موسوعة الآداب الشرعية

عاشرًا: تَطَهُّرُ المَرأةِ بالمِسكِ في غُسلِ الحَيضِ


يُستَحَبُّ للمُغتَسِلةِ مِنَ الحَيضِ استِعمالُ قِطعةٍ مِنَ صُوفٍ أوِ قُطنٍ أو غَيرِه مُطَيَّبةٍ بالمِسكِ في مَوضِعِ الدَّمِ [154] قال النَّوويُّ: (السُّنَّةُ في حَقِّ المُغتَسِلةِ مِنَ الحَيضِ أن تَأخُذَ شَيئًا مِن مِسكٍ، فتَجعَلَه في قُطنةٍ أو خِرقةٍ أو نَحوِها، وتُدخِلَها في فَرجِها بَعدَ اغتِسالِها، ويُستَحَبُّ هذا للنُّفَساءِ أيضًا؛ لأنَّها في مَعنى الحائِضِ... واختَلف العُلماءُ في الحِكمةِ في استِعمالِ المِسكِ؛ فالصَّحيحُ المُختارُ الذي قاله الجَماهيرُ مِن أصحابِنا وغَيرِهم أنَّ المَقصودَ باستِعمالِ المِسكِ تَطييبُ المَحَلِّ ودَفعُ الرَّائِحةِ الكَريهةِ... فإن فقدَتِ المِسكَ استَعمَلت ما يَخلُفُه في طيبِ الرَّائِحةِ). يُنظر: ((شرح مسلم)) (4/ 13). وقال ابنُ رَجَبٍ: (الصَّحيحُ الذي عَليه جُمهورُ الأئِمَّةِ العُلماءُ بالحَديثِ والفِقهِ: أنَّ غُسلَ المَحيضِ يُستَحَبُّ فيه استِعمالُ المِسكِ، بخِلافِ غُسلِ الجَنابةِ، والنِّفاسُ كالحَيضِ في ذلك، وقد نَصَّ على ذلك الشَّافِعيُّ وأحمدُ... قال الإمامُ أحمَدُ في رِوايةِ حَنبَلٍ: يُستَحَبُّ للمَرأةِ إذا هيَ خَرَجَت مِن حَيضِها أن تُمسِكَ مَعَ القُطنةِ شَيئًا مِنَ المِسكِ، ليَقطَعَ عنها رائِحةَ الدَّمِ وزَفرَتَه، تَتبعُ به مَجاريَ الدَّمِ. ونُقِل عنه أيضًا قال: يُستَحَبُّ للمَرأةِ إذا طَهُرَت مِنَ الحَيضِ أن تَمَسَّ طِيبًا، وتُمسكَه مَعَ القُطنةِ؛ ليَقطَعَ عنها رائِحةَ الدَّمِ وزُفورتَه؛ لأنَّ دَمَ الحَيضِ دَمٌ له رائِحةٌ). ((فتح الباري)) (2/ 97، 98). .
الدَّليلُ على ذلك مِن السُّنَّةِ والإجماعِ:
أ- مِنَ السُّنَّةِ
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها ((أنَّ أسماءَ سَألتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن غُسلِ المَحيضِ؟ فقال: تَأخُذُ إحداكُنَّ ماءَها وسِدرتَها، فتَطَهَّرُ فتُحسِنُ الطُّهورَ، ثُمَّ تَصُبُّ على رَأسِها فتَدلُكُه دَلكًا شَديدًا حتَّى تَبلُغَ شُؤونَ رَأسِها، ثُمَّ تَصُبُّ عليها الماءَ، ثُمَّ تَأخُذُ فِرْصةً مُمسَّكةً [155] الفِرصةُ: القِطعةُ مِنَ الصُّوفِ أوِ القُطنِ أو غَيرِه. مُمَسَّكةٌ: مُطَيَّبةٌ بالمِسكِ، مُبالغةٌ في نَفيِ ما يُكرَهُ مِن ريحِ الدَّمِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (1/ 192)، ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (1/ 589)، ((فتح الباري)) لابن رجب (2/ 96). فتَطَهَّرُ بها. فقالت أسماءُ: وكَيف تَطَهَّرُ بها؟ فقال: سُبحانَ اللَّهِ! تَطَهَّرينَ بها! فقالت عائِشةُ كَأنَّها تُخفي ذلك: تَتبَّعينَ أثَرَ الدَّمِ، وسَألَتْه عن غُسلِ الجَنابةِ؟ فقال: تَأخُذُ ماءً فتَطهَّرُ فتُحسِنُ الطُّهورَ أو تُبلِغُ الطُّهورَ، ثُمَّ تَصُبُّ على رَأسِها فتَدلُكُه حتَّى تَبلُغَ شُؤونَ رَأسِها، ثُمَّ تُفيضُ عليها الماءَ. فقالت عائِشةُ: نِعمَ النِّساءُ نِساءُ الأنصارِ؛ لم يَكُنْ يَمنَعُهنَّ الحَياءُ أن يَتَفقَّهنَ في الدِّينِ)) [156] أخرجه مسلم (332). .
وفي رِوايةٍ عن سُفيانَ بنِ عُيَينةَ، عن مَنصورِ بنِ صَفيَّةَ، عن أُمِّه، عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((سَألتِ امرَأةٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كَيف تَغتَسِلُ مِن حَيضَتِها؟ قال: فذَكَرَت أنَّه عَلَّمَها كَيف تَغتَسِلُ. ثُمَّ تَأخُذُ فِرْصةً مِن مِسكٍ فتَطَهَّرُ بها. قالت: كَيف أتَطَهَّرُ بها؟ قال: تَطَهَّري بها، سُبحانَ اللَّه! واستَتَرَ -وأشارَ سُفيانُ بنُ عُيَينةَ بيَدِه على وَجهِه- قال: قالت عائِشةُ: واجتَذَبتُها إليَّ وعَرَفتُ ما أرادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. فقُلتُ: تَتَبَّعي بها أثَرَ الدَّمِ)) [157] أخرجه البخاري (314)، ومسلم (332) واللفظ له. .
ب- مِنَ الإجماعِ
نُقِل الإجماعُ على ذلك [158] قال النَّوويُّ: (الصَّوابُ أنَّ المَقصودَ به تَطييبُ المَحَلِّ، وأنَّها تَستَعمِلُه بَعدَ الغُسلِ؛ لحَديثِ عائِشةَ أنَّ أسماءَ بنتَ شَكَلٍ سَألتِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن غُسلِ المَحيضِ، فقال: «تَأخُذُ إحداكُنَّ ماءَها وسِدرَتَها فتَطَهَّرُ وتُحسِنُ الطُّهورَ، ثُمَّ تَصُبُّ على رَأسِها فتَدلُكُه ثُمَّ تَصُبُّ عليها الماءَ، ثُمَّ تَأخُذُ فِرصةً مُمسَّكةً فتَطَهَّرُ بها». رَواه مُسلِمٌ بهذا اللَّفظِ. وقدِ اتَّفقوا على استِحبابِه للمُزَوَّجةِ وغَيرِها، والبِكرِ والثَّيِّبِ. واللَّهُ أعلمُ). ((المجموع)) (2/ 188). .
فائدةٌ:
التَّطَهُّرُ بالفِرصةِ المُمسَّكةِ ليسَ بواجِبٍ، وقد نُقِل الإجماعُ على ذلك [159] قال ابنُ حَزمٍ: (أمر رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن تَتَطَهَّرَ بالفِرصةِ المَذكورةِ -وهيَ القِطعةُ- وأن تَتَوضَّأَ بها، وإنَّما بَعَثَه اللهُ تعالى مُبَيِّنًا ومُعلِّمًا، فلو كان ذلك فرضًا لعَلَّمها عَليه السَّلامُ كَيف تَتَوضَّأُ بها أو كَيف تَتَطَهَّرُ، فلمَّا لم يَفعَلْ كان ذلك غَيرَ واجِبٍ، مَعَ صِحَّةِ الإجماعِ جيلًا بَعدَ جيلٍ على أنَّ ذلك ليسَ واجِبًا، فلم تَزَلِ النِّساءُ في كُلِّ بَيتٍ ودارٍ على عَهدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى يَومِنا هذا يَتَطَهَّرنَ مِنَ الحَيضِ، فما قال أحَدٌ: إنَّ هذا فرضٌ). ((المحلى بالآثار)) (1/ 116). .

انظر أيضا: