موسوعة الآداب الشرعية

ثالثَ عشرَ: الإغضاءُ عن المساوئِ وملاحظةُ المحاسِنِ


يَنبَغي لكُلٍّ مِنَ الزَّوجَينِ أن يَغُضَّ الطَّرْفَ عن بَعضِ مَساوِئِ صاحِبِه، ويُلاحِظَ المحاسِنَ ويَهبَ المُساوئَ للمَحاسِنِ، وإذا كَرِهَ خُلُقًا رَضيَ خُلُقًا آخَرَ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
عن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَفرَكْ [1566] الفِرْكُ -بكَسرِ الفاءِ-: أن تُبغِضَ المرأةُ الزَّوجَ، يقالُ: فَرِكَته تَفرَكُه فِركًا، فهي فَروكٌ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لابن الجوزي (2/ 190). مُؤمِنٌ مُؤمِنةً، إن كَرِهَ مِنها خُلُقًا رَضيَ مِنها آخَرَ. أو قال: غَيرَه)) [1567] أخرجه مسلم (1469). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (في هذا الحَديثِ مِنَ الفِقهِ أنَّ المُؤمِنَ لا يَخلو مِن خُلُقٍ حَسَنٍ؛ فإنَّه إذا كانتِ المَرأةُ مُؤمِنةً لَم يَطَّرِدْ فيها ما يَكرَهُه المُؤمِنُ، والمُؤمِنةُ يَحمِلُها الإيمانُ على استِعمالِ خِصالٍ مَحمودةٍ يُحِبُّها المُؤمِنُ، فيَحمِلُ ما لا يُحِبُّ لِما يُحِبُّ، وإنَّما يَكرَهُ المُؤمِنُ مِنَ المُؤمِنةِ الخُلُقَ الذي لا يَرضاه، وفيها الخُلُقُ الذي يَرضاه، وبَعدَ أن يَكونَ إيمانُها مَوجودًا فإنَّه يُغتَفَرُ لذلك ما يَكونُ مِنها) [1568] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (8/ 190). .
وقال السَّعديُّ: (في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا يَفرَكْ مُؤمِنٌ مُؤمِنةً، إن كَرِهَ مِنها خُلُقًا رَضيَ مِنها خُلُقًا آخَرَ» فائِدَتانِ عَظيمَتانِ:
إحداهما: الإرشادُ إلى معاملةِ الزَّوجةِ والقريبِ والصَّاحِبِ والمعامِلِ، وكُلِّ مَن بينَك وبينَه عُلقةٌ واتصالٌ، وأنَّه ينبغي أن تُوطِّنَ نفسَك على أنَّه لا بدَّ أن يكونَ فيه عيبٌ أو نقصٌ أو أمرٌ تكرهُه؛ فإذا وجَدْتَ ذلك فقارِنْ بَينَ هذا وبينَ ما يجِبُ عليك أو ينبغي لك من قوَّةِ الاتِّصالِ والإبقاءِ على المحبَّةِ، بتذكُّرِ ما فيه من المحاسِنِ والمقاصِدِ الخاصَّةِ والعامَّةِ، وبهذا الإغضاءِ عن المساوئِ وملاحظةِ المحاسِنِ تدومُ الصُّحبةُ والاتِّصالُ، وتتِمُّ الرَّاحةُ وتحصُلُ لك.
الفائِدةُ الثَّانيةُ: وهي زوالُ الهَمِّ والقَلَقِ، وبقاءُ الصَّفاءِ، والمداومةُ على القيامِ بالحُقوقِ الواجبةِ والمستحَبَّةِ، وحصولُ الرَّاحةِ بَينَ الطَّرَفينِ، ومَن لم يسترشِدْ بهذا الذي ذكرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بل عكَس القضيَّةَ، فلَحَظ المساوِئَ، وعَمِيَ عن المحاسِنِ؛ فلا بدَّ أن يقلَقَ، ولا بدَّ أن يتكدَّرَ ما بينَه وبينَ مَن يتَّصِلُ به من المحبَّةِ، ويتقطَّعَ كثيرٌ من الحُقوقِ التي على كُلٍّ منهما المحافظةُ عليها) [1569] ((الوسائل المفيدة للحياة السعيدة)) (ص: 28). .
فائِدةٌ:
قال مُحَمَّد رَشيد رِضا: (القاعِدةُ الصَّحيحةُ لهَناءِ الزَّوجيَّةِ ما قاله أميرُ المُؤمِنينَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه لامرَأةٍ خاصَمَت زَوجَها إليه وصَرَّحَت له بأنَّها لا تُحِبُّه، فقال لَها:
«إذا كانت إحداكُنَّ لا تُحِبُّ الرَّجُلَ مِنَّا فلا تُخبرْه بذلك؛ فإنَّ أقَلَّ البُيوتِ ما بُنيَ على المَحَبَّةِ، وإنَّما يَتَعاشَرُ النَّاسُ بالحَسَبِ والإسلامِ» [1570] رواه يعقوب بن سفيان في ((المعرفة والتاريخ)) (1/ 392) عَنِ السَّائِبِ بنِ مالِكٍ الدُّؤَليِّ: (أنَّ ابنَ أبي عُروةَ الدُّؤَليِّ كان في خِلافةِ عُمَرَ يَختَلِعُ بَعضَ نِسائِه اللَّائي يَتَزَوَّجُ، فكان له في النَّاسِ مِن ذلك أُحدوثةٌ يَكرَهُها، فلمَّا عَلِمَ ذلك قامَ بعَبدِ اللهِ بنِ الأرقَمِ حَتَّى أدخَلَه بَيتَه، فقال لامرَأتِه وابنُ الأرقَمِ يَسمَعُ: أنشُدُكِ اللهَ هل تُبغِضيني؟ قالتِ امرَأتُه: لا تَنشُدْني. قال: بَلى أَنشُدُكِ اللهَ. قالت: اللَّهُمَّ نَعَم! قال ابنُ أبي عُروةَ لعَبدِ اللهِ بنِ الأرقَمِ: اسمَعْ! ثُمَّ انطَلَقَ ابنُ أبي عُروةَ إلى عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، فقال: يا أميرَ المُؤمِنينَ، إنَّكُم تَتَحَدَّثونَ أنِّي أظلِمُ النِّساءَ وأختَلِعُهنَّ، فسَلْ عَبدَ اللهِ بنَ الأرقَمِ عَمَّا سَمِعَ مِنِ امرَأتي، فأرسَلَ عُمَرُ إلى امرَأةِ ابنِ أبي عُروةَ، فجاءَته هيَ وعَمَّتُها. فقال: أأنتِ التي يُحَدِّثُني زَوجُك أنَّك تُبغِضينَه؟ قالت: يا أميرَ المُؤمِنينَ، أنا أوَّلُ مَن تابَ وراجَع أمرَ اللهِ، يا أميرَ المُؤمِنينَ نَشَدَني فتَحَرَّجتُ أن أكذِبَ، فأكذِبُ يا أميرَ المُؤمِنينَ؟ قال: نَعَمْ، فاكذِبي، وإن كانت إحداكُنَّ لا تُحِبُّ أحَدَنا فلا تُحَدِّثْه بذلك؛ فإنَّه أقَلُّ البُيوتِ الذي بُنيَ على الحُبِّ، ولَكِنَّ النَّاسَ يتعاشَرون بالإسلامِ والأنسابِ والإحسانِ). ويُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/ 138)، ((شرح السنة)) للبغوي (13/ 120). .
يَعني: التِزامُ كُلٍّ مِنَ الزَّوجَينِ بحِفظِ شَرَفِ الآخَرِ، والعَمَلِ بما يُرشِدُ إليه الإسلامُ مِنَ الواجِباتِ والآدابِ الزَّوجيَّةِ، هو الذي تَنتَظِمُ به الحَياةُ الزَّوجيَّةُ، ويَعيشُ النَّاسُ به العِيشةَ الهنَيَّةَ. ويَنبَغي لكُلٍّ مِنَ الزَّوجَينِ أن يَتَكَلَّفَ التَّحَبُّبَ إلى الآخَرِ بأكثَرَ مِمَّا يَجِدُه له في قَلبِه؛ فإنَّ التَّطَبُّعَ يَصيرُ طَبعًا، ورَحِمَ اللهُ عُلَيَّةَ بنتَ المَهديِّ أُختَ هارونَ الرَّشيدِ؛ حَيثُ قالت: تَحَبَّبْ؛ فإنَّ الحُبَّ داعيةُ الحُبِّ [1571] يُنظر: ((الأمالي)) لأبي علي القالي (1/ 224). [1572] ((حقوق النساء في الإسلام)) (ص: 353، 354). .

انظر أيضا: