موسوعة الآداب الشرعية

فوائِدُ ومَسائِلُ مُتَفرِّقةٌ


تَشاؤُمُ أهلِ الجاهليَّةِ بالعُطاسِ
مِمَّا كان أهلُ الجاهليَّةِ يَتَطَيَّرونَ به ويَتَشاءَمونَ مِنه: العُطاسُ، وكانوا إذا عَطَسَ مَن يُحِبُّونَه قالوا له: عُمرًا وشَبابًا، وإذا عَطَسَ مَن يُبغِضونَه قالوا له: وَرْيًا وقُحابًا [1851] الوَرْي -كالرَّمْي-: داءٌ يصيبُ الكبد فيفسدُها، والقُحَاب كالسُّعال، وزنًا ومعنى. يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (3/ 1568). .
وكان الرَّجُلُ إذا سَمِعَ عُطاسًا يَتَشاءَمُ به، يَقولُ: بكَ لا بي، أي: أسألُ اللَّهَ أن يَجعَل شُؤمَ عِطاسِك بكَ لا بي.
وكان تَشاؤُمُهم بالعَطسةِ الشَديدةِ أشَدَّ، فلمَّا جاءَ اللَّهُ سُبحانَه بالإسلامِ وأبطَل برَسولِه ما كان عليه الجاهليَّةُ مِنَ الضَّلالةِ، نَهى أُمَّته عنِ التَّشاؤُمِ والتَّطَيُّرِ، وشَرع لهم أن يَجعَلوا مَكانَ الدُّعاءِ على العاطِسِ بالمَكروهِ الدُّعاءَ له بالرَّحمةِ، ولمَّا كان الدُّعاءُ على العاطِسِ نَوعًا مِنَ الظُّلمِ والبَغيِ جُعِل الدُّعاءُ له بلفظِ الرَّحمةِ المُنافي للظُّلمِ، وأُمِر العاطِسُ أن يَدعوَ لسامِعِه ويُشَمِّتَه بالمَغفِرةِ والهدايةِ وإصلاحِ البالِ، فيَقولَ: يَغفِرُ اللهُ لنا ولكُم، أو يَهديكُمُ اللَّهُ ويُصلِحُ بالَكُم، فأمَّا الدُّعاءُ بالهدايةِ فلمَّا أنِ اهتَدى إلى طاعةِ الرَّسولِ ورَغِبَ عَمَّا كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ، فدَعا له أن يُثَبِّتَه اللهُ عليها ويَهديَه إليها، وكذلك الدُّعاءُ بإصلاحِ البالِ، وهيَ حِكمةٌ جامِعةٌ لصَلاحِ شَأنِه كُلِّه، وهيَ مِن بابِ الجَزاءِ على دُعائِه لأخيه بالرَّحمةِ، فناسَب أن يُجازيَه بالدُّعاءِ له بإصلاحِ البالِ، وأمَّا الدُّعاءُ بالمَغفِرةِ فجاءَ بلفظٍ يَشمَلُ العاطِسَ والمُشَمِّتَ، كَقَولِه: يَغفِرُ اللهُ لنا ولكُم؛ ليَستَحصِلَ مِن مَجموعِ دَعوى العاطِسِ والمُشَمِّتِ له المَغفِرةُ والرَّحمةُ لهما مَعًا، فصَلواتُ اللهِ وسَلامُه على المَبعوثِ بصَلاحِ الدُّنيا والآخِرةِ، ولأجلِ هذا -واللهُ أعلمُ- لم يُؤمَرْ بتَشميتِ مَن لم يَحمَدِ اللَّهَ؛ فإنَّ الدُّعاءَ له بالرَّحمةِ نِعمةٌ، فلا يَستَحِقُّها مَن لم يَحمَدِ اللَّهَ ويَشكُرْه على هذه النِّعمةِ ويَتَأسَّ بأبيه آدَمَ؛ فإنَّه لمَّا نُفِخَت فيه الرُّوحُ إلى الخَياشيمِ عَطَس، فألهمَه رَبُّه تَبارَكَ وتعالى أن نَطَق بحَمدِه، فقال: الحَمدُ للهِ، فقال اللهُ سُبحانَه: يَرحَمُك اللهُ يا آدَمُ، فصارَت تلك سُنَّةَ العُطاسِ، فمَن لم يَحمَدِ اللَّهَ لم يَستَحِقَّ هذه الدَّعوةَ، ولمَّا سَبَقَت هذه الكَلِمةُ لآدَمَ قَبلَ أن يُصيبَه ما أصابه كان مآلُه إلى الرَّحمةِ، وكان ما جَرى عارِضًا وزال، فإنَّ الرَّحمةَ سَبَقَتِ العُقوبةَ وغَلبَتِ الغَضَبَ.
وأيضًا فإنَّما أُمِر العاطِسُ بالتَّحميدِ عنِ العُطاسِ؛ لأنَّ الجاهليَّةَ كانوا يَعتَقِدونَ فيه أنَّه داءٌ، ويَكرَهُ أحَدُهم أن يَعطُسَ، ويَودُّ أنَّه لم يَصدُر مِنه؛ لِما في ذلك مِنَ الشُّؤمِ، وكان العاطِسُ يَحبِسُ نَفسَه عنِ العُطاسِ، ويَمتَنِعُ مِن ذلك جُهدَه؛ مِن سوءِ اعتِقادِ جُهَّالِهم فيه؛ ولذلك -واللَّهُ أعلمُ- بَنَوا لفظَه على بناءِ الأدواءِ، كالزُّكامِ والسُّعالِ والدُّوارِ وغَيرِها، فأُعلِموا أنَّه ليسَ بداءٍ، ولكِنَّه أمرٌ يُحِبُّه اللهُ، وهو نِعمةٌ مِنه يَستَوجِبُ عليها مِن عَبدِه أن يَحمَدَه عليها، وفي الحَديثِ المَرفوعِ أنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العُطاسَ، ويَكرَهُ التَّثاؤُبَ [1852] ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (3/ 1570). .
حكمُ تشميتِ العاطسِ أثناءَ قضاءِ الحاجةِ
يُكرَهُ ذِكرُ اللهِ تعالى باللِّسانِ عِندَ قَضاءِ الحاجةِ، ومِن ذلك: تَشميتُ العاطِسِ [1853] وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/256)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (1/394)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/66)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/58). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ
1- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما ((أنَّ رَجُلًا مَرَّ ورَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَبولُ، فسَلَّمَ، فلم يَرُدَّ عليه)) [1854] أخرجه مسلم (370). .
2- عنِ المُهاجِرِ بنِ قُنفُذٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّه أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَبولُ، فسَلَّم عليه فلم يَرُدَّ عليه حتَّى تَوضَّأ، ثُمَّ اعتَذَرَ إليه فقال: إنِّي كَرِهتُ أن أذكُرَ اللَّهَ إلَّا على طُهرٍ. أو قال: على طَهارةٍ)) [1855] أخرجه أبو داود (17) واللفظ له، والنسائي (38)، وأحمد (19056). صحَّحه النووي في ((المجموع)) (3/105)، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (1/394)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (17)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1161). .
وَجهُ الدَّلالةِ مِنَ الحَديثَينِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يَرُدَّ السَّلامَ؛ فتَركُ ذِكرِ اللهِ تعالى في مِثلِ هذه الأماكِنِ مِن بابِ أَولى [1856] ((المغني)) لابن قدامة (1/123). .
ثانيًا: أنَّ مُقتَضى الأدَبِ مَعَ اللهِ تعالى ألَّا يُذكَرَ في هذه المَواطِنِ التي تَجتَمِعُ فيها الأخباثُ والنَّجاساتُ؛ فإنَّه يُصانُ عن ذلك تَنزيهًا لاسمِه العظيمِ واحتِرامًا له [1857] ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الأولى)) (5/9494). .
إذا عطَسَ فحمِد الله في صلاتِه هل تَبطلُ؟
لا تَبطُلُ الصَّلاةُ بالتَّسبيحِ أوِ الأدعيةِ إذا لم يَكُنْ فيها خِطابٌ لمَخلوقٍ، مِثلُ أن يَعطِسَ فيَحمَدَ اللهَ [1858] قال النَّوويُّ: (إذا عَطَسَ في صَلاتِه يُستَحَبُّ أن يَقولَ: الحَمدُ للَّهِ، ويُسمِعَ نَفسَه، هذا مَذهَبُنا. ولأصحابِ مالكٍ ثَلاثةُ أقوالٍ، أحَدُها: هذا، واختارَه ابنُ العَرَبيِّ، والثَّاني: يَحمَدُ في نَفسِه، والثَّالِثُ قاله سُحنون: لا يَحمَدُ جَهرًا ولا في نَفسِه). ((الأذكار)) (ص: 271). ، أو يَرى ما يَغُمُّه، فيَقولَ: (إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجِعونَ)، أو يَرى عَجَبًا فيَقولَ: (سُبحانَ اللَّهِ) [1859] وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي)) (1/ 154)، ((التاج والإكليل)) للمواق (2/30)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/292)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/381). وقَيدَ الحَنَفيَّةُ عَدَمَ إبطالِ الصَّلاةِ بألَّا يُريدَ جَوابًا لغَيرِه. يُنظر: ((تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي)) (1/ 154)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/235). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن سَهلِ بنِ سَعدٍ السَّاعِديِّ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَهَبَ إلى بَني عَمرِو بنِ عَوفٍ ليُصلِحَ بَينَهم، فحانَتِ الصَّلاةُ، فجاءَ المُؤَذِّنُ إلى أبي بَكرٍ، فقال: أتُصَلِّي بالنَّاسِ فأُقيمَ؟ قال: نَعَم، قال: فصَلَّى أبو بَكرٍ، فجاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والنَّاسُ في الصَّلاةِ، فتخَلَّص حتَّى وقَف في الصَّفِّ، فصَفَّقَ النَّاسُ، وكان أبو بَكرٍ لا يَلتَفِتُ في الصَّلاةِ، فلمَّا أكثَرَ النَّاسُ التَّصفيقَ التَفَت فرَأى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأشارَ إليه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنِ امكُثْ مَكانَك، فرَفعَ أبو بَكرٍ يَدَيه، فحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ على ما أمَرَه به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن ذلك، ثُمَّ استَأخَرَ أبو بَكرٍ حتَّى استَوى في الصَّفِّ، وتَقدَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فصَلَّى، ثُمَّ انصَرَف، فقال: يا أبا بَكرٍ، ما مَنَعَك أن تَثبُتَ إذ أمَرتُك؟ قال أبو بَكرٍ: ما كان لابنِ أبي قُحافةَ أن يُصَلِّيَ بَينَ يَدَي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [1860] أخرجه البخاري (684) واللفظ له، ومسلم (421). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ أبا بَكرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللهُ عنه رَفَع يَدَيه في الصَّلاةِ وحَمِد اللهَ لمَّا أمَرَه عليه السَّلامُ بالمُكثِ في مَوضِعِه [1861] ((الذخيرة)) للقرافي (2/144). .
وأمَّا التَّعليلُ فللآتي:
1- لأنَّه مُناجاةٌ للهِ؛ فهو مِن جِنسِ الدُّعاءِ [1862] ((نهاية المحتاج)) للرملي (2/44). .
2- ولأنَّ ما لا يُبطِلُ الصَّلاةَ ابتِداءً لا يُبطِلُها إذا أتى به عَقيبَ سَبَبٍ، كالتَّسبيحِ لتَنبيهِ إمامِه [1863] ((المغني)) لابن قدامة (2/43). .
هل يُشمَّتُ العاطِسُ أثناءَ الخطبةِ
 لا يُشمَّتُ العاطِسُ أثناءَ الخُطبةِ [1864] وهذا مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، وهو قولُ الشَّافعيِّ في القَديمِ، وروايةٌ عن أحمدَ، واختارَه ابنُ بازٍ، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/28)، ((شرح الزرقاني على مختصر خليل)) (2/ 113)، ((روضة الطالبين)) للنووي (2/29)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/293)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (12/410، 411)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (16/150). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ
قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا قُلتَ لصاحِبِك: أنصِتْ يومَ الجُمُعةِ والإمامُ يَخطُبُ، فقد لَغَوتَ)) [1865] أخرجه البخاري (934)، ومسلم (851) واللَّفظُ له من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه جعَلَ أمْرَه بالمعروفِ لَغوًا وقتَ الخطبة؛ فكيف بغيرِه من الكلامِ [1866] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (12/410، 411). ؟!
وأمَّا التَّعليلُ فللآتي:
1- لأنَّه لَمَّا كان مأمورًا بالإنصاتِ كالصَّلاةِ، لم يُشمِّتْ كما لا يُشمِّتُ في الصَّلاة [1867] ((مختصر اختلاف العلماء)) للطحاوي (1/340). .
2- ولأنَّه إذا شَمَّت العاطسَ، فقد تَرَك الاستماعَ المفروضَ والإنصاتَ، وتشميتُ العاطسِ ليس بفرضٍ؛ فلا يجوزُ ترْكُ الفرضِ لأجْلِه، وكذا ردُّ السلام في هذه الحالةِ ليس بفَرْض [1868] ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/264). ؛ فواجبُ الاستماعِ مُقدَّمٌ على واجِبِ الرَّدِّ [1869] ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (16/162). .

انظر أيضا: