موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: الاستِخارةُ


يُستَحَبُّ لمَن عَزَمَ على سَفَرٍ أن يَستَخيرَ [1888] قال النَّوويُّ: (إذا شاورَ وظَهَرَ أنَّه مَصلحةٌ استَخارَ اللَّهَ سُبحانَه وتعالى في ذلك، فصَلَّى رَكعَتَينِ مِن غَيرِ الفريضةِ ودَعا بدُعاءِ الاستِخارةِ). ((الأذكار)) (ص: 214). وقال أيضًا: (إذا عَزَمَ على السَّفرِ فالسُّنَّةُ أن يَستَخيرَ اللَّهَ تعالى فيُصَلِّيَ رَكعَتَينِ مِن غَيرِ الفريضةِ، ثُمَّ يَدعوَ بدُعاءِ الاستِخارةِ). ((المَجموع)) (4/ 385). وقال أبو عَبدِ اللَّهِ الزُّبَيرُ بنُ أحمَدَ الزُّبَيريُّ: (لا يَنبَغي لأحَدٍ أن يَدَعَ الاستِخارةَ، وليَستَعمِلْها كَما أُمِرَ؛ فإنَّ فيها اتِّباعَ أمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والتَّبَرُّكَ بذلك، مَعَ ما فيها مِنَ الدُّعاءِ والرَّدِّ إلى الرَّبِّ تعالى). ((الجامع لأخلاق الراوي)) للخطيب البغدادي (2/ 237). وتنظر: آدابُ الاستِخارةِ مِن هذه الموسوعةِ. .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعَلِّمُنا الاستِخارةَ في الأُمورِ كُلِّها كما يُعَلِّمُنا السُّورةَ مِنَ القُرآنِ، يَقولُ: إذا هَمَّ أحَدُكُم بالأمرِ فليَركَعْ رَكعَتَينِ مِن غَيرِ الفريضةِ، ثُمَّ ليَقُلِ: اللَّهمَّ إنِّي أستخيرُك بعِلمِك، وأستقدِرُك بقُدرَتِك، وأسألُك مِن فضلِك العَظيمِ؛ فإنَّك تَقدِرُ ولا أقدِرُ، وتَعلَمُ ولا أعلمُ، وأنت عَلَّامُ الغُيوبِ، اللَّهمَّ إن كُنتَ تَعلمُ أنَّ هذا الأمرَ خَيرٌ لي في ديني ومَعاشي وعاقِبةِ أمري -أو قال: عاجِلِ أمري وآجِلِه- فاقدُرْه لي ويَسِّرْه لي، ثُمَّ بارِكْ لي فيه، وإنْ كُنتَ تَعلمُ أنَّ هذا الأمرَ شَرٌّ لي في ديني ومَعاشي وعاقِبةِ أمري -أو قال: في عاجِلِ أمري وآجِلِه- فاصرِفْه عنِّي واصرِفْني عنه، واقدُرْ لي الخَيرَ حَيثُ كان، ثُمَّ أرضِني، قال: ويُسَمِّي حاجَتَه)) [1889] أخرجه البخاري (1162). .
فائِدةٌ:
قال ابنُ القَيِّمِ في هَديِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أذكارِ السَّفَرِ وآدابِه: (صَحَّ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: «إذا هَمَّ أحَدُكُم بالأمرِ فليَركَعْ رَكعَتَينِ مِن غَيرِ الفَريضةِ، ثُمَّ ليَقُلِ: اللَّهُمَّ إنِّي أستَخيرُك بعِلمِك...».
فعَوَّضَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمَّتَه بهذا الدُّعاءِ عَمَّا كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ مِن زَجرِ الطَّيرِ والاستِقسامِ بالأزلامِ الذي نَظيرُه هذه القُرعةُ التي كان يَفعَلُها إخوانُ المُشرِكينَ، يَطلُبونَ بها عِلمَ ما قُسِمَ لهم في الغَيبِ؛ ولهذا سُمِّيَ ذلك استِقسامًا، وهو استِفعالٌ مِنَ القَسمِ، والسِّينُ فيه للطَّلَبِ، وعَوَّضَهم بهذا الدُّعاءِ الذي هو تَوحيدٌ وافتِقارٌ، وعُبوديَّةٌ، وتَوكُّلٌ، وسُؤالٌ لمَن بيَدِه الخَيرُ كُلُّه، الذي لا يَأتي بالحَسَناتِ إلَّا هو، ولا يَصرِفُ السَّيِّئاتِ إلَّا هو، الذي إذا فتَحَ لعَبدِه رَحمةً لم يَستَطِعْ أحَدٌ حَبسَها عنه، وإذا أمسَكَها لَم يَستَطِعْ أحَدٌ إرسالَها إليه؛ مِنَ التَّطَيُّرِ والتَّنجيمِ واختيارِ الطَّالعِ ونَحوِه.
فهذا الدُّعاءُ، هو الطَّالعُ المَيمونُ السَّعيدُ؛ طالِعُ أهلِ السَّعادةِ والتَّوفيقِ، الذينَ سَبَقَت لَهم مِنَ اللهِ الحُسنى، لا طالِعُ أهلِ الشِّركِ والشَّقاءِ والخِذلانِ، الذينَ يَجعَلونَ مَعَ اللهِ إلَهًا آخَرَ، فسَوف يَعلَمونَ!
 فتَضَمَّن هذا الدُّعاءُ الإقرارَ بوُجودِه سُبحانَه، والإقرارَ بصِفاتِ كَمالِه؛ مِن كَمالِ العِلمِ والقُدرةِ والإرادةِ، والإقرارَ برُبوبيَّتِه، وتَفويضَ الأمرِ إليه، والاستِعانةَ به، والتَّوكُّلَ عليه، والخُروجَ مِن عُهدةِ نَفسِه، والتَّبَرِّيَ مِنَ الحَولِ والقوَّةِ إلَّا به، واعتِرافَ العَبدِ بعَجزِه عن عِلمِه بمَصلَحةِ نَفسِه وقُدرَتِه عليها، وإرادَتِه لَها، وأنَّ ذلك كُلَّه بيَدِ ولَيِّه وفاطِرِه وإلَهِه الحَقِّ...
والمَقصودُ أنَّ الاستِخارةَ تَوكُّلٌ على اللهِ وتَفويضٌ إليه واستِقسامٌ بقُدرَتِه وعِلمِه، وحُسنِ اختيارِه لعَبدِه، وهيَ مِن لَوازِمِ الرِّضا به رَبًّا، الذي لا يَذوقُ طَعمَ الإيمانِ مَن لَم يَكُنْ كذلك، وإن رَضيَ بالمَقدورِ بَعدَها، فذلك عَلامةُ سَعادَتِه) [1890] ((زاد المعاد)) (2/ 405، 406). .

انظر أيضا: