موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في أهميَّةِ الأذانِ، وفضلِ المؤذِّنينَ


الأذانُ شِعارُ دارِ الإسلامِ، وهو مِن أعظَمِ الشَّعائرِ الظَّاهرةِ [160] قال ابنُ العربيِّ: (الأذانُ مِن شعائرِ الدِّينِ، يحقنُ الدِّماءَ ويسكِّنُ الدَّهْماءَ، كان النَّبيُّ عليه السَّلامُ إذا سمِع النِّداءَ أمسَكَ، وإلَّا أغار. فهو واجبٌ في البلدِ... وفائدتُه: اجتماعُ النَّاسِ، وتيسيرُ الإقبالِ. وفضائلُه: أنَّه يَطرُدُ الشَّيطانَ، ويؤمِّنُ الجبانَ؛ فمَن فزِع فلْيُؤَذِّنْ، ويُجابُ بحَضرتِه الدُّعاءُ.... ومِن حكمةِ الأذانِ وفائدتِه: الإعلامُ بالصَّلاةِ بذِكْرِ اللهِ وتوحيدِه وتصديقِ رسولِه. وتجديدُ التَّوحيدِ؛ فإنَّها ترجمةٌ عظيمةٌ مِن تراجمِ لا إلهَ إلَّا اللهُ). يُنظر: ((المسالك في شرح موطأ مالك)) (2/ 323، 324)، ((عارضة الأحوذي)) (2/ 13). ، وقد ثبتْ في فضلِه أحاديثُ كثيرةٌ.
فعن أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لو يَعلَمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأوَّلِ، ثمَّ لم يَجِدوا إلَّا أن يَستَهِموا عليه لَاسْتَهَموا، ولو يَعْلَمون ما في التَّهجيرِ لَاسْتَبَقوا إليه، ولو يَعلَمون ما في العَتَمةِ والصُّبحِ لَأَتَوْهُما ولو حَبْوًا [161] النِّداءُ هو الأذانُ. والاستهامُ: القُرعةُ، وإنَّما قيل في الإقراعِ استِهامٌ؛ لأنَّها سِهامٌ يُكتَبُ عليها الأسماءُ، فمَن وقَع له منها سهمٌ حاز الحظَّ المَوسومَ. والمعنى: أنَّهم لو علِموا فضيلةَ الأذانِ وقدرَها وعظيمَ جزائِه، ثمَّ لم يَجدوا طريقًا يحصِّلونه به لضيقِ الوقتِ عن أذانٍ بعدَ أذانٍ، أو لكَونِه لا يؤذِّنُ للمسجدِ إلَّا واحدٌ؛ لَاقتَرَعوا في تحصيلِه. ولو يَعلَمون ما في الصَّفِّ الأوَّلِ مِن الفضيلةِ نحو ما سبق وجاؤوا إليه دفعةً واحدةً، وضاق عنهم، ثم لم يَسمحْ بعضُهم لبعضٍ به؛ لَاقتَرَعوا عليه. والتَّهجيرُ: التَّبكيرُ إلى الصَّلاةِ، أيَّ صلاةٍ كانت. والعَتَمةُ: العِشاءُ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (3/ 460)، ((شرح مسلم)) للنووي (4/ 157، 158). ) [162] أخرجه البخاري (615)، ومسلم (437). .
وعنه رضيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: ((المؤذِّنُ يُغفَرُ له مَدَى صَوتِه [163] قال الخَطَّابيُّ: (مدَى الشَّيءِ: غايتُه، والمعنى: أنَّه يَستكمِلُ مغفرةَ الله إذا استوفى وُسْعَه في رفعِ الصَّوتِ، فيَبلُغُ الغايةَ مِن المغفرةِ إذا بلَغ الغايةَ مِن الصَّوتِ. وقيل فيه وجهٌ آخَرُ، وهو أنَّه كلامُ تمثيلٍ وتشبيهٍ، يريدُ أنَّ المكانَ الَّذي يَنتهي إليه الصَّوتُ لو تقدّر أن يكونَ ما بيْن أقصاهُ وبيْن مقامِه الَّذي هو فيه ذُنوبٌ تَملأُ تلك المسافةَ؛ لَغفَرَها اللهُ له). ((معالم السنن)) (1/ 155). ، ويَشهَدُ له كلُّ رَطْبٍ ويابسٍ، وشاهِدُ الصَّلاةِ يُكتَبُ له خَمْسٌ وعِشرونَ صَلاةً، ويُكَفَّرُ عنه ما بَيْنَهما)) [164] أخرجه أبو داود (515) واللفظ له، والنسائي (645)، وابن ماجه (724). صححه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (1/478)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1666)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (515)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (515)، وحسنه ابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (1/312). .
وعن عبدِ الرَّحمنِ بنِ عبدِ الله بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي صَعْصَعةَ الأنصاريِّ ثمَّ المازِنيِّ، عن أبيه، أنَّه أخبَرَه: أنَّ أبا سعيدٍ الخُدْريَّ رضيَ الله عنه قال له: ((إنِّي أَراكَ تُحِبُّ الغَنَمَ والباديةَ، فإذا كنتَ في غَنَمِك أو باديَتِكَ، فأذَّنْتَ بالصَّلاةِ، فارفَعْ صوتَك بالنِّداءِ؛ فإنَّه لا يَسْمَعُ مَدَى صَوتِ المؤذِّنِ جِنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلَّا شَهِد له يومَ القيامةِ. قال أبو سعيدٍ: سمِعتُه مِن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ)) [165] أخرجه البخاري (609). .
وعن طَلْحةَ بنِ يحيى، عن عمِّه، قال: كنتُ عندَ مُعاويةَ بنِ أبي سُفْيانَ، فجاءه المؤذِّنُ يَدْعوه إلى الصَّلاةِ، فقال مُعاويةُ: سمِعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((المؤذِّنون أطولُ النَّاسِ أعناقًا يومَ القيامةِ)) [166] أخرجه مسلم (387). .
وعن عُقْبةَ بنِ عامِرٍ رضيَ الله عنه، قال: سمِعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((يَعجَبُ ربُّك مِن راعي غَنَمٍ في رأسِ شَظِيَّةٍ [167] قال ابن الأثير: (الشَّظيَّةُ مِن الجبلِ: قطعةٌ انقطعَتْ منه ولم تنفصِلْ، كأنَّها انكسرَتْ منه ولم تَنكسِرْ، والجمعُ: الشَّظايا). ((جامع الأصول)) (9/ 395). وقال المُظهِري: (الشَّظيَّة: الصَّخرةُ العظيمةُ الخارجةُ مِن الجبلِ، كأنَّها أنفُ الجبلِ. وقولُه: «يخافُ مِنِّي» يعني: لا يؤذِّنُ ولا يصلِّي ليَراه أحدٌ؛ لأنَّه لم يكُنْ أحدٌ حاضرًا ثَمَّ، بل يفعلُ هذا لِخَوفِ عذابي، وطمعِ جنَّتي). ((المفاتيح)) (2/ 53). بجبلٍ، يؤذِّنُ للصَّلاةِ، ويُصَلِّي، فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: انظُروا إلى عبدي هذا يؤذِّنُ، ويُقيمُ الصَّلاةَ، يَخافُ مِنِّي، قد غفَرْتُ لعبدي، وأدخلتُه الجنَّةَ)) [168] أخرجه أبو داود (1203) واللفظ له، والنسائي (666)، وأحمد (17443). صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (1660)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1203)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (929) .
وعن أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه، قال: ((كُنَّا مع رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقام بِلالٌ يُنادي، فلمَّا سكتَ قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: مَن قال مِثلَ هذا يقينًا دخَل الجنَّةَ)) [169] أخرجه النسائي (674) واللفظ له، وعبد الله بن أحمد في ((زوائد المسند)) (8624). صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (1667)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (8624)، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (246)، وصحح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (747). .
وعنه رضيَ الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((إذا نُوديَ للصَّلاةِ أَدْبَرَ الشَّيطانُ له ضُراطٌ؛ حتَّى لا يَسمَعَ التَّأذينَ، فإذا قُضيَ التَّأذينُ أقْبَلَ، حتَّى إذا ثُوِّبَ [170] قال الخَطَّابيُّ: (التَّثْويبُ هنا: الإقامةُ، والعامَّةُ لا تَعرِفُ التَّثويبَ إلَّا قولَ المؤذِّنِ في صلاةِ الفَجرِ: "الصَّلاةُ خيرٌ مِن النَّومِ". ومعنَى التَّثويبِ: الإعلامُ بالشَّيْءِ، والإنذارُ بوُقوعِه. وأصلُه أن يلوِّحَ الرَّجُلُ لصاحِبِه بثَوبِه فيديرَه عندَ الأمرِ يُرهِقُه مِن خوفٍ أو عدوٍّ، ثمَّ كثُر استعمالُه في كلِّ إعلامٍ يجهرُ به صوت، وإنِّما سُمِّيَتِ الإقامةُ تَثويبًا؛ لأنَّها إعلامٌ بإقامةِ الصَّلاةِ، والأذانُ إعلامٌ بوقتِ الصَّلاةِ). ((معالم السنن)) (1/ 155). بالصَّلاةِ أدبَرَ، حتَّى إذا قُضيَ التَّثْويبُ أقبَلَ حتَّى يَخطُرَ بيْنِ المرءِ ونفْسِه؛ يقولُ له: اذكُرْ كذا، واذكُرْ كذا، لِما لم يَكُنْ يَذْكُرُ مِن قَبْلُ، حتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ ما يَدري كمْ صلَّى)) [171] أخرجه البخاري (608)، ومسلم (389) واللفظ له. .
وفي روايةٍ: ((إنَّ الشَّيطانَ إذا سمِع النِّداءَ بالصَّلاةِ أحالَ [172] أحالَ: هو بمعنى قولِه في الحديثِ السَّابقِ: «أدبَرَ»، يُقالُ: أحالَ إلى الشَّيءِ: إذا أقبَلَ إليه هارِبًا. ((إكمال المعلم)) لعياض (2/ 256). له ضُراطٌ؛ حتَّى لا يَسمَعَ صَوتَه، فإذا سكَتَ رجَع فوَسْوَسَ، فإذا سمِع الإقامةَ ذهَب حتَّى لا يَسمَعَ صوتَه، فإذا سكتَ رجَع فوَسْوَسَ)) [173] أخرجها مسلم (389). .
وفي روايةٍ عن سُهَيلٍ، قال: أرسَلَني أبي إلى بَني حارثةَ، قال: ومعي غلامٌ لنا -أو صاحبٌ لنا-، فناداه مُنادٍ مِن حائطٍ باسمِه، قال: وأشرَفَ الَّذي معي على الحائطِ فلم يَرَ شيئًا، فذكرتُ ذلك لأبي، فقال: لو شعَرتُ أنَّك تَلْقَى هذا لم أُرسِلْك، ولكنْ إذا سمِعتَ صَوتًا فنادِ بالصَّلاةِ؛ فإنِّي سمِعتُ أبا هُريرةَ يحدِّثُ عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إنَّ الشَّيطانَ إذا نُوديَ بالصَّلاةِ ولَّى وله حُصَاصٌ [174] قال أبو عُبَيدٍ القاسمُ بنُ سلَّامٍ: (قال حمَّادٌ: قلتُ لعاصمٍ: ما الحُصاصُ؟ فقال: أمَا رأيتَ الحِمارَ إذا صَرَّ بأُذُنَيْه، ومَصَعَ بذَنَبِه، وعَدَا؟ فذلك حُصاصُه. وقال الأصمعيُّ: الحُصاصُ: شدَّةُ العَدْوِ وسُرعتُه. ويُقالُ: هو الضُّراطُ في قولِ بعضِهم. وقولُ عاصمٍ أعجَبُ إلَيَّ، وهو قولُ الأصمعيِّ أو نحوُه). ((غريب الحديث)) (5/ 202، 203). ) [175] أخرجها مسلم (389). . إلى غيرِ ذلك مِن فضائلِ الأذانِ.
وفيما يلي بيانُ أهمِّ الآدابِ المتعلِّقةِ بالأذانِ والإقامةِ:

انظر أيضا: