تمهيدٌ في مَنزِلةِ صلاةِ الجماعةِ وحِكَمِها وفَضائلِها
صَلاةُ الجَماعةِ لها مَنزِلةٌ عَظيمةٌ في الإسلامِ، فهيَ شَعيرةٌ مِن أعظَمِ شَعائِر الإسلامِ؛ لِما لها مِن حِكَمٍ عَظيمةٍ وفوائِدَ كَبيرةٍ؛ فهيَ تزرَعُ المَودَّةَ والمَحَبَّةَ بَينَ المُسلمينَ، مَعَ كَونِها وسيلةً للتَّعارُفِ فيما بَينَهم. وتُعَوِّدُ الأُمَّةَ الإسلاميَّةَ على الاجتِماعِ، وعَدَمِ التَّفرُّقِ. وتُعَوِّدُ المُسلِمَ على ضَبطِ النَّفسِ؛ فمُتابَعةُ الإمامِ في الصَّلاةِ يُدَرِّبُه على ضَبطِ النَّفسِ، وهيَ تُشعِرُ المُسلِمينَ بالمُساواةِ.
مِن حِكَمِ صَلاةِ الجَماعةِ وفوائِدِها: تَفقُّدُ أحوالِ المُسلمينَ مِنَ الفُقَراءِ والمَرضى لمُساعَدَتِهم، والمُتَهاوِنينَ في الصَّلاةِ لنُصحِهم، والجاهلينَ بأحكامِ الصَّلاةِ لتَعليمِهم.
مِن حِكَمِها أيضًا: زيادةُ نَشاطِ المُسلمِ واجتِهادِه في العِبادةِ إذا رَأى المُجتَهدينَ مِنَ المُسلمينَ في العِبادةِ، إلى غَيرِ ذلك مِنَ الحِكَمِ والفوائِدِ.
لذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَريصًا على إقامَتِها حتَّى في مَرَضِ مَوتِه؛ فعن عُبَيدِ اللهِ بنِ عَبدِ اللَّهِ بنِ عُتبةَ، قال: دَخَلتُ على عائِشةَ فقُلتُ: ألا تُحَدِّثيني عن مَرَضِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالت: بَلى
((ثَقُل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: أصلَّى النَّاسُ؟ قُلنا: لا، هم يَنتَظِرونَك، قال: ضَعوا لي ماءً في المِخضَبِ. قالت: ففعَلنا، فاغتَسَل، فذَهَبَ ليَنوءَ فأُغميَ عليه، ثُمَّ أفاقَ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أصلَّى النَّاسُ؟ قُلنا: لا، هم يَنتَظِرونَك يا رَسولَ اللهِ، قال: ضَعوا لي ماءً في المِخضَبِ، قالت: فقَعَدَ فاغتَسَل، ثُمَّ ذَهَبَ ليَنوءَ فأُغمِيَ عليه، ثُمَّ أفاقَ، فقال: أصلَّى النَّاسُ؟ قُلنا: لا، هم يَنتَظِرونَك يا رَسولَ اللهِ، فقال: ضَعوا لي ماءً في المِخضَبِ، فقَعَدَ، فاغتَسَل، ثُمَّ ذَهَبَ ليَنوءَ فأُغمِيَ عليه، ثُمَّ أفاقَ فقال: أصلَّى النَّاسُ؟ فقُلنا: لا، هم يَنتَظِرونَك يا رَسولَ اللهِ، والنَّاسُ عُكوفٌ في المَسجِدِ، يَنتَظِرونَ النَّبيَّ عليه السَّلامُ لصَلاةِ العِشاءِ الآخِرةِ، فأرسَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أبي بَكرٍ بأن يُصَلِّيَ بالنَّاسِ...)) الحَديثَ
[816] أخرجه البخاري (687) واللفظ له، ومسلم (418). .
وكان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ تعالى عنهم مِن أشَدِّ النَّاسِ التِزامًا لهذه الجَماعةِ؛ فعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، قال:
((مَن سرَّه أن يَلْقَى اللهَ غدًا مسلِمًا فليحافِظْ على هؤلاءِ الصلواتِ حيث يُنادَى بهنَّ؛ فإنَّ اللهَ شرَع لنبيِّكم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سُنَنَ الهدى، وإنهنَّ مِن سُنَنِ الهدى، ولو أنَّكم صلَّيتُم في بُيوتِكم كما يُصلِّي هذا المتخلِّفُ في بيتِه لتركتُم سُنَّةَ نبيِّكم، ولو تركتُم سُنَّةَ نبيِّكم لضَلَلتُم، وما من رجلٍ يتطهَّرُ فيُحسِنُ الطُّهورَ، ثم يَعمِدُ إلى مسجدٍ من هذه المساجدِ، إلَّا كتَبَ اللهُ له بكلِّ خُطوةٍ يخطوها حسنةً، ويرفَعُه بها درجةً، ويحطُّ عنه بها سيِّئةً، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّفُ عنها إلَّا منافقٌ معلومُ النِّفاقِ، ولقد كان الرَّجُلُ يُؤتَى به يُهادَى [817] يُهادَى بَينَ الرَّجُلينِ: يَمشي بينَهما معتمِدًا عليهما؛ مِن ضَعفِه وتمايُلِه، أو يُمسِكُه رَجُلانِ مِن جانِبَيه بعَضُدَيْه يَعتمِدُ عليهما. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/255)، ((شرح مسلم)) للنووي (5/156). بين الرَّجُلينِ حتى يُقامَ في الصَّفِّ)) [818] أخرجه مسلم (654). .
وقد كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شَديدَ الإنكارِ على مَن كان يَتَغَيَّبُ عنِ الجَماعةِ، ولا يَشهَدُ الصَّلاةَ مَعَ المُسلمينَ.
عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ليسَ صَلاةٌ أثقَلَ على المُنافِقينَ مِنَ الفجرِ والعِشاءِ، ولو يَعلَمونَ ما فيهما لأتَوهما ولو حَبوًا [819] الحَبْوُ: أن يمشيَ على يَدَيه ورُكبَتَيه، أو اسْتِه. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/ 336). ، لقد هَمَمتُ أن آمُرَ المُؤَذِّنَ فيُقيمَ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا يَؤُمُّ النَّاسَ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلًا مِن نارٍ، فأُحَرِّقَ على مَن لا يَخرُجُ إلى الصَّلاةِ بَعدُ)) [820] أخرجه البخاري (657) واللفظ له، ومسلم (651). .
وصَلاةُ الجَماعةِ لها فضائِلُ كَثيرةٌ؛ مِنها: أنَّها تَفضُلُ صَلاةَ الفَردِ بسَبعٍ وعِشرينَ دَرَجةً، وشُهودُها يَعدِلُ كَثيرًا مِنَ النَّوافِلِ ويَزيدُ.
عن ابنِ عُمَرَ رضِيَ اللهُ عنهما، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((صَلاةُ الرَّجُلِ في الجَماعةِ تَزيدُ على صَلاتِه وَحدَه سَبعًا وعِشرينَ دَرَجةً)) [821] أخرجه البخاري (645)، ومسلم (650) واللفظ له. .
وعن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي عُمرةَ، قال: دَخَل عُثمانُ بنُ عَفَّانَ المَسجِدَ بَعدَ صَلاةِ المَغرِبِ، فقَعَدَ وحدَه، فقَعَدتُ إليه فقال: يا ابنَ أخي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((مَن صَلَّى العِشاءَ في جَماعةٍ فكَأنَّما قامَ نِصفَ اللَّيلِ، ومَن صَلَّى الصُّبحَ في جَماعةٍ فكَأنَّما صَلَّى اللَّيلَ كُلَّه)) [822] أخرجه مسلم (656). .
وعن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((صَلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومًا الصُّبحَ، فقال: أشاهِدٌ فلانٌ؟ قالوا: لا، قال: أشاهِدٌ فُلانٌ؟ قالوا: لا، قال: إنَّ هاتَينِ الصَّلاتَينِ أثقَلُ الصَّلواتِ على المُنافِقينَ، ولو تَعلَمونَ ما فيهما لأتَيتُموهما ولو حَبوًا على الرُّكَبِ، وإنَّ الصَّفَّ الأوَّلَ على مِثلِ صَفِّ المَلائِكةِ، ولو عَلِمتُم ما فَضيلتُه لابتَدَرتُموه، وإنَّ صَلاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أزكى مِن صَلاتِه وَحدَه، وصَلاتُه مَعَ الرَّجُلينِ أزكى مِن صَلاتِه مَعَ الرَّجُلِ، وما كَثُرَ فهو أحَبُّ إلى اللهِ تعالى)) [823] أخرجه أبو داود (554) واللَّفظُ له، وأحمد (21265). صَحَّحه يحيى بنُ مَعينٍ وعليِّ بنِ المَدينيِّ والذهليُّ كما في ((المستدرك)) للحاكم (831)، والعقيلي في ((الضعفاء الكبير)) (2/116)، وابن السكن كما في ((التلخيص الحبير)) لابن حجر (2/26)، وابن حبان في ((صحيحه)) (2056). .
وعن ابنِ شِهابٍ، عن أبي بَكرِ بنِ سُليمانَ بنِ أبي حَثمةَ (أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ فَقَد سُلَيمانَ بنَ أبي حَثمةَ في صَلاةِ الصُّبحِ، وأنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ غَدا إلى السُّوقِ، ومَسكَنُ سُليمانَ بَينَ المَسجِدِ والسُّوقِ، فمرَّ على الشِّفاءِ أمِّ سُليمانَ، فقال لها: لم أرَ سُليمانَ في الصُّبحِ، فقالت: إنَّه باتَ يُصَلِّي، فغَلبَته عَيناه، فقال عُمَرُ: لأن أشهَدَ صَلاةَ الصُّبحِ في الجَماعةِ أحَبُّ إليَّ مِن أن أقومَ ليلةً)
[824] أخرجه مالك (2/180) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (2617)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (22/217). صححه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (423). .
صَلاةُ الجَماعةِ مِن أسبابِ مَغفِرةِ الذُّنوبِ؛ فعن عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن تَوضَّأ للصَّلاةِ فأسبَغَ الوُضوءَ، ثُمَّ مَشى إلى الصَّلاةِ المَكتوبةِ فصَلَّاها مَعَ النَّاسِ، أو مَعَ الجَماعةِ، أو في المَسجِدِ، غَفرَ اللهُ له ذُنوبَه)) [825] أخرجه مسلم (232). . إلى غَيرِ ذلك مِنَ الفضائِلِ.
هذا، ولصَلاةِ الجَماعةِ آدابٌ يَنبَغي للمُسلمِ أن يُراعيَها، وفيما يَلي بَيانُ أهَمِّ هذه الآدابِ: