ثالثًا: تَسْوِيَةُ الصُّفوفِ
مِن آدابِ صلاةِ الجماعةِ: تسويةُ الصُّفوفِ.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ: 1- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أقِيموا صُفوفَكم وتَراصُّوا؛ فإنِّي أَراكُم مِن وراءِ ظَهري)) [846] أخرجه البخاري (719) واللفظ له، ومسلم (434) بنحوه. .
2- وعنه أيضًا، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((رُصُّوا صُفوفَكم، وقارِبوا بيْنَها، وحاذُوا بالأعناقِ)) [847] أخرجه أبو داود (667) واللفظ له، والنسائي (815)، وأحمد (13735). صحَّحه ابن خُزَيمة في ((صحيحه)) (1545)، وابن حبَّان في ((صحيحه)) (6339)، وابنُ دقيق العيد في ((الاقتراح)) (93)، والنوويُّ في ((المجموع)) (4/227). .
3- وعنه أيضًا، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((سَوُّوا صفوفَكم؛ فإنَّ تسويةَ الصُّفوفِ مِن إقامةِ الصَّلاة)) [848] أخرجه البخاري (723) واللفظ له، ومسلم (433). .
4- عن النُّعمانِ بنِ بشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال:
((كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُسَوِّي صُفوفَنا حتَّى كأنَّما يُسوِّي بها القِداحَ [849] القِداحُ -بكَسرِ القافِ- هيَ خَشَبُ السِّهامِ حينَ تُنحَتُ وتُبرى، واحِدُها قِدْحٌ -بكَسرِ القافِ- مَعناه: يُبالِغُ في تَسويَتِها حتَّى تَصيرَ كَأنَّما يُقَوِّمُ بها السِّهامَ لشِدَّةِ استِوائِها واعتِدالِها. يُنظر: ((شرح مسلم)) للنووي (4/ 157). ، حتَّى رأى أنَّا قد عقَلْنا عنه، ثمَّ خرَج يومًا فقام حتَّى كاد يُكَبِّرُ، فرأى رجُلًا باديًا صَدرُه مِن الصَّفِّ، فقال: عبادَ اللهِ، لَتُسَوُّنَّ صُفوفَكم أو لَيُخالِفَنَّ اللهُ بيْنَ وُجوهِكم)) [850] أخرجه البخاري (717) مختصرًا، ومسلم (436) واللفظ له. .
مسألةٌ: حُكْمُ تَسْويةِ الصُّفوفِ اختلَف العُلماءُ في حُكْمِ تَسْويةِ الصُّفوفِ؛ على قَولينِ:
القول الأوَّلُ: تُسنُّ تسويةُ الصُّفوفِ
[851] قال النوويُّ: (والمرادُ بتسوية الصفوف: إتمامُ الأوَّل فالأوَّل، وسدُّ الفُرَج، ويحاذى القائمين فيها بحيث لا يتقدم صدرُ أحدٍ ولا شيءٌ منه على مَن هو بجنبه، ولا يَشرع في الصفِّ الثاني حتى يتمَّ الأول، ولا يقف في صفٍّ حتى يتمَّ ما قبلَه). ((المجموع)) (4/226). في الصَّلاةِ
[852] وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ. ينظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/136)، ((الفواكه الدواني)) للنفراوي (1/527)، ((المجموع)) للنووي (4/301)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/30). .
القولُ الثَّاني: تجبُ تسويةُ الصُّفوفِ
[853] وهو قولُ ابنِ حزمٍ، وابنِ تيميَّةَ، وابنِ حجرٍ، والعَيْنيِّ، والصَّنعانيِّ، وابنِ عثيمينَ، وبه أفتَتِ اللَّجنةُ الدَّائمةُ. يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (2/375)، ((الإنصاف)) للمرداوي (2/30)، ((فتح الباري)) لابن حجر (2/207)، ((عمدة القاري)) للعيني (5/254)، ((سبل السلام)) للصنعاني (2/29)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (3/10)، ((فتاوى اللجنة الدائمة- المجموعة الثانية)) (6/324). .
فوائدُ ومسائلُ: مشروعيةُ الأمرِ بتسويةِ الصُّفوفِ يُسَنُّ للإمامِ أن يأمُرَ المأمومِينَ بتسويةِ الصُّفوفِ
[854] وهذا باتِّفاقِ المذاهبِ الفقهيَّةِ الأربعةِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/136)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/134)، ((المجموع)) للنووي (4/225)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/328). ، وحُكيَ الإجماعُ على مَشروعيَّةِ تسويةِ الصُّفوفِ، وأنَّه مأمورٌ بها
[855] قال ابنُ حزم: (كان عُمرُ يَبعثُ رِجالًا يُسَوُّون الصُّفوفَ، فإذا جاؤوه كبَّر. وعن مالكٍ، عن أبي النَّضرِ، عن مالكِ بنِ أبي عامرٍ، قال: كان عثمانُ بنُ عفَّانَ لا يُكبِّرُ حتَّى يأتيَه رجالٌ قد وكَّلهم بتسويةِ الصُّفوفِ، فيُخبِرونه أنَّها قد استوتْ، فيُكبِّرُ. وعن وَكيعٍ، عن مِسعَرِ بنِ كِدَامٍ، عن عبدِ الله بنِ مَيْسرةَ، عن مَعقِلِ بنِ أبي قَيسٍ، عن عُمرَ بنِ الخطَّابِ: أنَّه كان ينتظِرُ بعدَما أُقيمَتِ الصَّلاةُ قليلًا. ورُوِّينا عن الحسنِ بنِ عليٍّ رضي الله عنهما نحوُ هذا. فهذا فِعلُ الخليفتَينِ بحضرةِ الصَّحابةِ رضيَ الله عنهم، وإجماعُهم معهم على ذلك). ((المحلى)) (3/31، 32). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (وأمَّا حديثُ مالكِ بنِ أبي عامرٍ عن عُثمانَ بنِ عفَّانَ في تسويةِ الصُّفوفِ، فهو أمرٌ مُجتمَعٌ عليه). ((الاستذكار)) (2/28). وقال أيضًا: (وأمَّا تسويةُ الصُّفوفِ في الصَّلاةِ فالآثارُ فيها متواترةٌ مِن طُرقٍ شتَّى صِحاحٍ، كلُّها ثابتةٌ في أمرِ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتسويةِ الصُّفوفِ، وعمَلِ الخلفاءِ الرَّاشِدينَ بذلك بعدَه، وهذا ما لا خِلافَ فيما بيْن العلماءِ فيه). ((الاستذكار)) (2/288). وقال ابنُ رُشدٍ: (أجمَع العُلماءُ على أنَّ الصَّفَّ الأوَّلَ مُرغَّبٌ فيه، وكذلك تَراصُّ الصُّفوفِ وتسويتُها؛ لثُبوتِ الأمرِ بذلك عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((بداية المجتهد)) (1/149). وقال النَّوويُّ: (قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أقيموا صُفوفَكم» أمرٌ بإقامةِ الصُّفوفِ، وهو مأمورٌ به بإجماعِ الأمَّةِ، وهو أمرُ ندبٍ، والمرادُ تسويتُها والاعتدالُ فيها، وتتميمُ الأوَّلِ فالأوَّلِ منها، والتَّراصُّ فيها). ((شرح مسلم)) (4/119). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّة: 1- عن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((سَوُّوا صُفوفَكم؛ فإنَّ تَسويةَ الصَّفِّ مِن تمامِ الصَّلاةِ)) [856] أخرجه البخاري (723)، ومسلم (433) واللفظ له. .
2- عن أبي مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَمسَحُ مَناكِبَنا في الصَّلاةِ، ويقولُ: استَووا، ولا تَختَلِفوا فتَختَلِفَ قُلوبُكم، لِيَلِني منكم أولو الأحلامِ والنُّهى، ثمَّ الَّذين يَلونَهم، ثمَّ الَّذين يَلونَهم)) . قال أبو مسعودٍ: فأنتم اليومَ أشدُّ اختِلافًا
[857] أخرجه مسلم (432). .
3- عن النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لَتُسَوُّنَّ صُفوفَكم، أو لَيُخالِفَنَّ اللهُ بيْن وُجوهِكم)) [858] أخرجه البخاري (717)، ومسلم (436). .
وقوفُ المأمومينَ بينَ السَّواري يُكرَهُ للمأمومينَ الوُقوفُ بيْن السَّواري إذا قَطعتْ صُفوفَهم، إلَّا عندَ الحاجةِ، كضِيق المسجدِ
[859] قال ابنُ العربي: (ولا خلافَ في جوازِه عندَ الضِّيق، وأمَّا مع السَّعةِ فهو مكروهٌ). ((عارضة الأحوذي)) (1/285). ؛ فلا يُكرَهُ
[860] وهو مذهبُ المالِكيَّةِ، والحَنابِلةِ، وقولُ إسحاقَ، واختاره الشَّوْكانيُّ، وابنُ باز، وابنُ عُثَيمين. ينظر: ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/433)، ((الإقناع)) للحجاوي (1/174)، ((سنن الترمذي)) (1/412)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (3/229، 230)، ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (12/221، 222)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (13/34). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ: عن عبدِ الحميدِ بن محمودٍ، قال: صلَّيتُ مع أنَسِ بنِ مالكٍ يومَ الجُمُعةِ، فدَفَعْنا إلى السَّواري، فتقدَّمْنا وتأخَّرْنا، فقال أنسٌ:
((كنَّا نتَّقي هذا على عهدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [861] أخرجه أبو داود (673) واللفظ له، والترمذي (229)، والنسائي (821). صححه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (3/81)، وابن حبان في ((صحيحه)) (2218)، وابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (124)، والصَّنْعانيُّ في ((العدة على الإحكام)) (3/345)، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال ابن القطان في ((الوهم والإيهام)) (5/338): حسن أو صحيح .
حكمُ صلاةِ الرَّجُلِ المنفردِ خلفَ الصَّفِّ اختَلف أهلُ العِلمِ في صلاةِ الرَّجُلِ المنفردِ خلفَ الصَّفِّ؛ على قولين:
القولُ الأوَّلُ: أنَّ الصَّلاةَ خلفَ الصَّفِّ منفرِدًا باطلةٌ يجِبُ إعادتُها
[862] وهو مذهبُ الحَنابِلةِ، وقولُ طائفةٍ مِن السَّلفِ، واختارَه ابنُ حزمٍ، والصَّنْعانيُّ، وابنُ باز. ينظر: ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/490)، ((المحلى)) (2/72) ((سبل السلام)) (2/32). ((مجموع فتاوى ابن باز)) (12/221). وقال ابن رجبٍ: (وأمَّا القائلون بأنَّه لا تصحُّ صلاةُ الفذِّ خلفَ الصفِّ: الحسنُ بن صالحٍ والأوزعيُّ- فيما حكاه ابنُ عبد البرِّ، وخرَّجه حربٌ بإسناده، عنه- وقولُ أحمدَ وإسحاقَ ووكيعٍ ويحيى بنِ معين وابنِ المنذرِ، وأكثرِ أهلِ الظَّاهر، ورواية عن الثوري، رواها عصام عنه. وروي-أيضًا- عن النخعيِّ وحمادٍ والحكم وابن أبي ليلَى) ((فتح الباري)) (5/17). .
القولُ الثَّاني: أنَّ صلاةَ المنفردِ خلفَ الصَّفِّ صحيحةٌ، مع الكَراهةِ
[863] وهو مذهبُ الجمهور: الحَنَفيَّةِ، والمالِكيَّةِ، والشَّافعيَّةِ. ينظر: ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 244)، ((مواهب الجليل)) للحطاب (2/446)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/247). يُنظرُ بيانُ ذلك مع أدِلَّتِه في: ((الموسوعة الفقهيَّة بموقع الدُّرر السَّنيَّة)) https://dorar.net/feqhia .
انظر أيضا:
عرض الهوامش