سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ الثَّرثَرةِ
الثَّرثَرةُ إكثارٌ من الكلامِ بلا فائدةٍ مَرجُوَّةٍ، وهذا في حَدِّ ذاتِه مذمومٌ، فكيف إذا كانت تلك الثَّرثَرةُ في باطِلٍ؟ فلا شَكَّ أنَّ ذلك يكونُ أشَدَّ ذَمًّا، وكذلك بعضُ الصُّوَرِ المذكورةِ هي مذمومةٌ، وإن لم يُكثِرْ منها صاحِبُها، فكيف إذا ثرثَرَ بها لسانُه، فلا شَكَّ أنَّها ستكونُ أشَدَّ ذَمًّا، ومن صُوَرِ ومظاهِرِ هذه الثَّرثَرةِ:
- كلامُ المرءِ فيما لا يَعنيه. - فضولُ الكلامِ؛ فعن محمَّدِ بنِ سوقةَ قال: (أُحَدِّثُكم بحديثٍ لعَلَّه ينفَعُكم؛ فإنَّه قد نفعني، قال لنا عطاءُ بنُ أبي رَباحٍ: "يا بَني أخي، إنَّ مَن كان قَبْلَكم كانوا يَكرَهون فُضولَ الكلامِ، وكانوا يَعُدُّون فُضولَ الكلامِ ما عدا كِتابَ اللهِ أن تقرَأَه، أو تأمُرَ بمعروفٍ أو تنهى عن مُنكَرٍ، أو تنطِقَ بحاجتِك في معيشتِك التي لا بُدَّ لك منها، أتُنكِرون
إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ [الانفطار: 11]،
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ [ق: 17] ،
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] ؟)
[2114] ((الصمت)) لابن أبي الدنيا (ص: 81). .
- المراءُ والجِدالُ: لقولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَضِ الجنَّةِ لمَن تَرَك المِراءَ وإن كان مُحِقًّا)) [2115] أخرجه أبو داود (4800)، والطبراني (8/117) (7488)، والبيهقي (21708) مطوَّلًا من حديثِ أبي أُمامةَ الباهِليِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه النَّوويُّ في ((رياض الصالحين)) (ص216)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4800)، وحسَّن إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/50)، وابن باز في ((حاشية بلوغ المرام)) (810)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4800). . والمِراءُ: هو كُلُّ اعتراضٍ على كلامِ الغيرِ بإظهارِ خَلَلٍ فيه؛ إمَّا في اللَّفظِ، وإمَّا في المعنى. والجِدالُ هو: قَصدُ إفحامِ الغَيرِ وتعجيزِه وتنقيصِه بالقَدحِ في كلامِه.
- من صُوَرِ الثَّرثَرةِ أيضًا: الفُحشُ، والسَّبُّ. والفُحشُ: هو التَّعبيرُ عن الأمورِ المُستقبَحةِ بالعباراتِ الصَّريحةِ، وهذا خِلافُ أخلاقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيثُ
((لم يكُنِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاحِشًا ولا مُتفَحِّشًا)) [2116] أخرجه البخاري (3559)، ومسلم (2321) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((سِبابُ المُسلِمِ فُسوقٌ، وقِتالُه كُفرٌ)) [2117] أخرجه البخاري (48)، ومسلم (64) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ||hamish||2118||/hamish||.
- الخوضُ في الباطِلِ.- الهَمزُ واللَّمزُ وعَيبُ الآخَرين وتعييرُهم.- تضليلُ النَّاسِ عن الحَقِّ وخِداعُهم بشَقشَقةِ اللِّسانِ والتَّقعُّرِ في الكلامِ، وذلك فِعلُ المُنافِقين الذين فسَدت قلوبُهم؛ فينبغي للمُسلِمِ أن يحذَرَهم ويُحذِّرَ منهم، وألَّا تشتَبِهَ عليه ثَرثَرتُهم وتفاصُحُهم.
عن أبي عُثمانَ النَّهديِّ، قال: كنتُ عِندَ عُمَرَ وهو يخطُبُ النَّاسَ، فقال في خطبتِه: (إنَّ أخوَفَ ما أخافُ على أمَّتي كُلُّ مُنافِقٍ عليمِ اللِّسانِ)
[2119] أخرجه الفِريابي في ((صفة النفاق)) (26)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (236)؛ ولفظُه: عن أبي عُثمانَ النَّهْديِّ قال: سمِعتُ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رحمه اللهُ وهو على مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكثَرَ من عَدَدِ أصابِعي هذه، وهو يقولُ: (إنَّ أخوَفَ ما أخافُ على هذه الأمَّةِ المُنافِقُ العليمُ، قيل: وكيف يكونُ المُنافِقُ العليمُ؟ قال: عالِمُ اللِّسانِ، جاهِلُ القَلبِ والعَمَلِ). صحَّح إسنادَه ووثَّق رجالَه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1013). .
قال
المُناويُّ: («كُلُّ مُنافِقٍ عليمِ اللِّسانِ» أي: عالمٍ للعِلمِ مُنطَلِقِ اللِّسانِ به، لكِنَّه جاهِلُ القَلبِ والعَمَلِ، فاسِدُ العقيدةِ، مُغرٍ للنَّاسِ بشقاشِقِه وتفحُّصِه وتقَعُّرِه في الكلامِ)
[2120] ((التيسير)) (1/52). .
- المبالغةُ في المديحِ والتَّكلُّفُ فيه؛ فإنَّه قَطعٌ لعُنقِ الممدوحِ، وبعضُ النَّاسِ يكثِرُ المديحَ حتَّى يقَعَ في الباطِلِ من القولِ، ويتكَلَّمَ بغيرِ حَقٍّ.
عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي بَكرةَ، عن أبيه، قال:
((أثنى رجلٌ على رجُلٍ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: وَيلَك! قطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِك، قطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِك! مِرارًا، ثمَّ قال: مَن كان منكم مادِحًا أخاه لا محالةَ فلْيَقُلْ: أحسَبُ فلانًا، واللَّهُ حَسيبُه، ولا أزكِّي على اللَّهِ أحَدًا، أحسَبُه كذا وكذا، إن كان يعلَمُ ذلك منه)) [2121] أخرجه البخاري (2662) واللفظ له، ومسلم (3000). .
(قولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((قطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِك)): قال أهلُ العِلمِ: هذا كُلُّه في التَّفاوُتِ في المدحِ، ووَصفِ الإنسانِ بما ليس فيه، أو لمن يُخشى عليه العُجبُ والفسادُ بسَماعِ المدحِ)
[2122] ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (8/549). .
وقال معروفٌ الكَرْخيُّ: (احفَظْ لِسانَك من المدحِ كما تحفَظُه من الذَّمِّ)
[2123] ((الرسالة)) للقشيري (1/ 235). .
- الجَهرُ بذَنبٍ قد ستَرَه اللهُ على فاعِلِه، فيصبِحُ يُثرثِرُ بما فَعَل ويتكَلَّمُ به دونَ حَياءٍ؛ ولذلك استهجن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فِعلَ بعضِ النَّاسِ ممَّن يَقَعون في الحرامِ خُفيةً ثمَّ يُثرثِرون بما فعَلوا.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: سمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((كُلُّ أمَّتي مُعافًى إلَّا المُجاهِرين، وإنَّ من المُجاهَرةِ أن يعمَلَ الرَّجُلُ باللَّيلِ عَمَلًا، ثمَّ يُصبِحَ وقد ستَرَه اللهُ عليه، فيقولَ: يا فُلانُ، عَمِلْتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يستُرُه رَبُّه، ويصبِحُ يَكشِفُ سِترَ اللهِ عنه)) [2124] أخرجه البخاري (6069) واللفظ له، ومسلم (2990). .
- تطوُّعُ بعضِ النَّاسِ بالفتوى في أمورِ الدِّينِ بلا عِلمٍ، وإبداءُ رأيِهم في كُلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، والثَّرثَرةُ فيما لا يُحسِنونَه.
عن
عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قال:
((سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: إنَّ اللهَ لا يقبِضُ العِلمَ انتِزاعًا ينتزِعُه مِن العِبادِ، ولكن يقبِضُ العِلمَ بقَبضِ العُلَماءِ، حتَّى إذا لم يُبقِ عالِمًا اتَّخَذ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالًا، فسُئِلوا فأفتَوا بغَيرِ عِلمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا)) [2125] أخرجه البخاري (100) واللفظ له، ومسلم (2673). .
قال
ابنُ بطَّةَ: (كُنتُ عِندَ أبي عُمَرَ الزَّاهِدِ، فسُئِل عن مسألةٍ فبادَرْتُ أنا فأجبْتُ السَّائِلَ، فالتَفتَ إليَّ فقال لي: تَعرِفُ الفُضوليَّاتِ المنتَقِباتِ؟! يعني: أنت فُضوليٌّ، فأخجَلَني!)
[2126] ((الآداب الشرعية)) لابن مُفلِح (2/171). .
ورُويَ عن مجاهِدٍ قال لُقمانُ لابنِه: (إيَّاك إذا سُئِل غيرُك أن تكونَ أنت المجيبَ، كأنَّك أصَبْتَ غنيمةً أو ظَفِرتَ بعَطِيَّةٍ؛ فإنَّك إن فعَلْتَ ذلك أزرَيتَ بالمسؤولِ، وعنَّفْتَ السَّائِلَ، ودلَلْتَ السُّفهاءَ على سَفاهةِ حِلمِك وسُوءِ أدَبِك!)
[2127] ((الآداب الشرعية)) لابن مُفلِح (2/171). .