موسوعة الآداب الشرعية

ستٌّ وعشرون: القُدومُ نَهارًا وإعلامُ الأهلِ بالمَجيءِ إذا طالت غَيبَتُه عنهم


يُستَحَبُّ أن يَقدَمَ في النَّهارِ، ويُستَحَبُّ إذا قَرُبَ مِن وَطَنِه أن يُعلِمَ أهلَه بمَجيئِه باتِّصالٍ، أو بإرسالِ مَن يُخبرُهم [2054] قال النَّوويُّ: (إن كان في قافِلةٍ كَبيرةٍ واشتَهرَ عِندَ أهلِ البَلدِ وُصولُهم ووقتُ دُخولِهم، كَفاه ذلك عن إرسالِه مُعَيَّنًا). ((المجموع)) (4/ 399). ، ولا يَدخُلُ على أهلِه بَغتةً وهم لا يَعلمونَ بمَجيئِه، سَواءٌ كان قُدومُه ليلًا أو نَهارًا.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا خَرَجَ إلى مَكَّةَ يُصَلِّي في مَسجِدِ الشَّجَرةِ، وإذا رَجَعَ صَلَّى بذي الحُلَيفةِ ببَطنِ الوادي، وباتَ حتَّى يُصبِحَ)) [2055] أخرجه البخاري (1799) واللَّفظُ له، ومسلم (1257). .
2- عن كَعبِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان أي: النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لا يَقدَمُ مِن سَفرٍ إلَّا نَهارًا في الضُّحى، فإذا قدِمَ بَدَأ بالمَسجِدِ، فصَلَّى فيه رَكعَتَينِ، ثُمَّ جَلسَ فيه)) [2056] أخرجها مسلم (716). .
قال النَّوويُّ: (... فيه استِحبابُ القُدومِ أوائِلَ النَّهارِ) [2057] ((شرح مسلم)) (5/ 228). وقال النَّوويُّ أيضًا: (السُّنَّةُ إذا وصَل مَنزِلَه أن يَبدَأَ قَبلَ دُخولِه بالمَسجِدِ القَريبِ إلى مَنزِلِه، فيُصَلِّيَ فيه رَكعَتَينِ بنيَّةِ صَلاةِ القُدومِ... فإن كان القادِمُ مَشهورًا يَقصِدُه النَّاسُ استُحِبَّ أن يَقعُدَ في المَسجِدِ أو في مَكانٍ بارِزٍ؛ ليَكونَ أسهَلَ عَليه وعلى قاصِديه، وإن كان غَيرَ مَشهورٍ ولا يُقصَدُ ذَهَب إلى بَيتِه بَعدَ صَلاتِه الرَّكعَتَينِ في المَسجِدِ). ((المجموع)) (4/ 399، 400). .
3- عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَطرُقُ أهلَه [2058] أي: لا يَأتيهم ليلًا، قال الخَطَّابيُّ: (يُقالُ لكُلِّ ما أتاك ليلًا: طارِقٌ، ومِنه قَولُه تعالى: وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ [الطارق: 1] أي: النَّجمِ؛ لأنَّه يَطرُقُ بطُلوعِه ليلًا. ((معالم السنن)) (2/ 338). وقال ابنُ حَجَرٍ: (قال أهلُ اللُّغةِ: الطُّروقُ بالضَّمِّ: المَجيءُ باللَّيلِ من سَفَرٍ أو مِن غَيرِه على غَفلةٍ، ويُقالُ لكُلِّ آتٍ باللَّيلِ: طارِقٌ، ولا يُقالُ بالنَّهارِ إلَّا مَجازًا). ((فتح الباري)) (9/ 340). ، كان لا يَدخُلُ إلَّا غُدوةً أو عَشيَّةً)) [2059] أخرجه البخاري (1800) واللفظ له، ومسلم (1928). .
4- عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((نَهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَطرُقَ أهلَه ليلًا)) [2060] أخرجه مسلم (1801). .
وفي رِوايةٍ: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَكرَهُ أن يَأتيَ الرَّجُلُ أهلَه طُروقًا)) [2061] أخرجها البخاري (5243). .
وفي رِوايةٍ: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا أطال الرَّجُلُ الغَيبةَ [2062] قال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه...: «إذا أطال أحَدُكُمُ الغَيبةَ فلا يَطرُقْ أهلَه ليلًا» التَّقييدُ فيه بطولِ الغَيبةِ يُشيرُ إلى أنَّ عِلَّةَ النَّهيِ إنَّما توجَدُ حينَئِذٍ؛ فالحُكمُ يَدورُ مَعَ عِلَّتِه وُجودًا وعَدَمًا، فلمَّا كان الذي يَخرُجُ لحاجَتِه مَثَلًا نَهارًا ويَرجِعُ ليلًا لا يَتَأتَّى له ما يحذَرُ مِنَ الذي يُطيلُ الغَيبةَ، كان طولُ الغَيبةِ مَظِنَّةَ الأمنِ مِنَ الهجومِ، فيَقَعُ للذي يَهجُمُ بَعدَ طولِ الغَيبةِ غالبًا ما يكرَهُ؛ إمَّا أن يَجِدَ أهلَه على غَيرِ أُهبةٍ مِنَ التَّنَظُّفِ والتَّزَيُّنِ المَطلوبِ مِنَ المَرأةِ، فيَكونَ ذلك سَبَبَ النُّفرةِ بَينَهما، وقد أشارَ إلى ذلك بقَولِه في حَديثِ البابِ الذي بَعدَه بقَولِه: «كَي تَستَحِدَّ المُغيبةُ وتَمتَشِطَ الشَّعِثةُ»، ويُؤخَذُ مِنه كَراهةُ مُباشَرةِ المَرأةِ في الحالةِ التي تَكونُ فيها غَيرَ مُتَنَظِّفةٍ لئَلَّا يَطَّلعَ مِنها على ما يَكونُ سَبَبًا لنُفرتِه مِنها، وإمَّا أن يَجِدَها على حالةٍ غَيرِ مَرَضيَّةٍ، والشَّرعُ مُحَرِّضٌ على السَّترِ، وقد أشارَ إلى ذلك بقَولِه: «أنَّ يتخَوَّنَهم ويَتَطَلَّبَ عَثَراتِهم» فعلى هذا مَن أعلَمَ أهلَه بوُصولِه وأنَّه يَقدَمُ في وَقتِ كَذا مَثَلًا، لا يَتَناولُه هذا النَّهيُ). ((فتح البارِّي)) (9/ 340). أن يَأتيَ أهلَه طُروقًا)) [2063] أخرجها مسلم (715). .
وفي رِوايةٍ: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَطرُقَ الرَّجُلُ أهلَه ليلًا يتَخَوَّنُهم، أو يَلتَمِسُ عَثَراتِهم)) [2064] أخرجها مسلم (715). .
وفي رِوايةٍ: ((إذا قَدِمَ أحَدُكُم ليلًا فلا يَأتينَّ أهلَه طُروقًا؛ حتَّى تَستَحِدَّ المُغيبةُ [2065] تَستَحِدَّ، أي: تُصلِحَ مِن شَأنِ نَفسِها، والاستِحدادُ مُشتَقٌّ مِنَ الحَديدِ، ومَعناه: الاحتِلاقُ بالموسى، يُقالُ: استَحَدَّ الرَّجُلُ: إذا احتَلقَ بالحَديدِ. واستَعانَ، بمَعناه: إذا حَلقَ عانَتَه. ((معالم السنن)) للخطابي (2/ 339). ، وتَمتَشِطَ الشَّعِثةُ)) [2066] أخرجها مسلم (715). .
قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: ("الشَّعِثةُ": المُتَغَيِّرةُ الحالِ والهَيئةِ. و"تَستَحِدَّ": تَستَعمِلُ الحَديدةُ؛ يَعني به حَلقَ الشَّعرِ. و"المُغيبةُ": هيَ التي غابَ عنها زَوجُها. يُقالُ: أغابَتِ المَرأةُ، فهيَ مُغيبةٌ -بالهاءِ-، وأشهَدَت: إذا حَضَرَ زَوجُها. فهيَ مُشهِدٌ، بغَيرِ هاءٍ.
وفي هذا مِنَ التَّنبيهِ على رِعايةِ المَصالِحِ الجُزئيَّةِ في الأهلِ، والإرشادِ إلى مَكارِمِ الأخلاقِ، وتَحسينِ المُعاشَرةِ: ما لا يَخفى؛ وذلك أنَّ المَرأةَ تَكونُ في حالةِ غَيبةِ زَوجِها على حالةِ بَذاذةٍ، وقِلَّةِ مُبالاةٍ بنَفسِها، وشَعَثٍ، فلو قَدِمَ الزَّوجُ عليها وهيَ في تلك الحالِ رُبَّما نَفرَ مِنها، وزَهِدَ فيها، وهانَت عليه؛ فنُبِّه على ما يُزيلُ ذلك) [2067] ((المفهم)) (4/ 219، 220). .
وقال النَّوويُّ في الكَلامِ على رِواياتِ الحَديثِ: (مَعنى هذه الرِّواياتِ كُلِّها أنَّه يُكرَهُ لِمَن طال سَفرُه أن يَقدَمَ على امرَأتِه ليلًا بَغتةً، فأمَّا مَن كان سَفَرُه قَريبًا تَتَوقَّعُ امرَأتُه إتيانَه ليلًا فلا بَأسَ، كَما قال في إحدى هذه الرِّواياتِ: «إذا أطال الرَّجُلُ الغَيبةَ» [2068] أخرجها مسلم (715). .
وإذا كان في قَفَلٍ عَظيمٍ أو عَسكَرٍ ونَحوِهم واشتَهَرَ قُدومُهم ووُصولُهم، وعَلمَتِ امرَأتُه وأهلُه أنَّه قادِمٌ مَعَهم وأنَّهمُ الآنَ داخِلونَ، فلا بَأسَ بقُدومِه مَتى شاءَ؛ لزَوالِ المَعنى الذي نَهى بسَبَبِه؛ فإنَّ المُرادَ أن يَتَأهَّبوا، وقد حَصَل ذلك ولم يَقدَمْ بَغتةً، ويُؤَيِّدُ ما ذَكَرناه ما جاءَ في الحَديثِ الآخَرِ: «أمهِلوا حتَّى نَدخُلَ ليلًا -أي عِشاءً- كَي تَمتَشِطَ الشَّعِثةُ، وتَستَحِدَّ المُغيبةُ» [2069] أخرجه مسلم (715). ، فهذا صَريحٌ فيما قُلناه، وهو مَفروضٌ في أنَّهم أرادوا الدُّخولَ في أوائِلِ النَّهارِ بَغتةً، فأمَرَهم بالصَّبرِ إلى آخِرِ النَّهارِ؛ ليَبلُغَ قُدومُهم إلى المَدينةِ، وتَتَأهَّبَ النِّساءُ وغَيرُهنَّ. واللَّهُ أعلَمُ) [2070] ((شرح مسلم)) (13/ 71، 72). وقال عياضٌ: (قَولُه عَليه السَّلامُ: «كان لا يَطرُقُ أهلَه ليلًا، وكان يَأتيهم غُدوةً أو عَشيَّةً»، وفي الحَديثِ الآخَرِ: النَّهيُ أن يَأتيَ أحَدٌ أهلَه طُروقًا، بضَمِّ الطَّاءِ، أي: باللَّيلِ، وفي الحَديثِ الآخَرِ: «أمهِلوا حتَّى نَدخُلَ ليلًا -أي عِشاءً- كَي تمتَشِطَ الشَّعِثةُ وتَستَحِدَّ المُغيبةُ»، لا تَعارُضَ بَينَ هَذَينِ الحَديثَينِ؛ الأوَّلُ: لا يَطرُقُهم ليلًا بَغتةً؛ لئَلَّا يَجِدَهم على ما يَكرَهُ مِنَ الأحوالِ، على ما جاءَ في الحَديثِ: «يتخَوَّنُهم»، أي: يَطلُبُ عَثَراتِهم، ومَعنى «يتخَوَّنُهم»: أي: يَكشِفُ عنهم هَل خانوا في أنفُسِهنَّ، وعلى صورةٍ مِنَ التَّبَذُّلِ تَكرَهُ المَرأةُ أن يَجِدَها زَوجُها بهما. والحَديثُ الآخَرُ: «أمهَلَ حتَّى يَدخُلَ ليلًا، أي: عِشاءً» كما قال في الحَديثِ الأوَّلِ: «عَشيَّةً»، وقد سَبَقَ الخَبَرُ واستَعَدَّت بما يُحتاجُ إليه مِمَّا ذُكِرَ في الحَديثِ). ((إكمال المعلم)) (6/ 354، 355). .
وقال ابنُ أبي جَمرةَ: (الحِكمةُ بَيَّنَها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: «حتَّى تَمتَشِطَ الشَّعِثةُ، وتَستَحِدَّ المُغيبةُ»؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَنظُرُ لكُلِّ ما يَكونُ فيه صَلاحٌ وتوادُدٌ بَينَ أُمَّتِه فيُرشِدُهم إليه، فلمَّا كانت غَيبةُ الرَّجُلِ عن أهلِه توجِبُ لهنَّ تَركَ التَّطَيُّبِ وتَركَ التَّزَيُّنِ في الغالِبِ مِن عاداتِهنَّ، والطِّيبُ لبَعضِ النِّسوةِ إذا لم يَفعَلنَ مِنه شَيئًا يَبدو مِنهنَّ أشياءُ لا تُعجِبُ الزَّوجَ، ورُبَّما يَكونُ مِن أجلِها الفِراقُ بَينَهما، أو تَقَعُ في النُّفوسِ كَراهيةٌ، ورُبَّما تَسوءُ العِشرةُ بَينَهما مِن أجلِ ذلك؛ فأرشَدَهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى ما فيه سَترُ العُيوبِ وسَبَبٌ إلى التَّوادُدِ وحُسنِ العِشرةِ التي هيَ مِنَ الإيمانِ) [2071] ((بهجة النفوس)) (4/ 86). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (في الحَديثِ الحَثُّ على التَّوادِّ والتَّحابِّ خُصوصًا بَينَ الزَّوجَينِ؛ لأنَّ الشَّارِعَ راعى ذلك بَينَ الزَّوجَينِ مَعَ اطِّلاعِ كُلٍّ مِنهما على ما جَرَتِ العادةُ بسَترِه، حتَّى إنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما لا يَخفى عنه مِن عُيوبِ الآخَرِ شَيءٌ في الغالِبِ، ومَعَ ذلك فنَهى عنِ الطُّروقِ لئَلَّا يَطَّلعَ على ما تَنفِرُ نَفسُه عنه، فيَكونُ مُراعاةُ ذلك في غَيرِ الزَّوجَينِ بطَريقِ الأَولى، ويُؤخَذُ مِنه أنَّ الاستِحدادَ ونَحوَه مِمَّا تَتَزَيَّنُ به المَرأةُ ليسَ داخِلًا في النَّهيِ عن تَغييِر الخِلقةِ، وفيه التَّحريضُ على تَركِ التَّعَرُّضِ لِما يوجِبُ سوءَ الظَّنِّ بالمُسلِمِ) [2072] ((فتح الباري)) (9/ 341). .

انظر أيضا: