ثامناً: حُكمُ الانتِقامِ
الانتِقامُ جائزٌ بشَرطِ إيقاعِه على الوَجهِ المشروعِ، وكونِه على قَدْرِ الظُّلمِ والجنايةِ دونَ الزِّيادةِ عليهما، والأحسَنُ العفوُ، وهو أَولى من الانتِقامِ، أمَّا إن كان الظَّالمُ الباغي مُعلِنًا بظُلمِه، وكان ضررُه يَعُمُّ، أو أدَّى العفوُ عنه إلى استمرارِه في ظُلمِه وإساءتِه، فحينَئذٍ يكونُ الأخذُ بالحَقِّ وعُقوبتُه أَولى
[963] يُنظَر: ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) للقرطبي (6/ 567)، ((بذل المجهود في حل سنن أبي داود)) للسهارنفوري (13/ 303)، ((التفسير الوسيط)) لمجموعة من العلماء (2/ 953). .
ولا يجوزُ الانتِقامُ إذا حصَل فيه التَّعدِّي؛ فاللهُ سُبحانَه وتعالى قد أذِنَ لِمَن اعتُديَ عليه أن يرُدَّ بالمِثلِ على من اعتدى عليه؛ قال تعالى:
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [البقرة: 194] ، وقال أيضًا:
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] ، ومع هذا فقد بَيَّنَ سُبحانَه وتعالى أنَّ العفوَ عن المعتدي والتَّغاضيَ عن خطَئِه أفضَلُ من الانتِقامِ منه؛ قال تعالى:
فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى: 40] ، وهذا فيما يتعلَّقُ بحُقوقِ العِبادِ.
قال
أبو عبدِ اللهِ القُرطبيُّ: (قال العُلَماءُ: جعَل اللهُ المُؤمِنين صِنفينِ؛ صنفٌ يعفون عن الظَّالمِ، فبدأ بذِكرِهم في
وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37] ، وصِنفٌ ينتَصِرون من ظالمِهم، ثمَّ بَيَّنَ حدَّ الانتصارِ بقَولِه:
وَجَزَاءُ سَيِّئةٍ سَيِّئةٌ مِثْلُهَا، فينتَصِرُ ممَّن ظلَمه من غيرِ أن يعتديَ)
[964] ((الجامع لأحكام القرآن)) (16/40). .
وقال أبو العبَّاسِ القُرطبيُّ: (المباحُ في الانتصارِ: أن يَرُدَّ مثلَ ما قال الجاني، أو يقارِبَه؛ لأنَّه قِصاصٌ، فلو قال له: يا كَلبُ -مثلًا- فالانتصارُ أن يَرُدَّ عليه بقولِه: بل هو الكَلبُ، فلو كرَّر هذا اللَّفظَ مرَّتينِ أو ثلاثًا، لكان متعَدِّيًا بالزَّائِدِ على الواحدةِ، فله الأُولى، وعليه إثمُ الثَّانيةِ، وكذلك لو ردَّ عليه بأفحَشَ من الأُولى، فيقولُ له: خِنزيرُ -مثلًا- كان كُلُّ واحدٍ منهما مأثومًا؛ لأنَّ كُلًّا منهما جارَ على الآخَرِ، وهذا كلُّه مقتضى قولِه تعالى:
فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، وقولِه:
وَجَزَاءُ سَيِّئةٍ سَيِّئةٌ مِثْلُهَا.
وكلُّ ما ذكَرْناه من جوازِ الانتصارِ إنَّما هو فيما إذا لم يكُنِ القولُ كَذِبًا أو بُهتانًا، فلا يجوزُ أن يتكَلَّم بذلك لا ابتداءً ولا قِصاصًا، وكذلك لو كان قَذفًا، فلو ردَّه كان كُلُّ واحدٍ منهما قاذِفًا للآخَرِ، وكذلك لو سَبَّ المبتدئُ أبا المسبوبِ أو جَدَّه، لم يجُزْ له أن يرُدَّ ذلك؛ لأنَّه سَبٌّ لِمن لم يَجْنِ عليه، فيكونُ الرَّدُّ عُدوانًا لا قِصاصًا.
قال بعضُ عُلَمائِنا: إنَّما يجوزُ الانتصارُ فيما إذا كان السَّبُّ ممَّا يجوزُ سَبُّ المرءِ به عِندَ التَّأديبِ، كالأحمَقِ، والجاهِلِ، والظَّالمِ؛ لأنَّ أحدًا لا ينفَكُّ عن بعضِ هذه الصِّفاتِ إلَّا الأنبياءُ والأولياءُ، فهذا إذا كافأه بسَبِّه فلا حَرَجَ عليه ولا إثمَ، وبَقِيَ الإثمُ على الأوَّلِ بابتدائِه وتعَرُّضِه لذلك)
[965] ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (6/ 567). .
وأمَّا إن كان الاعتداءُ حاصِلًا في شيءٍ من حقوقِ اللَّهِ، كالجَورِ في الحُكمِ بَيْنَ الخُصومِ، أو الخيانةِ في الأهلِ، ونحوِ ذلك؛ فإنَّ الاعتداءَ بالمِثلِ حينَئذٍ لا يجوزُ.
فليس لك أن تجورَ في الحُكمِ، ولا أن تخونَه في أهلِه؛ لأنَّ ذلك اعتداءٌ على حقوقِ اللهِ وحدودِه.
قال الأبشيهيُّ: (والذي يجِبُ على العاقِلِ إذا أمكَنه اللهُ تعالى: ألَّا يجعَلَ العقوبةَ شيمتَه، وإن كان ولا بُدَّ من الانتِقامِ فليَرفُقْ في انتقامِه، إلَّا أن يكونَ حَدًّا من حدودِ اللهِ تعالى)
[966] ((المستطرف)) للأبشيهي (ص: 197). . عن
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت:
((ما خُيِّر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَيْنَ أمرينِ إلَّا أخذ أيسَرَهما ما لم يكُنْ إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعَدَ النَّاسِ منه، وما انتقم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لنَفسِه، إلَّا أن تُنـتَهَكَ حُرمةُ اللَّهِ فينتَقِمَ للهِ بها)) [967] رواه البخاري (3560)، ومسلم (2327). .