موسوعة الآداب الشرعية

تَمهيدٌ في مكانةِ عِلمِ الطبِّ


إنَّ الطِّبَّ عِلمٌ شَريفٌ [2180] قال أبو بَكرٍ الرَّازيُّ في فَضلِ الأطِبَّاءِ: (إنَّهم قَدِ اجتَمَعَ لهم خَمسُ خِصالٍ لم تَجتَمِعْ لغيرِهم: الأولى: اتِّفاقُ أهلِ المِلَلِ والأديانِ على تَفضيلِ صِناعَتِهم. والثَّانيةُ: اعتِرافُ المُلوكِ والسُّوقةِ بشِدَّةِ الحاجةِ إليهم. والثَّالِثةُ: مُجاهَدةُ ما غابَ عَن أبصارِهم. والرَّابعةُ: اهتِمامُهمُ الدَّائِمُ بإدخالِ السُّرورِ والرَّاحةِ على غيرِهم. والخامِسةُ: الاسمُ المُشتَقُّ مِن أسماءِ اللهِ تعالى). ((أخلاق الطبيب)) (ص: 87، 88). ويُنظر: ((صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة)) لعلوي السقاف (ص: 233-235). ، وتَعلُّمُه مِن فُروضِ الكِفايةِ [2181] قال الغَزاليُّ: (العُلومُ التي ليسَت بشَرعيَّةٍ تَنقَسِمُ إلى ما هو مَحمودٌ، وإلى ما هو مَذمومٌ، وإلى ما هو مُباحٌ؛ فالمَحمودُ ما يَرتَبطُ به مَصالِحُ أمورِ الدُّنيا، كالطِّبِّ والحِسابِ، وذلك يَنقَسِمُ إلى ما هو فرضُ كِفايةٍ، وإلى ما هو فضيلةٌ وليسَ بفريضةٍ؛ أمَّا فَرضُ الكِفايةِ فهو كُلُّ عِلمٍ لا يُستَغنى عَنه في قِوامِ أمورِ الدُّنيا، كالطِّبِّ؛ إذ هو ضَروريٌّ في حاجةِ بَقاءِ الأبدانِ، وكالحِسابِ؛ فإنَّه ضَروريٌّ في المُعامَلاتِ وقِسمةِ الوصايا والمَواريثِ وغَيرِهما، وهذه هي العُلومُ التي لو خَلا البَلدُ عَمَّن يَقومُ بها حَرِجَ أهلُ البَلدِ، وإذا قامَ بها واحِدٌ كفى وسَقَطَ الفرضُ عَنِ الآخَرينَ. فلا يُتَعَجَّبُ مِن قَولِنا: إنَّ الطِّبَّ والحِسابَ مِن فُروضِ الكِفاياتِ؛ فإنَّ أصولَ الصِّناعاتِ أيضًا مِن فُروضِ الكِفاياتِ كالفِلاحةِ والِحياكةِ والسِّياسةِ، بَل الحِجامةُ والخياطةُ؛ فإنَّه لو خَلا البَلدُ مِنَ الحَجَّامِ تَسارَعَ الهلاكُ إليهم وحَرِجوا بتَعريضِهم أنفُسَهم للهَلاكِ. فإنَّ الذي أنزَل الدَّاءَ أنزَلَ الدَّواءَ وأرشَدَ إلى استِعمالِه وأعَدَّ الأسبابَ لتَعاطيه، فلا يَجوزُ التَّعَرُّضُ للهلاكِ بإهمالِه). ((إحياء عُلوم الدِّينِ)) (1/ 16). ، وقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما أنزَل اللهُ عَزَّ وجَلَّ داءً إلَّا أنزَل له دَواءً، عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِله مَن جَهِله)) [2182] أخرجه ابنُ ماجه (3438)، وأحمد (3922) واللَّفظُ له مِن حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6062)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (2/285)، وابن باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (33/420)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3438) وقَولُه: ((ما أنزَل اللهُ عَزَّ وجَلَّ داءً إلَّا أنزَلَ له دَواءً)). أخرجه البخاري (5678) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((ما أنزَل اللهُ داءً إلَّا أنزَل له شِفاءً)). ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لكُلِّ داءٍ دَواءٌ، فإذا أصيبَ دَواءُ الدَّاءِ بَرَأ بإذنِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ)) [2183] أخرج مسلم (2204) من حَديثِ جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وعَن أسامةَ بنِ شَريكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((قالتِ الأعرابُ: يا رَسولَ اللهِ، ألا نَتَداوى؟ قال: نَعَم، يا عِبادَ اللهِ تَداوَوا؛ فإنَّ اللَّهَ لم يَضَعْ داءً إلَّا وضَعَ له شِفاءً -أو قال: دَواءً- إلَّا داءً واحِدًا، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وما هو؟ قال: الهَرَمُ [2184] قال الخَطابيُّ: (في الحَديثِ إثباتُ الطِّبِّ والعِلاجِ، وأنَّ التَّداويَ مُباحٌ غيرُ مَكروهٍ، كما ذَهَبَ إليه بَعضُ النَّاسِ. وفيه: أنَّه جَعَل الهَرَمَ داءً، وإنَّما هو ضَعفُ الكِبَرِ، وليسَ مِنَ الأدواءِ التي هي أسقامٌ عارِضةٌ للأبدانِ مِن قِبَلِ اختِلافِ الطَّبائِعِ، وتَغيُّرِ الأمزِجةِ، وإنَّما شَبَّهَه بالدَّاءِ؛ لأنَّه جالبٌ للتَّلَفِ، كالأدواءِ التي قَد يَتَعَقَّبُها المَوتُ والهلاكُ، وهذا كقَولِ النَّمِرِ بنِ تَولبٍ: ودَعَوتُ رَبِّي بالسَّلامةِ جاهِدًا ليُصِحَّني فإذا السَّلامةُ داءُ يُريدُ أنَّ العُمرَ لمَّا طال به أدَّاه إلى الهَرَمِ، فصارَ بمَنزِلةِ المَريضِ الذي قَد أدنَفه [أي: أضْناه وأثْقلَه] الدَّاءُ وأضعَف قُواه. وكقَولِ حميدِ بنِ ثَورٍ الهُذَليِّ: أرى بَصَري قَد رابَني بَعدَ صِحَّةٍ وحَسبُك داءً أن تَصِحَّ وتَسلَما). ((معالم السنن)) (4/ 217). ) [2185] أخرجه من طرق: أبو داود (3855)، والترمذي (2038) واللفظ له، وابن ماجه (3436). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (6061)، والحاكم في ((المستدرك)) (416)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (5/281)، وابن دقيق العيد في ((الاقتراح)) (95)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3855)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (20)، وقال الترمذي: حسن صحيح وقَولُه: ((فإنَّ اللَّهَ لم يَضَع داءً إلَّا وضَع له شِفاءً)) أخرجه البخاري (5678) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُه: ((ما أنزَل اللهُ داءً إلَّا أنزَل له شِفاءً)). .
وقال الشَّافِعيُّ: (إنَّما العِلمُ عِلمانِ: عِلمُ الدِّينِ، وعِلمُ الدُّنيا؛ فالعِلمُ الذي للدِّينِ هو الفِقهُ، والعِلمُ الذي للدُّنيا هو الطِّبُّ) [2186] رواه ابن أبي حاتم في ((آداب الشافعي ومناقبه)) (ص: 244). .
وفي لَفظٍ: (عِلمُ الفِقهِ للأديانِ، وعِلمُ الطِّبِّ للأبدانِ، وما سِوى ذلك فبُلْغةُ مَجلِسٍ) [2187] رواه البيهقي في ((مناقب الشافعي)) (2/ 114). .
هذا، وإنَّ للطَّبيبِ آدابًا في التَّعامُلِ مَعَ المَريضِ يَنبَغي مُراعاتُها، وللمَريضِ مَعَ الطَّبيبِ آدابٌ يَنبَغي التَّأدُّبُ بها. وفيما يلي بيانُ أهمِّ هذه الآدابِ:

انظر أيضا: