موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: قَرارُ المَرأةِ في البَيتِ وألَّا تَخرُجَ إلَّا لحاجةٍ


الأصلُ قَرارُ المَرأةِ في بَيتِها، وألَّا تَخرُجَ مِنه إلَّا لحاجةٍ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والآثار:
أ- مِنَ الكِتابِ:
قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب: 33] .
أي: والزَمْنَ -يا نِساءَ النَّبيِّ- بُيوتَكُنَّ، فلا تَخرُجْنَ مِنها لغَيرِ حاجةٍ.
وفي هذا مَشروعيَّةُ قَرارِ المَرأةِ في بَيتِها، فمَعنى هذه الآيةِ الأمرُ بلُزومِ البَيتِ، والخِطابُ وإن كان لنِساءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -وهو يَقتَضي وُجوبَ مُكثِ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بُيوتِهنَّ، وألَّا يَخرُجنَ إلَّا لضَرورةٍ، وجاءَ في الحَديثِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أُذِن لكنَّ أن تَخرُجنَ لحَوائِجِكُنَّ)) [433] لفظه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَما ضُرِبَ الحِجَابُ لِحَاجَتِهَا، وكَانَتِ امْرَأَةً جَسِيمَةً لا تَخْفَى علَى مَن يَعْرِفُهَا، فَرَآهَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَقالَ: يا سَوْدَةُ، أما واللَّهِ ما تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَانْظُرِي كيفَ تَخْرُجِينَ، قالَتْ: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً، ورَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في بَيْتِي، وإنَّه لَيَتَعَشَّى وفي يَدِهِ عَرْقٌ، فَدَخَلَتْ فَقالَتْ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَقالَ لي عُمَرُ كَذَا وكَذَا، قالَتْ: فأوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ عنْه، وإنَّ العَرْقَ في يَدِهِ ما وضَعَهُ، فَقالَ: إنَّه قدْ أُذِنَ لَكُنَّ أنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ أخرجه البخاري (4795) واللفظُ له، ومسلم (2170). -فقد دَخَل غَيرُهنَّ فيه بالمَعنى -على أحَدِ القَولينِ-، هذا لو لم يَرِد دَليلٌ يَخُصُّ جَميعَ النِّساءِ، كَيف والشَّريعةُ طافِحةٌ بلُزومِ النِّساءِ بُيوتَهنَّ، والانكِفافِ عنِ الخُروجِ مِنها إلَّا لحاجةٍ [434] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (25/ 188، 198). ؟!
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((المَرأةُ عَورةٌ [435] العَورةُ: السَّوءةُ وكُلُّ ما يُستَحيا مِنه إذا ظَهَرَ، والمَرأةُ عَورةٌ؛ لأنَّها إذا ظَهَرَت يُستحيا مِنها، وقيل: أصلُ العَورةِ مِنَ العارةِ، أي: المَذَمَّةِ؛ ولذلك سُمِّيَ النِّساءُ عَورةً، أي: أنَّ المَرأةَ مَوصوفةٌ بهذه الصِّفةِ، وما كان هذه صِفتَه، فمِن حَقِّه أن يُستَرَ. ويُحتَمَلُ أن يَكونَ مَعنى قَولِه: ((المَرأةُ عَورةٌ)) أنَّها ذاتُ عَورةٍ، ولمَّا كان مِن شَأنِ العَورةِ أن تَكونَ مَستورةً مَحجوبةً، ويُستحيا مِن كَشفِها، ويُستَنكَفُ مِن هَتكِ حُرمَتِها، وكان شَأنُ المَرأةِ في تَبَرُّزِها وتَبَرُّجِها شَبيهًا بكَشفِ العَورةِ، سَمَّاها هنالكَ عَورةً. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 665)، ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) (3/ 742). ، فإذا خَرَجَت استَشرَفَها [436]استَشرَف: إذا نَظَرَ إلى شَيءٍ عنِ الاحتياطِ والتَّأمُّلِ، واستَشرَفتُ الشَّيءَ: إذا اطَّلعتَ عليه. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 665)، ((المفاتيح)) للمظهري (4/ 23). الشَّيطانُ)) [437] أخرجه الترمذي (1173) واللفظُ له، وابن خزيمة (1685)، وابن حبان (5599) مطولًا. صحَّحه ابنُ حبان، والدارقطنيُّ في ((العلل)) (ص905)، وابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (3/92)، وابنُ القطان في ((النظر في أحكام النظر)) (137)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (1173). .
استَشرَفها الشَّيطانُ: يَعني رَفَع البَصَرَ إليها ليُغويَها أو يُغويَ بها، فيوقِعَ أحَدَهما أو كِليهما في الفِتنةِ. وقيل: المُرادُ شَيطانُ الإنسِ، سَمَّاه به على التَّشبيهِ، بمَعنى أنَّ أهلَ الفِسقِ إذا رَأوها بارِزةً طَمَحوا بأبصارِهم نَحوَها، والاستِشرافُ فِعلُهم، لكِن أُسنِدَ إلى الشَّيطانِ لِما أُشرِبَ في قُلوبِهم مِنَ الفُجورِ، ففعَلوا ما فعَلوا بإغوائِه وتَسويلِه وكَونِه الباعِثَ عليه.
والمَعنى المُتَبادِرُ أنَّها ما دامَت في خِدرِها لم يَطمَعِ الشَّيطانُ فيها وفي إغواءِ النَّاسِ، فإذا خَرَجَت طَمِعَ وأطمَعَ؛ لأنَّها حَبائِلُه وأعظَمُ فُخوخِه، وأصلُ الاستِشرافِ وَضعُ الكَفِّ فوقَ الحاجِبِ ورَفعُ الرَّأسِ للنَّظَرِ [438] يُنظر: ((تحفة الأبرار)) للبيضاوي (2/ 338)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (7/ 2272، 2273)، ((فيض القدير)) للمناوي (6/ 266). وقال التُّوربِشتيُّ: (الأصلُ في الاستِشرافِ: رَفعُ البَصَرِ للنَّظَرِ إلى الشَّيءِ، وبَسطُ الكَفِّ فوقَ الحاجِبِ كَهَيئةِ المُستَظِلِّ مِنَ الشَّمسِ... وفي الحَديثِ وُجوهٌ، أحَدُها: أنَّه يَنظُرُ إليها ويَطمَحُ ببَصَرِه نَحوَها، ليُغويَها أو يُغويَ بها. وثانيها: أنَّ أهلَ الرِّيبةِ إذا رَأوها بارِزةً مِن خِدرِها استَشرَفوها؛ لِما بَثَّ الشَّيطانُ في نُفوسِهم مِنَ الشَّرِّ، وألقى في قُلوبِهم مِنَ الزَّيغِ، فأضاف العَمَلَ إلى الشَّيطانِ؛ لكَونِه الباعِثَ على استِشرافِهم إيَّاها. وثالثُها: أنَّه يَودُّ أنَّها على شَرَفٍ مِنَ الأرضِ؛ لتَكونَ مُعرَّضةً له. ورابعُها: أنَّه أرادَ أنَّ الشَّيطانَ يُصيبُها بعَينِه، فتَصيرُ مِنَ الخَبيثاتِ بَعدَ أن كانت مِنَ الطَّيِّباتِ، مِن قَولِهم: استَشرَفتُ إبِلَهم، أي: تعيَّنتُها). ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) (3/ 742، 743). .
2- عن أبي واقِدٍ اللَّيثيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ لأزواجِه في حَجَّةِ الوداعِ: ((هذه ثُمَّ ظُهورُ الحُصُرِ [439] الحُصُرُ: جَمعُ حَصيرٍ، والمُرادُ: لا تَخرُجنَ مِن بُيوتِكُنَّ بَعدَ هذه الحَجَّةِ. يُنظر: ((التحبير لإيضاح معاني التيسير)) للصنعاني (3/ 493). ) [440] أخرجه أبو داود (1722) واللفظ له، وأحمد (21910). صحَّحه لغيرِه الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (1170)، وحسَّنه لغيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (21910)، وصحَّح إسنادَه ابنُ حجرٍ في ((فتح الباري)) (4/88)، وجوَّده ابن الملقن في ((شرح البخاري)) (11/41). .
وهذا كِنايةٌ عن لُزومِ البَيتِ، وتَركِ الخُروجِ [441] ((جامع الأصول)) لابن الأثير (3/ 438). .
3- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا حَجَّ بنِسائِه، قال: ((إنَّما هيَ هذه الحَجَّةُ، ثُمَّ الزَمنَ ظُهورَ الحُصُرِ)) [442] أخرجه أحمد (9765) واللفظ له، والطبراني (24/33) (89)، والبيهقي (10237). صحَّحه الهيثميُّ في ((مجمع الزوائد)) (3/217)، وحسَّن إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (2/202)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9765). .
ج- من الآثارِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّما النِّساءُ عَورةٌ، وإنَّ المَرأةَ لتَخرُجُ مِن بَيتِها، وما بها مِن بَأسٍ، فيَستَشرِفُ لها الشَّيطانُ، فيَقولُ: إنَّك لا تَمُرِّينَ بأحَدٍ إلَّا أعجَبتِه، وإنَّ المَرأةَ لتَلبَسُ ثيابَها، فيُقالُ: أينَ تُريدينَ؟ فتَقولُ: أعودُ مَريضًا، أو أشهَدُ جِنازةً، أو أصَلِّي في مَسجِدٍ، وما عَبَدَتِ امرَأةٌ رَبَّها مِثلَ أن تَعبُدَه في بَيتِها) [443] أخرجه ابن خزيمة في ((التوحيد)) (1/44)، والطبراني (9/208) (8914) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7434). صحَّحه الدارقطنيُّ في ((العلل)) (ص905)، والألبانيُّ في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (348). .
قال المُنذِريُّ: (فيَستَشرِفُها الشَّيطانُ: أي: يَنتَصِبُ، ويَرفعُ بَصَرَه إليها، ويُهِمُّ بها؛ لأنَّها قد تَعاطَت سَبَبًا مِن أسبابِ تَسَلُّطِه عليها، وهو خُروجُها مِن بَيتِها) [444] ((الترغيب والترهيب)) (1/ 228). .

انظر أيضا: