موسوعة الآداب الشرعية

تَمهيدٌ في معنى اللِّباسِ وحِكَمِ مَشروعيَّتِه


امتَنَّ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ باللِّباسِ على الإنسانِ، ومَيَّزَه به عن سائِرِ الحَيَوانِ؛ قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [885] قال ابنُ كَثيرٍ: (يَمتَنُّ تَبارَكَ وتعالى على عِبادِه بما جَعَل لهم مِنَ اللِّباسِ والرِّيشِ؛ فاللِّباسُ المَذكورُ هاهنا لسَترِ العَوراتِ، وهيَ السَّوآتُ. والرِّياشُ والرِّيشُ: هو ما يُتَجَمَّلُ به ظاهرًا؛ فالأوَّلُ مِنَ الضَّروريَّاتِ، والرِّيشُ مِنَ التَّكمِلاتِ والزِّياداتِ). ((تفسير القرآن العظيم)) (3/399). وقال مُحَمَّد رَشيد رِضا: (خاطَبَ اللَّهُ تعالى بني آدَمَ في هذه الآيةِ وأمثالِها بالنِّداءِ الذي يُخاطَبُ به البَعيدُ لِما كان عليه عَرَبُهم وعَجَمُهم عِندَ نُزولِ هذه السُّورةِ في مَكَّةَ مِنَ البُعدِ عنِ الفِطرةِ السَّليمةِ، والشِّرعةِ القَويمةِ؛ تَنبيهًا للأذهانِ بما يَقرَعُ الآذانَ، فامتَنَّ عليهم -بَعدَ أن أنبَأهم بما كان مِن عُريِ سَلَفِهمُ الأوَّلِ- بما أنعَمَ به عليهم مِنَ اللِّباسِ على اختِلافِ دَرَجاتِه وأنواعِه، مِنَ الأدنى الذي يَستُرُ السَّوءةَ عن أعيُنِ النَّاسِ، إلى أنواعِ الحُلَلِ التي تُشبِهُ رِيشَ الطَّيرِ في وِقايةِ البَدَنِ مِنَ الحَرِّ والبَردِ بسَترِ جَميعِ البَدَنِ، وما في ذلك مِن أنواعِ الزِّينةِ والجَمالِ اللَّائِقةِ بجَميعِ ذُكرانِ البَشَرِ وإناثِهم على اختِلافِ أسنانِهم وأحوالِهم؛ فهو يَقولُ: يا بَني آدَمَ، إنَّا بما لنا مِنَ القُدرةِ والنِّعمةِ والرَّحمةِ قد أنزَلنا عليكُم مِن عُلوِّ سَمائِنا بتَدبيرِنا لأُمورِكُم مِن فوقِ عَرشِنا لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وهو أدنى اللِّباسِ، وأقَلُّه الذي يُعَدُّ فاقِدُه ذَليلًا مَهينًا وَرِيشًا تَتَزَيَّنونَ به في مَساجِدِكُم ومَجالِسِكُم ومَجامِعِكُم، وهو أعلاه وأكمَلُه، وبَينَهما لِباسُ الحاجةِ، وهو ما يَقي الحَرَّ والبَردَ). ((تفسير القرآن الحكيم)) (8/ 319). وقال أيضًا: (وامتِنانُه تعالى على بَني آدَمَ بلباسِ الزِّينةِ يَدُلُّ على استِحبابِها). ((تفسير القرآن الحكيم)) (8/ 320). وقال السَّعديُّ: (لمَّا أهبطَ اللَّهُ آدَمَ وزَوجَتَه وذُرِّيَّتَهما إلى الأرضِ أخبَرَهما بحالِ إقامَتِهم فيها، وأنَّه جَعَل لهم فيها حَياةً يَتلوها المَوتُ، مَشحونةً بالامتِحانِ والابتِلاءِ، وأنَّهم لا يَزالونَ فيها يُرسِلُ إليهم رُسُلَه ويُنزِلُ عليهم كُتُبَه، حتَّى يَأتيَهمُ المَوتُ، فيُدفَنونَ فيها، ثُمَّ إذا استَكمَلوا بَعَثَهمُ اللهُ وأخرجَهم مِنها إلى الدَّارِ التي هيَ الدَّارُ حَقيقةً، التي هيَ دارُ المُقامةِ. ثُمَّ امتَنَّ عليهم بما يَسَّر لهم مِنَ اللِّباسِ الضَّروريِّ واللِّباسِ الذي المَقصودُ مِنه الجَمالُ، وهَكَذا سائِرُ الأشياءِ، كالطَّعامِ والشَّرابِ والمَراكِبِ والمَناكِحِ ونَحوِها، قد يَسَّر اللَّهُ للعِبادِ ضَروريَّها ومُكَملَ ذلك، وبَيَّنَ لهم أنَّ هذا ليسَ مَقصودًا بالذَّاتِ، وإنَّما أنزَله اللهُ ليَكونَ مَعونةً لهم على عِبادَتِه وطاعَتِه؛ ولهذا قال: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ اللِّباسِ الحِسِّيِّ؛ فإنَّ لباسَ التَّقوى يَستَمِرُّ مَعَ العَبدِ، ولا يَبلى ولا يَبيدُ، وهو جَمالُ القَلبِ والرُّوحِ. وأمَّا اللِّباسُ الظَّاهِريُّ فغايَتُه أن يَستُرَ العَورةَ الظَّاهرةَ في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ، أو يَكونُ جَمالًا للإنسانِ، وليسَ وراءَ ذلك مِنه نَفعٌ. وأيضًا فبتَقديرِ عَدَمِ هذا اللِّباسِ تَنكَشِفُ عَورَتُه الظَّاهرةُ التي لا يَضُرُّه كَشفُها مَعَ الضَّرورةِ، وأمَّا بتَقديرِ عَدَمِ لِباسِ التَّقوى فإنَّها تَنكَشِفُ عَورَتُه الباطِنةُ، ويَنالُ الخِزيَ والفَضيحةَ. وقَولُه: ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي: ذلك المَذكورُ لكُم مِنَ اللِّباسِ مِمَّا تذَكَّرونَ به ما يَنفعُكُم ويَضُرُّكُم وتُشبهونَ باللِّباسِ الظَّاهرِ على الباطِنِ). ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 285، 286). [الأعراف: 26] .
وجاءَ النَّهيُ عن نَزعِ اللِّباسِ، وتَسميةُ ذلك فِتنةً؛ قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [الأعراف: 27] .
وهذا تَنبيهٌ إلى أنَّ اللِّباسَ مِن أصلِ الفِطرةِ الإنسانيَّةِ، وأنَّه مِمَّا كَرَّمَ اللهُ به النَّوعَ مُنذُ ظُهورِه في الأرضِ، وفي هذا تَعريضٌ بالمُشرِكينَ؛ إذ جَعَلوا مِن قُرُباتِهم نَزعَ لباسِهم بأن يَحُجُّوا عُراةً، فخالفوا الفِطرةَ.
واللِّباسُ: اسمٌ لِما يَلبَسُه الإنسانُ، أي: يَستُرُ به جُزءًا مِن جَسَدِه؛ فالقَميصُ لِباسٌ، والإزارُ لِباسٌ، والعِمامةُ لِباسٌ، ويُقالُ: لَبِس التَّاجَ ولَبِس الخاتَمَ؛ قال تعالى: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [886] يُنظر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (8-ب/ 74). [فاطِر: 12] .
وثَمَّ حِكَمٌ مِن مَشروعيَّةِ اللِّباسِ؛ مِنها: أنَّه سَترٌ للعَورةِ، وفي ذلك حِفظٌ للأعراضِ وصيانةٌ للمُجتَمَعِ؛ قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 26] .
كما أنَّ اللِّباسَ يَقي الإنسانَ الحَرَّ والبَردَ؛ قال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81] ؛ فقَولُه تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ، أي: ألبِسةً وثِيابًا.
وفيه إظهارُ نِعمةِ اللهِ وشُكرُه عليها، واللهُ تعالى جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، ومِنَ الجَمالِ الذي يُحِبُّه جَمالُ الثِّيابِ؛ لذا أنزَل اللهُ تعالى على عِبادِه لباسًا وزينةً تُجَمِّلُ ظَواهِرَهم، وتَقوى تُجَمِّلُ بَواطِنَهم، فقال: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف: 26] ، وهو سُبحانَه يُحِبُّ ظُهورَ أثَرِ نِعمتِه على عَبدِه، فيُحِبُّ أن يَرى على عَبدِه الجَمالَ الظَّاهِرَ بالنِّعمةِ، والجَمالَ الباطِنَ بالشُّكرِ عليها [887] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 184). .
وعن أبي الأحوَصِ، عن أبيه رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتَيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ثَوبٍ دُونٍ [888] أي: دَنيءٍ غَيرِ لائِقٍ بحالي مِنَ الغِنى. ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/ 2784). ، فقال: ألك مالٌ؟ قال: نَعَم، قال: مِن أيِّ المالِ؟ قال: قد آتاني اللهُ مِنَ الإبِلِ والغَنَمِ والخَيلِ والرَّقيقِ، قال: فإذا آتاك اللهُ مالًا فليُرَ أثَرُ نِعمةِ اللهِ عليك وكَرامتِه)) [889] أخرجه أبو داود (4063) واللفظ له، والترمذي (2006)، والنسائي (5224). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (5417)، وابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (30)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (5224)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (2/159)، وقال الترمذي: حسن صحيح. .
ومَن تَناوَل ما أباحَه اللهُ مِنَ الطَّعامِ واللِّباسِ مُظهِرًا لنِعمةِ اللهِ، مُستَعينًا على طاعةِ الله، كان مُثابًا على ذلك [890] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/138). .
وفيما يلي بيانُ أهمِّ آدابِ اللباسِ:

انظر أيضا: