سادِسًا: دَرَجاتُ الصَّمتِ
الصَّمتُ على ثلاثِ دَرَجاتٍ:
1- الصَّمتُ عن كلامٍ ضَرَرُه خالِصٌ، فإنَّ إرسالَ اللِّسانِ في ذلك هلاكٌ؛ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((وإنَّ العبدَ ليتكَلَّمُ بالكَلِمةِ من سَخَطِ اللهِ، لا يُلقي لها بالًا، يهوي بها في جَهنَّم)) [6034] أخرجه البخاري (6478) واللفظ له، ومسلم (2988) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وقد يتكَلَّمُ الإنسانُ عِندَ الغَضَبِ بكلامٍ يخسَرُ به الدُّنيا والآخرةَ؛ قال أبو هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه فيمن أقسمَ على اللهِ ألَّا يغفِرَ لفُلانٍ:
((فوالذي نفسُ أبي القاسِمِ بيَدِه لَتَكلَّم بكَلِمةٍ أوبقَت دُنياه وآخرتَه)) [6035] أخرجه أبو داود (4901) واللفظ له، والبزار (9418)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (6689). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4901)، وحسَّن سندَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح الطحاوية)) (436). ؛ ولذلك قال
ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: (إنَّ أحَقَّ ما طهَّر الإنسانَ لِسانُه)
[6036] ((شعب الإيمان)) للبيهقي (7/ 63) رقم (4648). ، ورُويَ عن أكثَمَ بنِ صيفيٍّ: (كفُّوا ألسنتَكم؛ فإنَّ مَقتَلَ الرَّجُلِ بَيْنَ فكَّيه)
[6037] ((المنتظم)) لابن الجوزي (2/ 372). ، وقال
ابن حجر الهيتمي: (والسُّكوتُ عن الشَّرِّ سلامةٌ)
[6038] ((الفتح المبين)) (ص: 321). ، وقال
علي القاريُّ: (آفاتُ اللِّسانِ غيرُ محصورةٍ، وفي الصَّمتِ خلاصٌ منها، وقد قيل: اللِّسانُ جِرمُه صغيرٌ وجُرمُه كبيرٌ وكثيرٌ)
[6039] ((مرقاة المفاتيح)) (7/ 3039). ، وقال بعضُ الحُكَماءِ: (عَجِبتُ ممَّن يتكلَّمُ بالكَلِمة إن ذُكِرَت عنه ضَرَّتْه، وإن لم تُذكَرْ عنه لم تنفَعْه!)
[6040] ((أدب المجالسة)) لابن عبد البر (ص: 80). ، وأنشدوا:
رأيتُ الكلامَ يَزينُ الفتى
والصَّمتُ خيرٌ لمن قد صَمَت
فكم من حروفٍ تَجُرُّ الحُتوفَ
ومن ناطِقٍ ودَّ أنْ لو سَكَت
[6041] ((الرسالة)) للقشيري (1/ 246). وأنشدوا أيضًا:
احفَظْ لسانَك أيُّها الإنسانُ
لا يلدَغَنَّك إنَّه ثُعبانُ
كم في المقابرِ من قتيلِ لِسانِه
كانت تهابُ لِقاءَه الشِّجْعانُ
[6042] ((الأذكار)) للنووي (ص: 335). .
2-الصَّمتُ عن خيرٍ محْضٍ، كحَبسِ اللِّسانِ عن ذِكرِ اللهِ تعالى زمَنَ الفراغِ؛ قال محمَّدُ بنُ عَجلانَ: (إنَّما الكلامُ أربعةٌ: أن تَذكُرَ اللهَ، وتقرَأَ القُرآنَ، أو تسأَلَ عن عِلمٍ فتُخبَرَ به، أو تتكَلَّمَ فيما يَعنيك من أمرِ دُنياك)
[6043] ((الجامع)) لابن وهب - الآداب (ص: 518) رقم (409). .
3- الصَّمتُ عن كلامٍ مُستوي الطَّرفَينِ، وهو ما لا يَضُرُّ ولا ينفَعُ؛ قال تعالى:
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114] ، فيَسكتُ الإنسانُ في هذه الدَّرَجةِ حتَّى يحتاجَ إلى كلامٍ، ولا يَستعمِلُ لِسانَه إلَّا في كلامِ البِرِّ، بشَرطِ السَّلامةِ من الرِّياءِ والسُّمعةِ، فلا يُخرِجُ لفظةً ضائعةً، ولا يتكلَّمُ إلَّا فيما يرجو فيه الرِّبحَ والزِّيادةَ في دينِه، فإذا أراد أن يتكَلَّمَ بالكَلِمةِ نَظَر: هل فيها رِبحٌ وفائدةٌ أم لا؛ فإنْ لم يكُنْ فيها ربحٌ أمسك عنها، وإن كان فيها ربحٌ نظر: هل يفوتُه بها كَلِمةٌ هي أربَحُ منها، فلا يُضَيِّعُها بهذه
[6044] ((الداء والدواء)) لابن القيم (1/ 363). .
فإذا وُفِّق المرءُ في زمِّ لسانِه انعكس ذلك على سائرِ عَمَلِه؛ قال يونُسُ بنُ عُبَيدٍ: (لا تجِدُ شيئًا من البِرِّ يتبَعُه البِرُّ كُلُّه غَيرَ اللِّسانِ؛ فإنَّك تجِدُ الرَّجُلَ يُكثِرُ الصِّيامَ ويُفطِرُ على الحرامِ! ويقومُ اللَّيلَ ويَشهَدُ الزُّورَ بالنَّهارِ! -وذكر أشياءَ نحوَ هذا- ولكِنْ لا تجِدُه لا يتكلَّمُ إلَّا بحقٍّ، فيُخالِفُ ذلك عَمَلُه أبدًا)
[6045] ((الحلية)) لأبي نعيم الأصبهاني (3/ 20). ، ومتى طال صمتُه أقبل على شأنِه، وأهمَّتْه ذُنوبُه، وتمكَّن من طولِ الفِكرةِ، وفيها جوامِعُ البرِّ، قال يحيى بنُ أبي كثيرٍ: (ما صَحَّ مَنطِقُ رجُلٍ قطُّ إلَّا صَحَّ ما وراءَ ذلك)
[6046] ((الزهد)) لابن أبي عاصم (ص: 39) رقم (56). .
وكان السَّلَفُ يَكرَهون فُضولَ الكلامِ؛ فالقولُ كُلُّه إمَّا خيرٌ وإمَّا شرٌّ، وإمَّا آيِلٌ إلى أحَدِهما
[6047] ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 446). ، قال مرَّةً رجلٌ: (ما أشَدَّ البردَ اليومَ! فالتَفت إليه المُعافى بنُ عِمرانَ، وقال: أستدفَأْتَ الآن؟! لو سكتَّ لكان خيرًا لك)
[6048] ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (9/ 84). ؛ لأنَّ كلامَه هذا وإن كان مباحًا فإنَّه لم يَجُرَّ إليه خيرًا في دينٍ أو دُنيا، إنما يُعَوِّدُ لسانَه التَّساهُلَ في المنطِقِ، حتى يخرُجَ من مباحِ الكلامِ إلى مكروهِه، ومنه إلى المحرَّمِ. قال الضَّحَّاكُ بنُ مُزاحمٍ: (أدركْتُهم وما يتعَلَّمون إلَّا الصَّمتَ والوَرَعَ، وهم اليومَ يتعَلَّمون الكلامَ!)
[6049] ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي (1/ 172)، ((التوكل)) لأبي يعلى الفراء (ص: 65). . قال أبو حيَّانَ يحيى بنُ سعيدٍ التَّيميُّ: (كان يقال: ينبغي للعاقِلِ أن يكونَ أحفَظَ للسانِه منه لموضِعِ قَدَمِه
[6050] ((الورع)) لابن أبي الدنيا (ص: 77) رقم (98). .