موسوعة الآداب الشرعية

أولًا: النِّيَّةُ الصَّالحةُ


يَنبَغي للطَّبيبِ أن يَستَحضِرَ النِّيَّةَ الصَّالحةَ في عِلاجِ المَريضِ، وأنَّه يَسعى في نَفعِ أخيه [2188] يُنظر: ((أخلاق الطبيب)) لأبي بكر الرازي (ص: 29). وذَكرَ ابنُ الحاجِّ المالِكيُّ أنَّ العِلمَ عِلمانِ: عِلمُ الأديانِ، وعِلمُ الأبدانِ، وكِلاهما إذا تَخَلَّصَتِ النِّيَّةُ فيه كان مِن أعظَمِ العِباداتِ، ويَنوي الطَّبيبُ امتِثالَ السُّنَّةِ المُطَهَّرةِ في التَّطَبُّبِ، وإعانةِ إخوانِه المسلمينَ، وكَشفِ الكُرَبِ عَنهم ومُشارَكتِهم في مَصائِبِهم والنَّوازِلِ التي تَنزِلُ بهم، ويَنوي السَّترَ على عَوراتِ إخوانِه المسلمينَ، لا يَطَّلعُ إلَّا على ما لا بُدَّ مِنه مِمَّا دَعَتِ الضَّرورةُ الشَّرعيَّةُ إلى الاطِّلاعِ عليه. ومِن أجلِ هذا المَعنى يُؤمَرُ المَريضُ ومَن تَولَّى أمرَه أن لا يَستَعمِلَا مِنَ الأطِبَّاءِ إلَّا مَن يُرتَضى حالُه مِمَّن كان مُتَّصِفًا بالدِّينِ والثِّقةِ والأمانةِ؛ لأنَّه يَتَصَرَّفُ بما يَصِفُه في مُهَجِ المَرضى. يُنظر: ((المدخل)) (4/ 133، 134). وقال ابنُ الحاجِّ أيضًا: (قَد تَقَدَّمَ كيفيَّةُ نيَّةِ الطَّبيبِ فالشَّرابيُّ مِثلُه في ذلك، ويَزيدُ عليه الشَّرابيُّ بمُباشَرَتِه لعَمَلِ الأشرِبةِ والأدويةِ والعَقاقيرِ، فلتَكنْ نيَّتُه في ذلك إعانةَ إخوانِه المسلمينَ؛ ليَكونَ بهذه النِّيَّةِ دائِمًا في عِبادةٍ نَفعُها مُتَعَدٍّ، وقد تَقَدَّم قَولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((واللَّهُ في عَونِ العَبدِ ما دامَ العَبدُ في عَونِ أخيه))، بَل إعانةُ المَرضى مِنَ المُسلِمينَ أكثَرُ ثَوابًا مِن إعانةِ كثيرٍ مِن أصِحَّائِهم؛ لكثرةِ ضَروراتِهم، وقِلَّةِ مَن يَعرِفُ مُحاولةَ أمراضِهم). ((المدخل)) (4/ 147). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الأعمالُ بالنِّيَّةِ، ولكُلِّ امرِئٍ ما نَوى)) [2189] أخرجه البخاري (54) واللفظ له، ومسلم (1907). .
2- عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((نَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنِ الرُّقى، فجاءَ آلُ عَمرِو بنِ حَزمٍ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّه كانت عِندَنا رُقيةٌ نَرقي بها مِنَ العَقرَبِ [2190] أي: مِن لدغةِ العقربِ. يُنظر: ((الفتح الرباني)) للساعاتي (17/ 177). ، وإنَّك نَهيتَ عَنِ الرُّقى، قال: فعَرَضوها عليه، فقال: ما أرى بَأسًا، مَنِ استَطاعَ مِنكُم أن يَنفَعَ أخاه فليَنفَعْه)) [2191] أخرجه مسلم (2199). .
وفي رِوايةٍ عن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان لي خالٌ يَرقي مِنَ العَقرَبِ، فنَهى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنِ الرُّقى، قال: فأتاه، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنَّك نَهيتَ عَنِ الرُّقى، وأنا أرقي مِنَ العَقرَبِ، فقال: مَنِ استَطاعَ مِنكُم أن ينفَعَ أخاه فليَفعَلْ)) [2192] أخرجها مسلم (2199). .
3- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نفَّس عن مُسلِمٍ كُربةً مِن كُرَبِ الدُّنيا نفَّس اللهُ عنه كُربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَن يسَّر على مُعسِرٍ في الدُّنيا يسَّر اللهُ عليه في الدُّنيا والآخِرةِ، ومَن ستَر على مُسلِمٍ في الدُّنيا ستَره اللهُ في الدُّنيا والآخِرةِ، واللهُ في عَونِ العبدِ ما كان العبدُ في عونِ أخيه...)) الحَديثَ [2193] أخرجه مسلم (2699). .
فائدةٌ في القواعدِ التي يَنطَلِقُ منها الطَّبيبُ في مُمارَسةِ مِهنةِ الطِّبِّ
(المُسلِمُ في عَمَلِه الحَلالِ -سَواءٌ كان الهَدَفُ مِنه الدُّنيا أم الآخِرةَ- له ثَوابُ العِبادةِ... ولكي يَكونَ العَمَلُ في مَنزِلةِ العِبادةِ لا بُدَّ أن تَتَوفَّرَ في مُمارَسَتِه نيَّةٌ صادِقةٌ بأنَّه موجَّهٌ إلى رِضا اللهِ تعالى، فالرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّك لن تُخلَّفَ فتَعمَلَ عَمَلًا تَبتَغي به وجهَ اللهِ إلَّا ازدَدتَ به دَرَجةً ورِفعةً)) [2194] أخرجه البخاري (3936)، ومسلم (1628) من حَديثِ سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
لذلك فإنَّ الإسلامَ يَدعو الطَّبيبَ المُسلمَ لأن يَنطَلقَ في مُمارَسةِ مِهنةِ الطِّبِّ مِن قَواعِدَ ثَلاثٍ:
أ- رَفعُ الضَّرَرِ عَنِ المُجتَمَعِ بتَوفيرِ مُقَوِّماتِ الصِّحَّةِ العامَّةِ، وذلك انطِلاقًا مِن قاعِدةِ الأخوَّةِ الإسلاميَّةِ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] ، فعلى كُلِّ فردٍ في المُجتَمَعِ أن يَجتَهدَ في مَجالِ تَخَصُّصِه مِن مَبدَأِ الأخوَّةِ، وحتَّى نَكونَ كما أرادَ الرَّسولُ الكريمُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُؤمِنُ للمُؤمِنِ كالبُنيانِ يَشُدُّ بَعضُه بَعضًا)) [2195] أخرجه البخاري (2446)، ومسلم (2585) من حَديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. . والطَّبيبُ في مَجالِ تَخَصُّصِه مُطالَبٌ بأن يُقَدِّمَ عِلمَه وخِبرَتَه لصالحِ المُجتَمَعِ المُسلمِ.
ب- أداءُ واجِبِ الأخوَّةِ في اللهِ نَحوَ أخيه المُسلمِ المَريضِ، ففي الحَديثِ الجامِعِ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُسلِمُ أخو المُسلِمِ؛ لا يَظلِمُه ولا يُسلِمُه، ومَن كان في حاجةِ أخيه كان اللَّهُ في حاجَتِه، ومَن فرَّجَ عن مُسلمٍ كُربةً فرَّجَ اللهُ عَنه كُربةً مِن كُرُباتِ يَومِ القيامةِ، ومَن سَتَرَ مُسلِمًا سَترَه اللَّهُ يَومَ القيامةِ)) [2196] أخرجه البخاري (2442)، ومسلم (2580) واللفظ له من حَديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
وبذلك يَكونُ هَدَفُ الطَّبيبِ في تَخفيفِ آلامِ المَرضى أسمى مِنَ الرَّغبةِ في الأجرِ والجَزاءِ الدُّنيَويِّ، وأرفعَ مِن إشباعِ النَّفسِ بلذَّةِ الشُّعورِ بالمَهارةِ في المِهنةِ.
ج- الرَّحمةُ الإنسانيَّةُ التي تَتَّسِعُ لكُلِّ البَشَرِ مُسلِمينَ وغيرَ مُسلمينَ، بَل تَتَّسِعُ لكُلِّ كائِنٍ حيٍّ، كما يَقولُ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "في كُلِّ ذاتِ كبِدٍ رَطْبةٍ أجرٌ" [2197] أخرجه البخاري (2466) واللفظ له، ومسلم (2244) من حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. [2198] ((نفح الطيب في آداب وأحكام الطبيب)) (ص: 8). .

انظر أيضا: