ثانيًا: الفَرْقُ بَيْنَ الحَسَدِ وبَعضِ الصِّفاتِ
الفَرْقُ بَيْنَ الحَسَدِ والغِبطةِ:قال
ابنُ منظورٍ: (الغَبْطُ: أن يرى المغبوطَ في حالٍ حَسَنةٍ، فيتمَنَّى لنفسِه مِثلَ تلك الحالِ الحَسَنةِ، من غيرِ أن يتمَنَّى زوالَها عنه، وإذا سأل اللَّهَ مِثْلَها فقد انتهى إلى ما أمَرَه به ورَضِيَه له، وأمَّا الحَسَدُ فهو أن يشتهيَ أن يكونَ له ما للمحسودِ، وأن يزولَ عنه ما هو فيه)
[2612] ((لسان العرب)) لابن منظور (7/359). .
وقال
الرَّازيُّ: (إذا أنعَم اللَّهُ على أخيك بنِعمةٍ؛ فإن أردتَ زوالَها فهذا هو الحَسَدُ، وإن اشتَهَيتَ لنفسِك مثلَها، فهذا هو الغِبطةُ)
[2613] ((مفاتيح الغيب)) (3/646). .
وقد تُسَمَّى الغِبطةُ حَسَدًا، كما جاء في حديثِ
عبدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا حَسَدَ إلَّا في اثنتَينِ: رجلٌ آتاه اللَّهُ مالًا فسُلِّط على هَلَكتِه في الحَقِّ، ورجُلٌ آتاه اللَّهُ الحِكمةَ فهو يقضي بها ويُعَلِّمُها)) [2614] رواه البخاري (73) واللفظ له، ومسلم (316). . وقد فسَّر
النَّوويُّ الحَسَدَ في الحديثِ فقال: (هو أن يتمَنَّى مِثلَ النِّعمةِ التي على غيرِه من غيرِ زوالِها عن صاحِبِها)
[2615] ((شرح النووي على مسلم)) (6/97). .
الفَرْقُ بَيْنَ الحَسَدِ والمُنافَسةِ والمُسابقةِ:قال
ابنُ القَيِّمِ: (للحَسَدِ حَدٌّ، وهو المنافسةُ في طَلَبِ الكَمالِ، والأَنَفةُ أن يتقَدَّمَ عليه نظيرُه، فمتى تعدَّى ذلك صار بغيًا وظُلمًا يتمَنَّى معه زوالَ النِّعمةِ عن المحسودِ، ويحرِصُ على إيذائِه)
[2616] ((الفوائد)) (ص140). .
وقال
الغَزاليُّ: (والمنافَسةُ في اللُّغةِ مُشتَقَّةٌ من النَّفاسةِ، والذي يدُلُّ على إباحةِ المنافسةِ قَولُه تعالى:
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26] ، وقال تعالى:
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [الحديد: 21] ، وإنَّما المسابقةُ عِندَ خوفِ الفَوتِ، وهو كالعبَدينِ يتسابقانِ إلى خِدمةِ مولاهما؛ إذ يجزَعُ كُلُّ واحدٍ أن يسبِقَه صاحِبُه فيحظى عِندَ مولاه بمنزلةٍ لا يحظى هو بها)
[2617] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/190). .
وبيَّن
الغَزاليُّ سَبَبَ المنافسةِ فأرجعَها إلى: (إرادةِ مساواتِه واللُّحوقِ به في النِّعمةِ، وليس فيها كراهةُ النِّعمةِ، وكان تحتَ هذه النِّعمةِ أمرانِ: أحَدُهما: راحةُ المنعَمِ عليه، والآخَرُ: ظُهورُ نقصانِه عن غيرِه وتخلُّفِه عنه، وهو يَكرَهُ أحدَ الوجهَينِ، وهو تخلُّفُ نفسِه، ويحِبُّ مُساواتَه له. ولا حَرَجَ على من يَكرَهُ تخلُّفَ نفسِه ونُقصانَها في المباحاتِ)
[2618] ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (3/191). .
وقد تنافَس الصَّحابةُ في الخيرِ، وبذلوا أسبابَ الكمالِ؛ فهذا عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه يقولُ:
((أمَرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا أن نتصَدَّقَ، فوافَق ذلك مالًا عِندي، فقُلتُ: اليومَ أسبِقُ أبا بكرٍ إن سبَقْتُه يومًا! فجِئتُ بنِصفِ مالي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبقَيْتَ لأهلِك؟ قُلتُ: مِثْلَه، قال: وأتى أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بكُلِّ ما عِندَه، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبقَيْتَ لأهلِك؟ قال: أبقَيتُ لهم اللهَ ورَسولَه! قُلتُ: لا أسابِقُك إلى شيءٍ أبدًا)) [2619] رواه أبو داود (1678) واللفظ له، والترمذي (3675). صحَّحه الترمذي، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (1510)، والنووي في ((المجموع)) (6/236). .
ولكِنَّ المنافسةَ في أمورِ الدُّنيا تجُرُّ غالِبًا إلى الوقوعِ في الحَسَدِ والأخلاقِ الذَّميمةِ؛ فعن
عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، عن رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((إذا فُتِحَت عليكم فارِسُ والرُّومُ، أيُّ قومٍ أنتم؟ قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ عَوفٍ: نقولُ كما أمَرَنا اللَّهُ. قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أو غيرَ ذلك، تتنافَسون، ثمَّ تتحاسَدون، ثمَّ تتدابَرون، ثمَّ تتباغَضون)) [2620] رواه مسلم (2962). . وقال الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فواللهِ ما الفَقْرَ أخشى عليكم، ولكِنِّي أخشى أن تُبسَطَ عليكم الدُّنيا كما بُسِطَت على مَن كان قبلَكم، فتَنافَسوها كما تَنافَسوها، وتُهلِكَكم كما أهلكَتْهم)) [2621] رواه مطولًا البخاري (3158) واللفظ له، ومسلم (2961). .
وقد نبَّه على ذلك
الرَّازيُّ فقال: (لكِنْ هاهنا دقيقةٌ، وهي أنَّ زوالَ النُّقصانِ عنه بالنِّسبةِ إلى الغيرِ له طريقانِ: أحَدُهما: أن يحصُلَ له مِثلُ ما حَصَل للغيرِ. والثَّاني: أن يزولَ عن الغيرِ ما لم يحصُلْ له. فإذا حَصَل اليأسُ عن أحدِ الطَّريقينِ فيكادُ القلبُ لا ينفَكُّ عن شهوةِ الطَّريقِ الآخَرِ، فهاهنا إن وَجَد قَلْبَه بحيثُ لو قَدَر على إزالةِ تلك الفضيلةِ عن ذلك الشَّخصِ لأزالَها، فهو صاحِبُ الحَسَدِ المذمومِ، وإن كان يجِدُ قَلْبَه بحيثُ تَردَعُه التَّقوى عن إزالةِ تلك النِّعمةِ عن الغيرِ، فالمرجوُّ من اللَّهِ تعالى أن يعفوَ عن ذلك)
[2622] ((مفاتيح الغيب)) للرازي (3/647). .
الفَرْقُ بَيْنَ الحَسَدِ والعَينِ:العَينُ نَظَرٌ باستحسانٍ قد يشوبُه شيءٌ من الحَسَدِ، ويكونُ النَّاظِرُ خبيثَ الطَّبعِ
[2623] ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (2/445). .
وهما (يشتركانِ في الأثَرِ، ويختلفانِ في الوسيلةِ والمُنطَلَقِ.
فالحاسِدُ: قد يحسُدُ ما لم يَرَه، ويحسُدُ في الأمرِ المتوقَّعِ قَبلَ وقوعِه، ومصدَرُه تحَرُّقُ القَلبِ واستكثارُ النِّعمةِ على المحسودِ، وتمنِّي زوالِها عنه أو عدَمِ حصولِها له، وهو غايةٌ في حِطَّةِ النَّفسِ.
والعائنُ: لا يَعينُ إلَّا ما يراه والموجودَ بالفِعلِ، ومصدَرُه انقِداحُ نَظرةِ العينِ، وقد يَعينُ ما يَكرَهُ أن يُصابَ بأذًى منه، كوَلَدِه ومالِه)
[2624] ((أضواء البيان)) للشنقيطي (9/165). .
قال
ابنُ القَيِّمِ: (العاينُ والحاسِدُ يشتركانِ في شيءٍ، ويفترقانِ في شيءٍ؛ فيشتركانِ في أنَّ كُلَّ واحدٍ منهما تتكيَّفُ نفسُه وتتوجَّهُ نحوَ مَن يريدُ أذاه؛ فالعائِنُ تتكَيَّفُ نفسُه عِندَ مقابلةِ المَعِينِ ومعاينتِه، والحاسِدُ يحصُلُ له ذلك عِندَ غَيبِ المحسودِ وحُضورِه أيضًا، ويفترقانِ في أنَّ العائِنَ قد يصيبُ من لا يحسُدُه من جمادٍ أو حيوانٍ أو زرعٍ أو مالٍ)
[2625] ((بدائع الفوائد)) (2/231). .
وقال أيضًا:
((العائِنُ حاسِدٌ خاصٌّ، وهو أضَرُّ من الحاسِدِ... وأنَّه أعَمُّ؛ فكُلُّ عائنٍ حاسِدٌ ولا بُدَّ، وليس كُلُّ حاسِدٍ عائنًا)) [2626] ((بدائع الفوائد)) (2/233). .