ثامنًا: مظاهِرُ وصُوَرُ المُزاحِ المحمودِ
1- المُزاحُ بغَرَضِ التَّحبُّبِ والتَّودُّدِ، وهو أمرٌ مُستحَبٌّ، يبعَثُ على التَّقارُبِ بَيْنَ الإخوانِ، ويُدخِلُ البهجةَ على النُّفوسِ.
2- المُزاحُ والانبِساطُ مع الزَّوجةِ والوَلَدِ.عن حَنظلةَ الأُسَيديِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((لَقِيني أبو بكرٍ، فقال: كيف أنت يا حنظلةُ؟ قال: قُلتُ: نافَق حَنظَلةُ! قال: سُبحانَ اللهِ! ما تقولُ؟! قال: قلتُ: نكونُ عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يُذَكِّرُنا بالنَّارِ والجنَّةِ، حتَّى كأنَّا رأيَ عَينٍ، فإذا خرَجْنا من عِندِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عافَسْنا الأزواجَ والأولادَ والضَّيعاتِ [8585] أي: خالَطْناهم ولاعَبْناهم وعالَجْنا أمورَهم واشتغَلْنا بمصالِحِهم. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (4/ 1550). ، فنَسِينا كثيرًا، قال أبو بكرٍ: فواللهِ إنَّا لنلقى مثلَ هذا، فانطلَقتُ أنا وأبو بكرٍ حتَّى دخَلْنا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُلتُ: نافَق حنظَلةُ يا رسولَ اللهِ! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وما ذاك؟ قلتُ: يا رسولَ اللهِ، نكونُ عندك، تُذَكِّرُنا بالنَّارِ والجنَّةِ، حتَّى كأنَّا رأيَ عينٍ، فإذا خرَجْنا من عندِك عافَسْنا الأزواجَ والأولادَ والضَّيعاتِ، نَسِينا كثيرًا! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: والذي نفسي بيَدِه إنْ لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذِّكرِ، لصافحَتْكم الملائكةُ على فُرُشِكم وفي طُرُقِكم، ولكِنْ يا حنظَلةُ ساعةٌ وساعةٌ)) [8586] أخرجه مسلم (2750). .
(قولُه:
((ساعةٌ وساعةٌ)) أي: ساعةٌ للذِّكرِ وساعةٌ للنَّفسِ؛ لأنَّ القَلبَ إذا حُجِب عن احتمالِ ما يَحُلُّ به يحتاجُ إلى مُزاحٍ)
[8587] ((بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية)) (2/79). .
قال
ابنُ عَقيلٍ الحَنبليُ: (العاقِلُ إذا خلا بزوجاتِه وإمائِه تَرَك العَقلَ في زاويةٍ كالشَّيخِ الموقَّرِ، وداعَبَ ومازَحَ وهازَلَ؛ ليُعطيَ الزَّوجةَ والنَّفسَ حَقَّهما، وإن خلا بأطفالِه خرَج في صورةِ طِفلٍ، ويهجُرُ في ذلك الوَقتِ)
[8588] ((الآداب الشرعية)) لابن مُفلِح (3/ 239). .
3- المُزاحُ بغَرَضِ تجديدِ نَشاطِ المتعَلِّمِ، وقد كان بعضُ العُلَماءِ يَذكُرُ المُلَحَ أو الطَّرائِفَ؛ ليجَدِّدَ نشاطَ الطُّلَّابِ.
وقال
الجاحِظُ: (المُزاحُ جِدٌّ إذا اجتُلِب ليكونَ عِلَّةً للجِدِّ، والبَطالةُ وَقارٌ ورَزانةٌ إذا تُكُلِّفَت لتلك العاقبةِ. ولَمَّا قال الخليلُ بنُ أحمدَ: لا يَصِلُ أحَدٌ من علمِ النَّحوِ إلى ما يحتاجُ إليه حتَّى يتعَلَّمَ ما لا يحتاجُ إليه، قال أبو شَمِرٍ: إذا كان لا يُتوصَّلُ إلى ما يحتاجُ إليه إلَّا بما لا يحتاجُ إليه، فقد صار ما لا يُحتاجُ إليه يُحتاجُ إليه)
[8589] ((الحيوان)) (1/ 31). .
(قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ: رَوِّحوا القُلوبَ، واطلُبوا لها طُرَفَ الحِكمةِ؛ فإنَّها تمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدانُ. وقال أيضًا: إنَّ هذه القُلوبَ تَمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدانُ؛ فالتَمِسوا لها من الحِكمةِ طُرَفًا. وعن أسامةَ بنِ زَيدٍ قال: روِّحوا القُلوبَ تعي الذِّكرَ. وقال ابنُ إسحاقَ: كان
الزُّهريُّ يُحَدِّثُ ثمَّ يقولُ: هاتوا مِن ظَرْفِكم، هاتوا من أشعارِكم، أفيضُوا في بعضِ ما يخَفِّفُ عليكم وتأنسُ به طباعُكم؛ فإنَّ الأُذُنَ مجَّاجةٌ، والقَلبَ ذو تقَلُّبٍ. وعن مالِكِ بنِ دينارٍ قال: كان الرَّجُلُ ممَّن كان قَبْلَكم إذا ثَقُل عليه الحديثُ قال: إنَّ الأُذُنَ مجَّاجةٌ والقَلبَ حَمِضٌ، فهاتوا من طُرَفِ الأخبارِ)
[8590] يُنظَر: ((أخبار الحمقى والمغفلين)) ابن الجوزي (ص: 15-17). .
5- المُزاحُ في الأسفارِ؛ فإنَّه يُذهِبُ وَحشةَ النُّفوسِ، ويخَفِّفُ من أكدارِ السَّفَرِ ومشَقَّتِه؛ ولذلك عدَّه العُلَماءُ في السَّفَرِ من علاماتِ المُروءةِ.
قال
ربيعةُ بنُ أبي عبدِ الرَّحمنِ: (للسَّفَرِ مُروءةٌ، وللحَضَرِ مُروءةٌ؛ فأمَّا المروءةُ في السَّفَرِ فبَذلُ الزَّادِ، وقِلَّةُ الخِلافِ على الأصحابِ، وكَثرةُ المُزاحِ في غيرِ مَساخِطِ اللهِ...)
[8591] ((الإشراف في منازل الأشراف)) لابن أبي الدنيا (368)، ((التمهيد)) لابن عبد البر (23/178). .
6- المُزاحُ بَيْنَ الإخوانِ بما لا أذَى فيه ولا ضَرَرَ ولا غِيبةَ، ولا شَينَ في عِرضٍ أو دِينٍ، قاصِدًا به حُسنَ العِشرةِ والتَّواضُعَ للإخوانِ والانبِساطَ معهم، من غيرِ استِهتارٍ أو إخلالٍ بمروءةٍ أو نحوِه.
فقد قيل للخَليلِ بنِ أحمدَ: إنَّك تمازِحُ النَّاسَ! فقال: (النَّاسُ في سِجنٍ ما لم يتمازَحوا)
[8592] ((المراح في المزاح)) لبدر الدين الغزي (ص: 94). ويُنظَر: ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/568). .
7- المُزاحُ بغَرَضِ التَّلطُّفِ، وصَرفِ الغَضَبِ.عن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((جاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيتَ فاطِمةَ فلم يجِدْ عَلِيًّا في البيتِ، فقال: أين ابنُ عَمِّكِ؟ قالت: كان بَيني وبَينَه شيءٌ، فغاضبَني فخَرَج، فلم يَقِلْ عندي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لإنسانٍ: انظُرْ أين هو؟ فجاء فقال: يا رسولَ اللهِ، هو في المسجِدِ راقِدٌ، فجاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو مُضطَجِعٌ، قد سَقَط رداؤُه عن شِقِّه، وأصابه تُرابٌ، فجَعَل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يمسَحُه عنه، ويقولُ: قُمْ أبا تُرابٍ، قُمْ أبا تُرابٍ!)) [8593] أخرجه البخاري (441) واللفظ له، ومسلم (2409). .
(وفى حَديثِ سَهلٍ من الفِقهِ: الممازَحةُ للغاضِبِ بالتَّكنيةِ بغيرِ كُنيتِه إذا كان ذلك لا يُغضِبُه ولا يَكرَهُه، بل يُؤنِسُه مِن حَرَجِه)
[8594] ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (2/ 93). .
8- المُزاحُ مع الصِّبيانِ ومُلاطفتُهم ومُداعبتُهم؛ فذلك من التَّعطُّفِ والحُنُوِّ الذي يناسِبُ أعمارَهم، ويجعَلُهم أكثَرَ وُدًّا وطواعيةً.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال:
((خرجتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في طائفةٍ من النَّهارِ [8595] المرادُ به قِطعةٌ من النَّهارِ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (3/ 153). ، لا يكَلِّمُني ولا أكَلِّمُه، حتى جاء سوقَ بني قَينُقاعٍ، ثمَّ انصرَف، حتَّى أتى خِباءَ [8596] أي: مَنزِلَها، وأصلُ الخِباءِ: أحَدُ بُيوتِ العَرَبِ مِن وَبرٍ أو صوفٍ، ولا يكونُ مِن شَعَرٍ. والجَمعُ أخبيةٌ. وقد يُستعمَلُ في المنازِلِ والمساكنِ، كما في هذا الحديثِ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (2/ 9). فاطِمةَ، فقال: أثَمَّ لُكَعُ؟ أثَمَّ لُكَعُ؟ يعني حَسَنًا، فظَنَنَّا أنَّه إنَّما تحبِسُه أمُّه لأن تُغَسِّلَه وتُلبِسَه سِخابًا [8597] السِّخابُ: هو خيطٌ يُنظَمُ فيه خَرَزٌ ويَلبَسُه الصِّبيانُ والجواري. وقيل: هو قِلادةٌ تُتَّخَذُ من قَرَنفُلٍ ومَحلبٍ وسُكٍّ ونحوِه، وليس فيها من اللُّؤلؤِ والجوهَرِ شَيءٌ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (2/ 349). ، فلم يَلبَثْ أن جاء يسعى، حتَّى اعتَنَق كُلُّ واحدٍ منهما صاحِبَه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللَّهُمَّ إنِّي أحِبُّه، فأحِبَّه وأحبِبْ مَن يُحِبُّه)) [8598] أخرجه البخاري (2122)، ومسلم (2421) واللفظ له. .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (وفي الحديثِ بيانُ ما كان الصَّحابةُ عليه من توقيرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والمشيِ معه، وما كان عليه من التَّواضُعِ من الدُّخولِ في السُّوقِ، والجُلوسِ بفِناءِ الدَّارِ، ورَحمةِ الصَّغيرِ، والمُزاحِ معه ومعانقتِه وتَقبيلِه)
[8599] ((فتح الباري)) (4/ 342). .
9- المُزاحُ بغَرَضِ التَّشجيعِ على التَّدبُّرِ والتَّأمُّلِ، واستثارةِ الذَّكاءِ.عن
أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَجُلًا استحمَل رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال:
((إنِّي حامِلُك على ولَدِ النَّاقةِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ما أصنَعُ بوَلَدِ النَّاقةِ؟! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وهل تَلِدُ الإبِلَ إلَّا النُّوقُ؟)) [8600] أخرجه أبو داود (4998)، والترمذي (1991) واللفظ له، وأحمد (13817). صحَّحه الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4998)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (13817). .
(والمعنى: أنَّك لو تدبَّرْتَ لم تَقُلْ ذلك؛ ففيه مع المباسَطةِ له الإشارةُ إلى إرشادِه وإرشادِ غيرِه، بأنَّه ينبغي لمن سَمِع قولًا أن يتأمَّلَه، ولا يبادِرَ إلى رَدِّه إلَّا بَعدَ أن يُدرِكَ غَوْرَه)
[8601] ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (7/ 3063). .