طالَ الثَّواءُ على رُسومِ المَنزِلِ
[2492] ((أدب الإملاء والاستملاء)) (ص: 176). 4- قال القاسِميُّ: (الكُتُبُ مَوضوعُها وثَمَرَتُها أن تُتَبادَلَ وتُتَداوَلَ ليَعُمَّ النَّفعُ بها، وتُجتَنى فوائِدُها... ولكِن على المُعيرِ والمُستَعيرِ آدابٌ يَتَحَتَّمُ مُراعاتُها:
فيَلزَمُ المُعيرَ ضَربُ مُدَّةٍ لمُراجَعَتِه، وتَخَيُّرُ أهلِ المُروءةِ والكَمالِ للإعارةِ بدَقيقةِ التَّفرُّسِ.
وعلى المُستَعيرِ رَدُّه في الميعادِ المَضروبِ، وحِفظُه مِنَ الابتِذالِ، وصَونُه مِمَّا يُعَرِّضُه للاتِّساخِ والامتِهانِ، ووضعُه بَعدَ المُطالَعةِ في الخِزانةِ، وإبعادُ المحبَرةِ عن ورَقِه، والشُّكرُ لمُعيرِه، والتَّبَرُّعُ بتَجليدِه إذا كان يَسمَحُ صاحِبُه ويَرضى به، والسَّعيُ بطَبعِه إذا كان مِمَّا يَعُمُّ النَّفعُ به.
ولمَّا كان الأكثَرُ لا يُراعي هذه الآدابَ ضَنَّ النَّاسُ بما لدَيهم -والحَقُّ لهم-؛ ولذا كان مِنَ الحَسَناتِ الجَليلةِ إقامةُ مَكتَباتٍ عامَّةٍ، وإرصادُ المَوقوفاتِ فيها؛ صَونًا لها من تَلاعُبِ مَن لا ذِمَّةَ لهم ولا دينَ مِن مستعيريها الخائِنينَ)
[2493] ((جوامع الآداب)) (ص: 222). .