موسوعة الآداب الشرعية

أولًا: المَشيُ باعتدالٍ، وبسَكينةٍ وتَواضُعٍ مِن غَيرِ خُيَلاءَ ولا تَكَبُّرٍ


مِن أدَبِ المَشيِ: أن يَكونَ باعتدالٍ، وبتَواضُعٍ وسَكينةٍ ووقارٍ، مِن غَيرِ خُيَلاءَ ولا تَبَختُرٍ ولا تَكَبُّرٍ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقانِ: 63] .
يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا أي: ساكِنينَ مُتَواضِعينَ للهِ والخَلقِ، فهذا وصفٌ لهم بالوَقارِ والسَّكينةِ والتَّواضُعِ للهِ ولعِبادِه [542] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 586). قال السَّمَرقَنديُّ: (قال مُجاهدٌ: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا قال: في طاعةِ اللهِ مُتَواضِعينَ. ويُقالُ: هَوْنًا أي: هَينًا لا جَورَ مِنهم على أحَدٍ ولا أذًى. ويُقالُ: هَوْنًا يَعني: سَكينةً ووَقارًا وحِلمًا). ((بحر العلوم)) (2/ 544). .
2- قال تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء: 37] .
أي: ولا تَمشِ في الأرضِ مُختالًا مُتَبَختِرًا مُتَمايِلًا مُتَكبِّرًا، كمِشيةِ الجَبَّارينَ؛ إنَّك -أيُّها المُتَكبِّرُ المُتَعاظِمُ في مَشيِه- لن تَثقُبَ الأرضَ بشِدَّةِ وَطءِ قَدَميك عِندَ اختيالِك في مَشيِك، ولن يَبلُغَ طولُك -بتَطاوُلِ بَدَنِك للأعلى في مِشيَتِك- طولَ الجِبالِ؛ فما الذي يُغريك بهذه المِشيةِ، وقُدرتُك لا تَبلُغُ بك هذا المَبلَغَ؟! فتَواضَعْ ولا تَتَكبَّرْ، واعرِفْ قَدرَ ضَعفِك وعَجزِك؛ فأنتَ مَحصورٌ بينَ جَمادينِ لا تَقدِرُ على التَّأثيرِ فيهما؛ الأرضِ التي تَحتَك، والجِبالِ الشَّامِخةِ مِن فَوقِك [543] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (14/ 193، 194). !
3- قال تعالى حِكايةً عن لُقمانَ رَضِيَ اللهُ عنه فيما أوصى به ابنَه: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لُقمان: 18-19] .
ذَكَر لُقمانُ رَضِيَ اللهُ عنه لابنِه الآدابَ في مُعامَلةِ النَّاسِ؛ فنَهاه عَنِ احتِقارِهم، وعَنِ التَّفاخُرِ عليهم، وهذا يَقتَضي أمرَه بإظهارِ مُساواتِه مَعَ النَّاسِ، وعَدَّ نَفسِه كواحِدٍ مِنهم، فيَقولُ: لا تُمِلْ خَدَّك وتُعرِضْ بوَجهِك عَنِ النَّاسِ؛ تَكبُّرًا عليهم، وتَهاوُنًا واستِحقارًا لشَأنِهم، ولا تَمشِ في الأرضِ فرَحًا مُتَبَختِرًا؛ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُتَكبِّرٍ، مَزهوٍّ، مُعجَبٍ بنَفسِه، شَديدِ الفَخرِ على النَّاسِ بما أُعطي مِنَ النِّعَمِ.
ولمَّا نهى لُقمانُ ابنَه عنِ الخُلُقِ الذَّميمِ أمَرَه بالخُلُقِ الكَريمِ، فبَعدَ أن بَيَّنَ آدابَ حُسنِ المُعامَلةِ مَعَ النَّاسِ قَفَّاها بحُسنِ الآدابِ في حالتِه الخاصَّةِ، وتلك حالتا المَشيِ والتَّكَلُّمِ، وهما أظهَرُ ما يَلوحُ على المَرءِ مِن آدابِه، فقال: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [544] قال ابنُ كَثيرٍ: (قَولُه: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي: امشِ مَشيًا مُقتَصِدًا ليسَ بالبَطيءِ المُتَثَبِّطِ، ولا بالسَّريعِ المُفرِطِ، بَل عَدلًا وسَطًا بَينَ بَينَ). ((تَفسير القُرآن العَظيم)) (6/ 339). قال البِقاعيُّ: (لمَّا كان في أُسلوبِ التَّواضُعِ وذَمِّ الكِبرِ ذَكَّرَه بأنَّ أصلَه تُرابٌ، وهو لا يَقدِرُ أن يَعدوَه، فقال: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا أيِ: اختيالًا وتَبَختُرًا، أي لا تَكُنْ مِنك هذه الحَقيقةُ؛ لأنَّ ذلك مَشيُ أشَرٍ وبَطَرٍ وتَكَبُّرٍ، فهو جَديرٌ بأن يَظلِمَ صاحِبُه ويُفحِشَ ويَبغيَ، بَل امشِ هَونًا؛ فإنَّ ذلك يُفضي بك إلى التَّواضُعِ، فتَصِلُ إلى كُلِّ خَيرٍ، فتَرفُقُ بك الأرضُ إذا صِرتَ فيها حَقيقةً بالكَونِ في بَطنِها). ((نظم الدرر)) (15/ 177). ، أي: وتَوسَّطْ واعتَدِلْ في مِشيَتِك بلا تَكَبُّرٍ ولا استِعجالٍ، بَل امشِ بسَكينةٍ ووقارٍ وتَواضُعٍ، بلا سُرعةٍ ولا تَباطُؤٍ. وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي: واخفِضْ مِن صَوتِك، فلا تَرفَعْه مِن غَيرِ حاجةٍ. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوتُ الْحَمِيرِ أي: إنَّ أقبَحَ الأصواتِ وأشنَعَها لصَوتُ الحَميرِ إذا رَفعَت صَوتَها بالنَّهيقِ [545] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرَر السَّنيَّة (24/ 339-341). !
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بَينَما رَجُلٌ يَتَبَختَرُ يَمشي في بُردَيه قد أعجَبَته نَفسُه فخَسَف اللهُ به الأرضَ، فهو يَتَجَلجَلُ [546] الجَلجَلةُ: صَوتٌ مَعَ حَرَكةٍ، والمُرادُ: أنَّه يَسوخُ في الأرضِ، أي: يَغوصُ فيها. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (10/ 621)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 261). فيها إلى يَومِ القيامةِ)) [547] أخرجه البخاري (5789)، ومسلم (2088) واللَّفظُ له. .
2- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بَينَما رَجُل يَجُرُّ إزارَه مِنَ الخُيَلاءِ خُسِف به، فهو يَتَجَلجَلُ في الأرضِ إلى يَومِ القيامةِ)) [548] أخرجه البخاري (3485). .
3- عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما مِن رَجُلٍ يَتَعاظَمُ في نَفسِه ويَختالُ في مِشيَتِه إلَّا لقيَ اللَّهَ وهو عليه غَضبانُ)) [549] أخرجه أحمد (5995)، والحاكم (201) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (7817). صَحَّحه الحاكِمُ وقال: على شَرطِ الشَّيخَينِ، والألباني في ((صحيح الجامع)) (5711)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (718)، وقال الذهبي في ((الكبائر)) (196): على شرط مسلم. .
4- عن بُسرِ بنِ جِحاشٍ القُرَشيِّ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بزَقَ يَومًا في كَفِّه، فوضَعَ عليها أُصبُعَه، ثُمَّ قال: قال اللهُ: ابنَ آدَمَ أنَّى تُعجِزُني وقد خَلقتُك مِن مِثلِ هذه؟! حتَّى إذا سَوَّيتُك وعَدَّلتُك مَشَيتَ بَينَ بُردَينِ [550] البُرُدُ: نَوعٌ مِنَ الثِّيابِ مَعروفٌ فيه خُطوطٌ، وخَصَّ بَعضُهم به الوَشْيَ. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (14/ 76)، ((طرح التثريب)) للعراقي (8/ 168). وللأرضِ مِنك وَئيدٌ [551] الوئيدُ: صَوتُ شِدَّةِ الوَطءِ على الأرضِ يُسمَعُ كالدَّويِّ مِن بُعدٍ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/ 143). ، فجَمَعتَ ومَنَعتَ، حتَّى إذا بَلغَتِ التَّراقيَ [552] التَّراقي: جَمعُ تَرقُوةٍ، وهيَ ثُغرةُ النَّحرِ، أو عَظمٌ يَصِلُ ما بَينَ ثُغرةِ النَّحرِ والعاتِقِ، ولكُلِّ إنسانٍ تَرقُوتانِ عن يَمينِه وعن شِمالِه، ويُكَنَّى ببُلوغِ النَّفسِ التَّراقيَ عنِ الإشفاءِ على المَوتِ. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 500)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/345)، ((البسيط)) للواحدي (22/514)، ((المفردات)) للراغب (ص: 166). قُلتَ: أتَصَدَّقُ، وأنَّى أوانُ الصَّدَقةِ؟!)) [553] أخرجه ابن ماجه (2707)، وأحمد (17842) واللفظ له. حسَّنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2707)، وصحَّح إسنادَه الحاكم في ((المستدرك)) (3855)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17842). .
5- عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ وأبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالا: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((العِزُّ إزارُه، والكِبرياءُ رِداؤُه، فمَن يُنازِعُني عَذَّبتُه)) [554] أخرجه مسلم (2620). .
وفي رِوايةٍ: ((قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: الكِبرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري، فمَن نازَعَني واحِدًا مِنهما قَذَفتُه في النَّارِ)) [555] أخرجها أبو داود (4090) واللفظ له، وابن ماجه (4174)، وأحمد (8894). صحَّحها ابن حبان في ((صحيحه)) (5671)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4090)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4090). .
6- عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ. قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أن يَكونَ ثَوبُه حَسَنًا ونَعلُه حَسَنةً، قال: إنَّ اللَّهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمطُ النَّاسِ [556] بَطَرُ الحَقِّ: رَدُّه وجَحدُه، والدَّفعُ في صَدرِه. وغَمطُ النَّاسِ: احتِقارُهم وازدِراؤُهم، ومَتى احتَقَرَهم وازدَراهم دَفع حُقوقَهم وجَحَدَها، واستَهانَ بها. يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 317، 318). ) [557] أخرجه مسلم (91). .
فائِدةٌ:
ذُكِرَ أنَّ المُهَلَّبَ بنَ أبي صُفرةَ كان صاحِبَ جَيشِ الحَجَّاجِ، فمَرَّ على مُطَرِّفِ بنِ عبدِ اللَّهِ بنِ الشِّخِّيرِ، وهو يَتَبَختَرُ في حُلَّةِ خَزٍّ، فقال له مُطَرِّفٌ: يا عَبدَ اللهِ، هذه مِشيةٌ يُبغِضُها اللَّهُ ورَسولُه!
فقال المُهَلَّبُ: أمَا تَعرِفُني؟!
فقال: بَل أعرِفُك؛ أوَّلُك نُطفةٌ مَذِرةٌ، وآخِرُك جيفةٌ قَذِرةٌ، وأنتَ تَحمِلُ فيما بَينَ ذلك العَذِرةَ!
فتَرَك المُهَلَّبُ مِشيَتَه تلك [558] ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 185). وروى أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/384) عنِ الأصمَعيِّ، عن أبيه، قال: (مَرَّ المُهَلَّبُ بنُ أبي صُفرةَ على مالِكِ بنِ دينارٍ، وهو يَتَبَختَرُ في مِشيَتِه، فقال له مالِكٌ: أما عَلِمتَ أنَّ هذه المِشيةَ تُكرَهُ إلَّا بَينَ الصَّفَّينِ؟ فقال له المُهَلَّبُ: أما تَعرِفُني؟ فقال له: أعرِفُك أحسَنَ المَعرِفةِ، قال: وما تَعرِفُ عنِّي؟ قال: أمَّا أوَّلُك فنُطفةٌ مَذِرةٌ، وأمَّا آخِرُك فجيفةٌ قَذِرةٌ وأنتَ بَينُهما تَحمِلُ العَذِرةَ! قال: فقال المُهَلَّبُ: الآنَ عَرَفتَني حَقَّ المَعرِفةِ). .

انظر أيضا: