موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: القوَّةُ في المَشيِ وتَركُ التَّماوُتِ


يُسَنُّ للقادِرِ أن يَكونَ في مِشيَتِه قوَّةٌ، دونَ تَماوُتِ العاجِزِ والكَسلانِ، وتَباطُؤِ المُتَبَختِرِ المُختالِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أزهَرَ اللَّونِ، كَأنَّ عَرَقَه اللُّؤلُؤُ، إذا مَشى تَكفَّأَ [559] قال التُّورِبِشتيُّ: (الأشبَهُ في تَفسيرِ هذا اللَّفظِ أن يُحمَلَ على صَبِّ المَشيِ دَفعةً واحِدةً، كالإناءِ الذي يُفرَغُ، ويَدُلُّ عَليه ما بَعدَه: «كَأنَّما يَنحَطُّ مِن صَبَبٍ»، وفي مَعناه: «إذا مَشى تَقَلَّع» أي: دَفعَ رِجلَه دَفعًا ثابتًا مُتَدارِكًا إحداهما بالأُخرى مِشيةَ أهلِ الجَلادةِ). ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) (3/ 1035). وقال المظهَريُّ: (تَكفَّأَ في المَشيِ: إذا رَفعَ رِجلَه مِنَ الأرضِ ثُمَّ وضَعَها، يَعني: كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَرفعُ قدَمَه مِنَ الأرضِ عِندَ المَشيِ، ولا يَمسَحُ قدَمَه على الأرضِ كمَن يَمشي عنِ التَّبَختُرِ والاختيالِ. «يَنحَطُّ مِن صَبَبٍ»... يَعني: كما أنَّ مَن يَنزِلُ مِن عُلوٍ إلى سُفلٍ يَرفعُ رِجلَه عن قوَّةٍ وجَلادةٍ، فكذلك النَّبيُّ يَمشي على الأرضِ المُستَويةِ). ((المفاتيح في شرح المصابيح)) (5/ 146). ويُنظر: ((إكمال المعلم)) لعياض (7/ 295، 296)، ((مشارق الأنوار)) لعياض (1/ 344). ، ولا مَسِستُ ديباجةً ولا حَريرةً أليَنَ مِن كَفِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا شَمِمتُ مِسكةً ولا عَنبرةً أطيَبَ مِن رائِحةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [560] أخرجه البخاري (3561)، ومسلم (2330) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا مَشى كَأنَّه يَتَوكَّأُ)) [561] أخرجه من طرقٍ: أبو داود (4863) واللفظ له، والترمذي (1754). صحَّحه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (7750) وقال: على شَرطِ الشَّيخَينِ، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1754)، وقال الترمذي: حَسَنٌ صحيحٌ غَريبٌ مِن هذا الوَجهِ. .
قال عليٌّ القاريُّ: (يَتَكَفَّأُ: أي: يَتَمايَلُ إلى قُدَّامٍ، كالسَّفينةِ في جَريِها. وفي بَعضِ النُّسَخِ: «يَتَوكَّأُ»، أي يَعتَمِدُ، والمُرادُ التَّثَبُّتُ، وهذا لا يُنافي سُرعةَ المَشيِ بَل يُؤَيِّدُها، والحاصِلُ مِنهما أنَّ خُطواتِه كانت مُتَّسِعةً لا مُتَقارِبةً، كخُطواتِ المُختالينَ) [562] ((جمع الوسائل في شرح الشمائل)) (1/ 15). .
وقال أيضًا: (تَكَفَّأَ، بمَعنى: تَقَلَّعَ، أي: تَمايَلَ إلى أمامِه؛ ليَرفَعَه عنِ الأرضِ بكُلِّيَّتِه جُملةً واحِدةً، لا مَعَ اهتِزازٍ وتَكَسُّرٍ وجَرِّ رِجلٍ بالأرضِ على هَيئةِ المُتَماوِتِ أو مِشيةِ المُختالِ) [563] ((جمع الوسائل في شرح الشمائل)) (1/ 177). .
2- عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه وصَف النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ((كان عَظيمَ الهامةِ [564] الهامةُ: الرَّأسُ، والجَمعُ هامٌ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (5/ 2063). ، أبيَضَ مُشرَبًا حُمرةً، عَظيمَ اللِّحيةِ، ضَخمَ الكَراديسِ [565] ضَخمُ الكراديسِ: أي: ضَخمُ الأعضاءِ، والكَراديسُ: رؤوسُ العِظامِ، وقيل لكَتائِبِ الخَيلِ: كَراديسُ. يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (13/ 221). ، شَثْنَ الكَفَّينِ والقدَمَينِ [566] شَثْنُ الكَفَّينِ والقدمينِ، أي: غَليظُهما. يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (13/ 221). ، طَويلَ المَسرُبةِ [567] قَولُه: ((طويلُ المَسرُبةِ))، وفي حَديثِ هندِ بنِ أبي هالةَ: ((دَقيقُ المَسرُبةِ))، فالمَسرُبةُ: الشَّعرُ المُستَدِقُّ مِنَ الصَّدرِ إلى السُّرَّةِ. يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (13/ 221). ، كَثيرَ شَعرِ الرَّأسِ رَجِلَه، يَتَكَفَّأُ في مِشيَتِه كَأنَّما يَنحَدِرُ في صَبَبٍ، لا طَويلٌ ولا قَصيرٌ، لم أرَ مِثلَه قَبلَه ولا بَعدَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [568] أخرجه الترمذي (3637)، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (944) واللفظ له. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (6311)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3637)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وحسَّنه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (944). .
قال البَغَويُّ: (تَكَفَّأَ: أي: تَمايَلَ إلى قُدَّامٍ، كَما تَتَكَفَّأُ السَّفينةُ في جَريِها. والصَّبَبُ: الحُدورُ، وهو ما انحَدَرَ مِنَ الأرضِ، وجَمعُه أصبابٌ، يُريدُ: أنَّه كان يَمشي مَشيًا قَويًّا، يَرفعُ رِجلَيه مِنَ الأرضِ رَفعًا بائِنًا، لا كَمَن يَمشي اختيالًا، ويُقارِبُ خُطاه تَنَعُّمًا) [569] ((شرح السنة)) (13/ 222). .
3- عن سَعيدٍ الجُرَيريِّ، عن أبي الطُّفيلِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: رَأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُلتُ: كَيف رَأيتَه؟ قال: ((كان أبيَضَ مَليحًا، إذا مَشى كَأنَّما يَهوي في صَبوبٍ)) [570] أخرجه أبو داود (4864) واللفظ له، وابن شبة في ((تاريخ المدينة)) (2/613)، وأبو الشيخ في ((أخلاق النبي)) (222). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4864)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4864). وقَولُه: "كان أبيضَ مليحًا" أخرجه مسلم (2340). .
وقَولُه: ((يَهوي)) مَعناه: يَنزِلُ ويَتَدَلَّى، وتلك مِشيةُ القَويِّ مِنَ الرِّجالِ.
قَولُه: ((في صَبوبٍ)) إن فُتِحَت الصَّادُ مِن صَبوبٍ كان اسمًا لِما يُصَبُّ على الإنسانِ مِن ماءٍ ونَحوِه، ومِمَّا جاءَ على وزنِه الطَّهورُ والغَسولُ والفَطورُ لِما يُفطَرُ. وإن ضُمَّتِ الصَّادُ فهو جَمعُ صَبَبٍ، وهو ما انحَدَرَ مِنَ الأرضِ. وقيل: الصَّبَبُ والصُّبوبُ: تَصَوُّبُ نَهرٍ أو طَريقٍ [571] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 119)، ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 189)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/ 3). .
(فالمَعنى كَأنَّما يَنزِلُ مِن عُلوٍ إلى سُفلٍ فإنَّه حينَئِذٍ يَكونُ المَشيُ بقوَّةٍ، لكِن لا بإبطاءٍ ولا بسُرعةٍ) [572] ((شرح الشفا)) (1/ 183). .
(وعلى جَميعِ التقاديرِ فالمَقصودُ أنَّ مَشيَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان على سَبيلِ القوَّةِ وعلى وَجهِ التَّواضُعِ لا على طَريقِ التَّكَبُّرِ والخُيَلاءِ، قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63] ، وقال عَزَّ وجَلَّ: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [لقمان: 19] ، أي: تَوسَّطْ بَينَ الإسراعِ والتَّواني) [573] ((جمع الوسائل في شرح الشمائل)) (1/ 31). .
فوائِدُ ومَسائِلُ:
1- قال الغَزِّيُّ: (الذي تَلخَّص مِنَ الآياتِ والأحاديثِ: أنَّ الأدَبَ في المَشيِ الاقتِصادُ والتَّوسُّطُ بَينَ الإسراعِ الحَثيثِ، وبَينَ التَّماوُتِ والاختيالِ.
وقد يَحسُنُ أحَدُ الطَّرَفينِ كالاختيالِ في الحَربِ، وكالإسراعِ إلى حُضورِ جَنائِزِ الصَّالحينَ خَشيةَ الفَواتِ.
ومِن هذا القَبيلِ قَولُ الشَّيخِ جَلالِ الدِّينِ السُّيوطيِّ رَحِمَه اللهُ تعالى:
حَدَّثَنا شَيخُنا الكِنانيُّ
عن أَبِهِ صاحِبِ الخَطابَهْ
أسرِعْ أخا العِلمِ في ثَلاثٍ
الأكلِ والمَشيِ والكِتابَهْ) [574] ((حسن التنبه لما ورد في التشبه)) (2/ 375). ويُنظر: ((الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة)) للغزي (1/ 230). .
2- قال أبو إسماعيلَ الأنصاريُّ الهَرَويُّ: (المُحَدِّثُ يَجِبُ أن يَكونَ سَريعَ المَشيِ، سَريعَ الكِتابةِ، سَريعَ القِراءةِ) [575] ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (1/ 133). .
3- يُروى عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما أنَّه كان يُسرِعُ في المَشيِ [576] المُراد: الإسراعُ غَيرُ الحَثيثِ، الذي لا يُخِلُّ بالوَقارِ. ، ويَقولُ: (هذا أبعَدُ مِنَ الزَّهوِ، وأسرَعُ في الحاجةِ) [577] أخرجه ابن المبارك في ((الزهد)) (836). .

انظر أيضا: