ثامنًا: وسائِلُ علاجِ الحِقْدِ
1- الدُّعاءُ:المُسلِمُ يدعو اللهَ أن يجعَلَ قَلبَه طاهِرًا نَقيًّا من الحِقْدِ والغِلِّ؛ قال تعالى:
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر: 10] .
وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعو ويقولُ:
((بِّ أَعِنِّي ولا تُعِنْ عليَّ، وانصُرْني ولا تَنصُرْ عليَّ، وامكُرْ لي ولا تَمكُرْ علَيَّ، واهْدِني ويَسِّرِ الهُدى لي، وانصُرْني على مَن بَغى علَيَّ، رَبِّ اجعَلْني لك شَكَّارًا، لك ذَكَّارًا، لك رَهَّابًا، لك مِطْواعًا، إليك راغِبًا، إليك مُخْبِتًا، لك أوَّاهًا مُنيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوبتي، واغسِلْ حَوْبَتي [2846] حوبتي: أي: إثمي ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/ 455). ، وأجِبْ دَعْوتي، وثَبِّتْ حُجَّتي، واهْدِ قَلْبي، وسَدِّدْ لِساني، واسْلُلْ سَخيمةَ قَلْبي)) [2847] رواه أبو داود (1510)، والترمذي (3551) واللفظ له، وابن ماجه (3830) من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن حبان (947)، وابن القيم في ((الوابل الصيب)) (196). . والسَّخيمةُ هي الحِقْدُ في النَّفسِ
[2848] ((شرح سنن أبي داود)) للعيني (5/422). .
2- سلامةُ الصَّدرِ:وسلامةُ الصَّدرِ تكونُ بعَدَمِ الحِقْدِ والغِلِّ والبَغضاءِ.
3- تقويةُ رابِطِ الأخُوَّةِ الإيمانيَّةِ:إنَّ الأُخُوَّةَ الإيمانيَّةَ والغِلَّ لا يجتَمِعانِ في قَلبٍ واحِدٍ، إنَّ عاطفةَ المُؤمِنِ نحوَ إخوانِه المُؤمِنين تتدَفَّقُ بالمحبَّةِ، فكيف يجِدُ الغِلَّ إلى هذه العاطِفةِ الكريمةِ سَبيلًا؟! إنَّهما أمرانِ لا يجتَمِعانِ
[2849] ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/725). .
قال تعالى:
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 8-9] .
قال
السَّعديُّ: (
وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا، أي: لا يَحسُدون المُهاجِرين على ما آتاهم اللهُ مِن فَضلِه، وخَصَّهم به مِن الفَضائِلِ والمناقِبِ التي هم أهلُها، وهذا يدُلُّ على سلامةِ صُدورِهم، وانتِفاءِ الغِلِّ والحِقْدِ والحَسَدِ عنها)
[2850] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 851). .
4- التَّواضُعُ:لا شَكَّ أنَّ تواضُعَ المُسلِم لأخيه المُسلِمِ يدفَعُ الغِلَّ والحِقدَ؛ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم:
((إنَّ اللهَ أوحى إلَيَّ أن تواضَعوا، حتَّى لا يَفخَرَ أحَدٌ على أحَدٍ، ولا يبغيَ أحدٌ على أحَدٍ)) [2851] رواه مسلم (2865) مطوَّلًا من حديثِ عِياضِ بنِ حِمارٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وقال
أبو حاتمٍ: (التَّواضُعُ يَكسِبُ السَّلامةَ، ويُورِثُ الأُلفةَ، ويَرفَعُ الحِقْدَ، ويُذهِبُ الصَّدَّ)
[2852] ((روضة العقلاء)) (ص: 61). .
5- مَلءُ القَلبِ بالمحبَّةِ وإرادةِ الخَيرِ للآخَرينَ.6- اعتذارُ المرءِ لأخيه: قال
أبو حاتمِ بنُ حِبَّانَ: (الاعتِذارُ يُذهِبُ الهُمومَ، ويُجْلي الأحزانَ، ويدفَعُ الحِقْدَ، ويُذهِبُ الصَّدَّ... فلو لم يكُنْ في اعتذارِ المرءِ إلى أخيه خَصلةٌ تحمَدُ إلَّا نفيُ العُجْبِ عن النَّفسِ في الحالِ، لكان الواجِبُ على العاقِلِ ألَّا يفارِقَه الاعتذارُ عِندَ كُلِّ زلَّةٍ)
[2853] ((روضة العقلاء)) (ص: 186). .
وقال المأمونُ لإبراهيمَ بنِ المهْديِّ بعدَ اعتذارِه: (قد مات حِقْدي بحياةِ عُذرِك، وقد عفَوتُ عنك، وأعظَمُ مِن عَفوي ويدي عِندَك أنِّي لم أُجَرِّعْك مرارةَ امتِنانِ الشَّافِعينَ)
[2854] يُنظَر: ((البصائر والذخائر)) لأبي حيان التوحيدي (3/ 50)، ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 82). .
7- تقديمُ الهَدِيَّةِ:(وذلك لأنَّ الهَدِيَّةَ خُلُقٌ من أخلاقِ الإسلامِ دَلَّت عليه الأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وحثَّ عليه خُلَفاؤهم الأولياءُ، تُؤَلِّفُ القُلوبَ، وتنفي سَخائِمَ
[2855] السَّخائِمُ: جمعُ سَخيمةٍ: وهي: الحِقدُ في النَّفسِ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/351). الصُّدورِ)
[2856] ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (4/418). .
وقد قيل: الهَدِيَّةُ تُذهِبُ السَّخيمةَ. والسَّخيمةُ: الحِقْدُ
[2857] يُنظر: ((الأمثال والحكم)) للماوَرْدي (ص: 130). .
وقال
الجاحِظُ: (أنظَرُ النَّاسِ في العاقِبةِ مَن لَطَف حتى كَفَّ حَربَ عَدُوِّه بالصَّفحِ والتَّجاوُزِ، واستَلَّ حِقدَه بالرِّفقِ والتَّحبُّبِ)
[2858] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (4/ 326). .
8- تَركُ الغَضَبِ الذي هو سَبَبٌ للأحقادِ:الغَضَبُ يُعدُّ من الأسبابِ التي تؤدِّي إلى الحِقْدِ.
وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للرَّجُلِ الذي سأله أن يوصيَه:
((لا تَغضَبْ، فردَّد مِرارًا، قال: لا تَغضَبْ)) [2859] رواه البخاري (6116) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
9- الإخلاصُ والمناصَحةُ ولُزومُ الجماعةِ:فعن
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ثلاثٌ لا يَغِلُّ عليهِنَّ قَلبُ مُسلِمٍ: إخلاصُ العَمَلِ للهِ، ومُناصَحةُ أئمَّةِ المُسلِمين، ولُزومُ جماعتِهم؛ فإنَّ الدَّعوةَ تحيطُ مِن ورائِهم)) [2860] أخرجه الترمذي (2658) واللفظ له، والحميدي (88) صححه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/364)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2658)، وصحح إسناده شعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح السنة)) (112)، وقال ابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (1/18): مشهور في السنن. .
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (ويَغِلُّ -بالفَتحِ- هو المشهورُ، يُقالُ: غَلّ صَدْرُه يَغِلُّ: إذا كان ذا غِشٍّ وضِغْنٍ وحِقدٍ)
[2861] ((مجموع الفتاوى)) (35/7). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (أي: لا يحمِلُ الغِلَّ، ولا يبقى فيه مع هذه الثَّلاثةِ؛ فإنَّها تنفي الغِلَّ والغِشَّ، وهو فَسادُ القَلبِ وسَخايمُه، فالمُخلِصُ للهِ إخلاصُه يمنَعُ غِلَّ قلبِه ويخرِجُه ويزيلُه جُملةً؛ لأنَّه قد انصرَفَت دواعي قلبِه وإرادتُه إلى مرضاةِ رَبِّه، فلم يَبْقَ فيه موضِعٌ للغِلِّ والغِشِّ)
[2862] ((مفتاح دار السعادة)) (1/72). .
10- الاقتِداءُ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والسَّلَفِ الصَّالحِ في سلامةِ الصَّدرِ من الحِقْدِ.فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القُدوةُ في الأخلاقِ الحَسَنةِ، ومنها سلامةُ الصَّدرِ مِن الحِقْدِ والضَّغائِنِ، وقد ذَكَر
ابنُ القَيِّمِ سَلامةَ الصَّدرِ، من منازِلِ إيَّاك نعبُدُ وإيَّاك نستعينُ، فقال: (ومَن أراد فَهْمَ هذه الدَّرَجةِ كما ينبغي، فلْيَنظُرْ إلى سِيرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع النَّاسِ يجِدْها بعَينِها)
[2863] ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/345). .
وهكذا كان أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قلوبُهم سليمةٌ من الأحقادِ والضَّغائِنِ، ومن تلك النَّماذجِ ما رواه أبو الدَّرداءِ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((كُنتُ جالِسًا عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ أقبَلَ أبو بَكرٍ آخِذًا بطَرَفِ ثَوبِه حَتَّى أبدى عن رُكبَتِه! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَّا صاحِبُكم فقد غامَرَ [2864] غامَرَ: أي: خاصَمَ غَيرَه، ومعناه: دَخَل في غَمرةِ الخُصومةِ، وهي معظَمُها. انظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (5/30). ! فسلَّم وقال: إنِّي كانَ بَيني وبَينَ ابنِ الخَطَّابِ شَيءٌ فأسرَعْتُ إليه ثُمَّ نَدِمتُ، فسألْتُه أن يَغفِرَ لي فأبى عَليَّ، فأقبَلْتُ إليك. فقال: يَغفِرُ اللهُ لكَ يا أبا بَكرٍ «ثَلاثًا»، ثُمَّ إنَّ عُمرَ نَدِمَ فأتى مَنزِلَ أبي بَكْرٍ فسألَ: أثَمَّ أبو بَكْرٍ؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَلَّمَ عليه، فجَعلَ وَجهُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَتَمَعَّرُ حَتَّى أشفَقَ أبو بَكرٍ، فجثَا عَلى رُكبَتَيه، فقال: يا رَسولَ اللهِ، واللَّهِ أنا كُنتُ أَظلَمَ! مَرَّتينِ. فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ اللهَ بَعَثني إليكم فقَلتُم: كذَبْتَ، وقال أبو بَكرٍ: صَدَقَ، وواساني بنَفسِه ومالِه، فهل أنتُم تارِكو لي صاحِبي؟! مَرَّتينِ. فما أوذِيَ بَعدَها)) [2865] رواه البخاري (3661). .
وعن عائِذِ بنِ عَمرٍو:
((أنَّ أبا سُفيانَ أتى على سَلمانَ وصُهَيبٍ وبِلالٍ في نَفَرٍ، فقالوا: واللهِ ما أخَذَت سُيوفُ اللهِ مِن عُنُقِ عَدُوِّ اللهِ مَأخَذَها! قال: فقال أبو بكرٍ: أتقولون هذا لشَيخِ قُرَيشٍ وسَيِّدِهم؟ فأتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَره، فقال: يا أبا بكرٍ، لعلَّك أغضَبْتَهم! لئنْ كُنتَ أغضَبْتَهم لقد أغضَبْتَ رَبَّك! فأتاهم أبو بكرٍ فقال: يا إخوَتاه، أغضَبْتُكم؟ قالوا: لا، يغفِرُ اللهُ لك يا أخي)) [2866] رواه مسلم (2504). .
وقد تأسَّى العُلَماءُ الرَّبَّانيُّونَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتخَلَّقوا بأخلاقِه، فأصبحَت قلوبُهم سليمةً لا تحمِلُ حِقدًا على أحَدٍ، حتَّى على من آذاهم، ومن هؤلاء
ابنُ تَيميَّةَ؛ يقولُ
ابنُ القَيِّمِ: (وما رأيتُ أحَدًا قَطُّ أجمَعَ لهذه الخِصالِ مِن
شَيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ قدَّس اللهُ رُوحَه، وكان بعضُ أصحابِه الأكابِرِ يقولُ: وَدِدْتُ أنِّي لأصحابي مِثلُه لأعدائِه وخُصومِه! وما رأيتُه يدعو على أحَدٍ منهم قَطُّ، وكان يدعو لهم، وجئتُ يومًا مُبَشِّرًا له بموتِ أكبَرِ أعدائِه، وأشَدِّهم عَداوةً وأذًى له، فنَهَرني وتنكَّرَ لي واسترجَعَ! ثمَّ قام مِن فَورِه إلى بيتِ أهلِه فعَزَّاهم، وقال: إنِّي لكم مكانَه، ولا يكونُ لكم أمرٌ تحتاجون فيه إلى مساعدةٍ إلَّا وساعدتُكم فيه! ونحوَ هذا من الكلامِ، فسُرُّوا به، ودَعَوا له، وعَظَّموا هذه الحالَ منه)
[2867] ((مدارج السالكين)) (2/345). .