سابعًا: غَضُّ الصَّوتِ بحَضْرةِ الرَّسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
مِنَ الأدَبِ مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: غَضُّ الصَّوتِ بحَضرَتِه، وعَدَمُ رَفعِ الصَّوتِ فوقَ صَوتِه
[512] قال ابنُ العَرَبيِّ: (حُرمةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَيِّتًا كَحُرمَتِه حَيًّا، وكَلامُه المَأثورُ بَعدَ مَوتِه في الرِّفعةِ مِثلُ كَلامِه المَسموعِ مِن لفظِه، فإذا قُرِئَ كَلامُه وجَبَ على كُلِّ حاضِرٍ ألَّا يَرفعَ صَوتَه عليه، ولا يُعرِضَ عنه، كَما كان يَلزَمُه ذلك في مَجلسِه عِندَ تَلفُّظِه به). ((أحكام القرآن)) (4/ 146). .
الدّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحجرات: 2 - 5] .
هذا أدَبٌ أدَّب اللَّهُ به المُؤمِنينَ ألَّا يَرفَعوا أصواتَهم بحَضرةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال العُلَماءُ: يُكرَهُ رَفعُ الصَّوتِ عِندَ قَبرِه، كما كان يُكرَهُ في حياتِه؛ لأنَّه مُحتَرَمٌ حيًّا وفي قَبرِه، صَلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه دائِمًا
[513] قال الشِّنقيطيُّ: (ومَعلومٌ أنَّ حُرمةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ وفاتِه كَحُرمَتِه في أيَّامِ حَياتِه، وبه تَعلَمُ أنَّ ما جَرَت به العادةُ اليَومَ مِنِ اجتِماعِ النَّاسِ قُربَ قَبرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهم في صَخَبٍ ولغَطٍ، وأصواتُهم مُرتَفِعةٌ ارتِفاعًا مُزعِجًا: كُلُّه لا يَجوزُ ولا يَليقُ، وإقرارُهم عليه مِنَ المُنكَرِ. وقد شَدَّدَ عُمَرُ رضِيَ اللهُ عنه النَّكيرَ على رَجُلينِ رَفعا أصواتَهما في مَسجِدِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال: لو كُنتُما مِن أهلِ المَدينةِ لأوجَعتُكُما ضَربًا). ((أضواء البيان)) (7/ 403). .
ثُمَّ نَهى عنِ الجَهرِ له بالقَولِ كما يَجهَرُ الرَّجُلُ لمُخاطِبِه مِمَّن عَداه، بَل يُخاطَبُ بسَكينةٍ ووَقارٍ وتَعظيمٍ؛ ولهذا قال:
وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، كما قال:
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63] .
وقَولُه:
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أي: إنَّما نَهيناكُم عن رَفعِ الصَّوتِ عِندَه خَشيةَ أن يَغضَبَ مِن ذلك، فيَغضَبَ اللهُ لغَضَبِه، فيُحبِطَ اللهُ عَمَلَ مَن أغضَبَه وهو لا يَدري، كما جاءَ في الصَّحيحِ:
((إنَّ الرَّجُلَ ليَتَكلَّمُ بالكَلِمةِ مِن رِضوانِ اللهِ لا يُلقي لها بالًا [514] لا يُلقي لها بالًا: مِنَ المُبالاةِ، وهيَ الاكتِراثُ والاهتِمامُ بالشَّيءِ، والبالُ أيضًا الحالُ والفِكرُ، وقيل: والهَمُّ، أي: لا يَتَأمَّلُها بخاطِرِه، ولا يُحضِرُ قَلبَه لِما يَقولُ مِنها، ولا يَتَفكَّرُ في عاقِبَتِها، ولا يَظُنُّ أنَّها تُؤثِّرُ شَيئًا. يُنظر: ((مشارق الأنوار)) لعياض (1/ 104)، ((غريب الحديث)) لابن الجوزي (2/ 329)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 90) و(11/ 311). يُكتَبُ له بها الجَنَّةُ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَتَكلَّمُ بالكَلِمةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ لا يُلقي لها بالًا يَهوي بها في النَّارِ أبعَدَ ما بينَ السَّمَواتِ والأرضِ)) [515] أخرجه البخاري (6478) بنحوه، ومسلم (2988) مُختَصَرًا بنَحوِه مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البُخاريِّ: ((إنَّ العَبدَ ليَتَكلَّمُ بالكَلِمةِ مِن رِضوانِ اللهِ لا يُلقي لها بالًا، يَرفعُه اللهُ بها دَرَجاتٍ، وإنَّ العَبدَ ليَتَكلَّمُ بالكَلِمةِ مِن سَخَطَ اللَّهِ لا يُلقي لها بالًا، يَهوي بها في جَهَنَّمَ)). .
ثُمَّ نَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ إلى خَفضِ الصَّوتِ عِندَه، وحَثَّ على ذلك، وأرشَدَ إليه، ورَغَّبَ فيه، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى أي: أخلَصَها لها وجَعَلها أهلًا ومَحَلًّا
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
ثُمَّ إنَّه تعالى ذَمَّ الذينَ يُنادونَه مِن وراءِ الحُجُراتِ -وهي بُيوتُ نِسائِه- كما يَصنَعُ أجلافُ الأعرابِ، فقال:
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
ثُمَّ أرشَدَ إلى الأدَبِ في ذلك، فقال:
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرَا لَهُمْ أي: لكان لهم في ذلك الخِيرةُ والمَصلَحةُ في الدُّنيا والآخِرةِ.
ثُمَّ قال داعيًا لهم إلى التَّوبةِ والإنابةِ:
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [516] يُنظر: ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 365-369). .
ب- مِنَ السُّنَّةِعنِ ابنِ أبي مُلَيكةَ قال: (كادَ الخَيِّرانِ
[517] الخَيِّرانِ: الفاعِلانِ للخَيرِ الكَثيرِ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (19/ 182). أن يَهلِكا؛ أبو بَكرٍ وعُمَرُ! لَمَّا قدِمَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وفدُ بَني تَميمٍ أشارَ أحَدُهما بالأقرَعِ
[518] قولُه: (أشارَ أحدُهما) أي: أحدُ الخيِّرينِ، وهو عمرُ (بالأقرعِ) أي: بتأميرِ الأقرعِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (10/ 315). بنِ حابسٍ التَّميميِّ الحَنظَليِّ أخي بني مُجاشِعٍ، وأشارَ الآخَرُ بغَيرِه، فقال أبو بَكرٍ لعُمَرَ: إنَّما أرَدتَ خِلافي! فقال عُمَرُ: ما أرَدتُ خِلافَك! فارتَفعَت أصواتُهما عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فنَزَلت:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] إلى قَولِه:
عَظِيمٌ [الحجرات: 3] ، قال ابنُ أبي مُلَيكةَ، قال ابنُ الزُّبَيرِ: فكان عُمَرُ بَعدُ -ولم يذكُرْ ذلك عن أبيه يعني أبا بَكرٍ- إذا حَدَّثَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحَديثٍ حَدَّثَه كأخي السِّرارِ
[519] كأخي السِّرارِ: كصاحب السِّرارِ، أي: لا يرفعُ صوتَه إذا حدَّثه، بل يُكلِّمُه كلامًا مثلَ المسارةِ وشبهِها لخفضِ صوتِه، والسِّرارُ: هي النَّجوى والكلامُ المُستَسَرُّ به. يُنظر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (5/ 478)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (10/ 316). ؛ لم يُسمِعْه حتَّى يَستَفهِمَه!))
[520] أخرجه البخاري بعد حديث (7302). .
ج- مِنَ الآثارِ:عنِ السَّائِبِ بنِ يَزيدَ، قال: كُنتُ قائِمًا في المَسجِدِ فحَصَبَني رَجُلٌ فنَظَرتُ، فإذا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ، فقال: اذهَبْ فأْتِني بهذين فجِئتُه بهما، قال: مَن أنتُما، أو مِن أينَ أنتُما؟ قالا: مِن أهلِ الطَّائِفِ، قال: لو كُنتُما مِن أهلِ البَلدِ لأوجَعتُكُما، تَرفعانِ أصواتَكُما في مَسجِدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[521] أخرجه البخاري (470). .
(إنَّما فَرَّقُ عُمَرُ بَينَ أهلِ المَدينةِ وغَيرِها في هذا؛ لأنَّ أهلَ المَدينةِ لا يَخفى عليهم حُرمةُ مَسجِدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتَعظيمُه، بخِلافِ مَن لم يَكُنْ مِن أهلِها؛ فإنَّه قد يَخفى عليه مِثلُ هذا القَدرِ مِنِ احتِرامِ المَسجِدِ، فعفا عنه بجَهلِه)
[522] ((فتح الباري)) لابن رجب (3/ 395). .
وقال: (في مَسجِدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)؛ إذ مَعَ شرافتِه له زيادةُ مَزيَّةٍ، كَون حُجرَتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتَّصِلةً بالمَسجِدِ
[523] ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (2/ 457). .
ففي ذلك يَلزَمُ ثَلاثةُ محذوراتٍ:
(الأوَّلُ) رَفعُ الصَّوتِ في المَسجِدِ،
و(الثَّاني) رَفعُ الصَّوتِ في مَسجِدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم،
و(الثَّالثُ) رَفعُ الصَّوتِ عِندَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[524] ((صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان)) للسهسواني (ص: 38). .