سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ الهَجْرِ
1- الهَجْرُ الواقعُ بَيْنَ الأصدقاءِ وزُمَلاءِ العَمَلِ.2- الهَجْرُ الذي يستمِرُّ مدَّةً طويلةً، كأن يستَمِرَّ الهَجْرُ بَيْنَ أخوَينِ لمدةِ سَنةٍ، وقد جعل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الهَجْرَ تلك المدَّةَ كسَفكِ الدَّمِ؛ عن أبي خِراشِ السُّلَميِّ أنَّه سمع رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((من هَجر أخاه سَنةً فهو كسَفْكِ دَمِه)) [7155] أخرجه أبو داود (4915)، وأحمد (17935). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4915)، وصحَّح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (7498)، والنووي في ((رياض الصالحين)) (1596)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (2/ 223). .
قال
الصَّنعانيُّ: (هذا تغليظٌ شديدٌ في الهَجْرِ هذه المدَّةَ، والمرادُ أنَّهما سواءٌ في أصلِ التَّحريمِ، وإن كان البادِئُ بالفِعلِ أغلَظَ)
[7156] يُنظَر: ((التَّحبير)) للصنعاني (6/652). .
وقيل: المعنى: مهاجَرةُ الأخِ المُسلِمِ سَنةً تُوجِبُ العقوبةَ، كما أنَّ سَفكَ دَمِه يوجِبُها؛ فهي شبيهةٌ بالسَّفكِ من حيثُ حُصولُ العقوبةِ بسَبَبِها، لا أنَّها مثلُه في العقوبةِ؛ لأنَّ القَتلَ كبيرةٌ عظيمةٌ، لا يكونُ بعدَ الشِّركِ أعظَمُ منه، فشَبَّه الهِجرانَ به تأكيدًا في المنعِ عنه، وفي المشابهةِ تكفي المساواةُ في بعضِ الصِّفاتِ.
ويمكنُ أن يكونَ تخصيصُ السَّنةِ بالذِّكرِ لاشتمالِها على الفُصولِ الأربعةِ، فإذا لم يعتَدِلْ مزاجُه بمرورِ السَّنةِ عليه فلا يُرجى رجوعُه
[7157] يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3153). .
3- هَجرُ الوالدَينِ أو أحَدِهما، ولا يجوزُ هذا الهَجْرُ بحالٍ من الأحوالِ، مهما بدَرَ منهما أو من أحَدِهما إليه من الإساءةِ.
قال تعالى في شأنِ الوالِدَين الكافِرَين اللَّذَينِ يدعوانِ إلى الكُفرِ:
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] .
(فالأبوانِ لهما حقٌّ خاصٌّ، لا يُهجَرانِ، لكِنْ يُنصَحانِ؛ لأنَّ اللهَ قال سُبحانَه في حقِّ الولِدِ، إذا كان أبواه كافِرَينِ، قال له جَلَّ وعلا:
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] ، فالوالِدانِ لهما حقٌّ عظيمٌ ولو كانا كافِرين، فعلى الوَلَدِ أن يصحَبَهما بالمعروفِ، وأن يحسِنَ إليهما، وإذا كانا فقيرينِ أنفق عليهما، مع الدَّعوةِ ومع التَّوجيهِ ومع الإحسانِ؛ لعَلَّ اللهَ أن يهديَهما بأسبابِه)
[7158] ((فتاوى نور على الدرب)) لابن باز (18/362). .
قال
أحمدُ بنُ حنبَلٍ: (إذا رأى أباه على أمرٍ يَكرَهُه يُعلِمُه بغيرِ عُنفٍ ولا إساءةٍ، ولا يُغلِظْ له في الكلامِ، وإلَّا تركَه، وليس الأبُ كالأجنَبيِّ)
[7159] يُنظَر: ((الآداب الشرعية والمنح المرعية)) لابن مفلح (1/ 449). .
وقيل ل
إسحاقَ بنِ راهَوَيهِ: (الرَّجُلُ يأمُرُ أباه بالمعروفِ وينهاه عن المُنكَرِ؟) قال: (في رِفقٍ، عِظْه ولا تفعَلْه على رُؤوسِ النَّاسِ)
[7160] يُنظَر: ((مسائل حرب الكرماني = من كتاب النكاح إلى نهاية الكتاب)) (2/ 955). .
وقال سلامُ بنُ مِسكينٍ: (قُلتُ للحَسَنِ: آمُرُ والدَيَّ بالمعروفِ وأنهاهما عن المُنكَرِ؟ قال: مُرْهما إن قَبِلا، فإن سكَتَا فاسكُتْ عنهما)
[7161] يُنظَر: ((مسائل حرب الكرماني = من كتاب النكاح إلى نهاية الكتاب)) (2/ 955). .
فالوَلَدُ لا يجوزُ له أن يُنكِرَ على والِدَيه إلَّا في حدودِ مرتبتَيِ التَّعريفِ، ثمَّ الوعظِ بالنُّصحِ اللَّطيفِ، ولا يتجاوَزْهما بحالٍ إلى مرتبتَي السَّبِّ والتَّعنيفِ، أو التَّهديدِ بالضَّربِ والتَّخريفِ
[7162] يُنظَر: ((أدلة تحريم حلق اللحية)) لمحمد بن إسماعيل المقدم (ص: 133، 134). .
4- هَجرُ الأقارِبِ والأرحامِ، وقد نهى الشَّرعُ عن ذلك، وهَجْرُ ذوي الرَّحِمِ من كبائِرِ الذُّنوبِ؛ قال تعالى:
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد: 22 - 23] (أي: فلعَلَّكم إن أعرَضْتُم عن دينِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن ترجِعوا إلى ما كنتُم عليه في الجاهليَّةِ من الإفسادِ في الأرضِ، بالتَّغاوُرِ والتَّناهُبِ، وقَطعِ الأرحامِ، بمقاتلةِ بعضِ الأقاربِ بعضًا)
[7163] ((البحر المديد)) (5/371). .
وإذا كان المهجورُ من ذوي الرَّحِمِ فإنَّه كبيرةٌ، حتَّى وإن لم تبلُغِ المدَّةُ ثلاثةَ أيَّامٍ؛ لأنَّ الهَجْرَ هنا أضيفَ إليه قطيعةُ الرَّحِمِ، وقد عدَّ
الإمامُ الذَّهبيُّ هَجرَ الأقارِبِ مُطلَقًا من الكبائِرِ
[7164] ينظر ((الكبائر)) للذهبي (ص: 47). .
5- هَجرُ الزَّوجِ زوجتَه بغيرِ سَبَبٍ شرعيٍّ، وقد جعل بعضُ أهلِ العِلمِ هَجرَ الزَّوجةِ بلا موجِبٍ شرعيٍّ من الإضرارِ الذي يسوغُ لها به طَلَبُ الطَّلاقِ
[7165] يُنظَر: ((الشرح الكبير)) للدردير (2/345). .
6- هَجرُ الجيرانِ ومقاطعتُهم، مع أنَّ حَقَّ الجارِ من آكَدِ الحقوقِ وأوجَبِها على المُسلِمِ. قال
الذَّهبيُّ: (فإذا كان الجارُ صاحِبَ كبيرةٍ، فلا يخلو إمَّا أن يكونَ متسترًا بها ويغلِقَ بابَه عليه، فلْيُعرِضْ عنه ويتغافَلْ عنه، وإن أمكن أن ينصَحَه في السِّرِّ ويَعِظَه فحَسَنٌ، وإن كان متظاهِرًا بفِسقِه، مِثلُ مَكَّاسٍ أو مُرابٍ، فتهَجرُه هَجرًا جميلًا، وكذا إن كان تاركًا للصَّلاةِ في كثيرٍ من الأوقاتِ، فمُرْه بالمعروفِ وانهَه عن المُنكَرِ مرةً بعدَ أخرى، وإلَّا فاهْجُرْه في اللهِ؛ لعلَّه أن يرعويَ ويحصُلَ له انتفاعٌ بالهِجْرةِ، من غيرِ أن تقطَعَ عنه كلامَك وسلامَك وهديَّتَك، فإن رأيتَه متمَرِّدًا عاتيًا بعيدًا من الخيرِ، فأعرِضْ عنه واجهَدْ أن تتحوَّلَ من جوارِه)
[7166] ((حق الجار)) (ص: 46، 47). .
7- الهَجْرُ الذي يحصُلُ أحيانًا بسبَبِ الاختلافِ في مسائِلِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، مع ما قد يحصُلُ معه من التَّعصُّبِ للرَّأيِ، وربَّما تكلَّم المتهاجِران كُلُّ واحدٍ منهما في حقِّ صاحِبِه بغيرِ حَقٍّ؛ من أجلِ هذا الاختلافِ الحاصِلِ بَيْنَهما في أمرٍ كان يسَعُهما الخلافُ فيه دونَ نزاعٍ، فَضلًا عن الوُصولِ للتَّهاجُرِ بَيْنَهما؛ فالاختلافُ في الفروعِ ليس مَدعاةً أبدًا للهَجرِ.
قال
القُرطبيُّ في تفسيرِ قولِه تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103] : (قولُه تعالى:
وَلَا تَفَرَّقُوا يعني: في دينِكم كما افترَقَت اليهودُ والنَّصارى في أديانِهم... ويجوزُ أن يكونَ معناه: ولا تَفَرَّقوا متابعينَ للهوى والأغراضِ المختَلِفةِ، وكونوا في دينِ اللهِ إخوانًا، فيكونَ ذلك منعًا لهم عن التَّقاطُعِ والتَّدابُرِ، ودَلَّ عليه ما بعدَه، وهو قولُه تعالى:
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا. وليس فيه دليلٌ على تحريمِ الاختلافِ في الفُروعِ؛ فإنَّ ذلك ليس اختلافًا إذ الاختلافُ ما يتعَذَّرُ معه الائتلافُ والجَمعُ، وأمَّا حُكمُ مسائِلِ الاجتهادِ فإنَّ الاختلافَ فيها بسبَبِ استخراجِ الفرائِضِ ودقائِقِ معاني الشَّرعِ، وما زالت الصَّحابةُ يختَلِفون في أحكامِ الحوادِثِ، وهم مع ذلك متآلفون... وإنَّما منع اللهُ اختلافًا هو سبَبُ الفسادِ)
[7167] يُنظَر: ((الجامع لأحكام القرآن)) (4/159). .
وقد قال يونُسُ بنُ عبدِ الأعلى: (ناظَرتُ
الشَّافعيَّ يومًا في مسألةِ ثمَّ افتَرَقْنا ولقيني فأخذ بيدي، ثمَّ قال لي: يا أبا موسى ألا يستقيمُ أن نكونَ إخوانًا وإن لم نتَّفِقْ في مسألةٍ؟!)
[7168] ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (51/ 302). . قال
الذَّهبيُّ مُعَلِّقًا: (هذا يدُلُّ على كمالِ عَقلِ هذا الإمامِ، وفِقهِ نَفسِه؛ فما زال النُّظَراءُ يختَلِفون)
[7169] ((سير أعلام النبلاء)) (10/ 17). .
8- الهَجْرُ الذي يحصُلُ بسَبَبِ تشجيعِ الفِرْقِ الرِّياضيَّةِ، وممَّا يثيرُ الاستغرابَ ويثيرُ العَجَبَ أيضًا أن يتسَرَّبَ هَوَسُ اللُّعبةِ إلى بُيوتاتِ المُسلِمين، ويعتو فيها بالإفسادِ، وإفشاءِ الشِّقاقِ، والخِلافِ بَيْنَ أفرادِها! فهذا زوجٌ يتعصَّبُ لفَريقٍ مُعَيَّنٍ، وزوجتُه تتعصَّبُ لفريقٍ آخَرَ، والنِّزاعُ يثورُ بَيْنَ الزَّوجينِ كلَّما جرت مباراةٌ، ولا بدَّ من شِجارٍ وشِقاقٍ بَيْنَ الزَّوجينِ، سواءٌ تغَلَّبَ أحدُ الفريقينِ على الآخَرِ، أو تعادلا! لأنَّ كُلًّا من الزَّوجينِ يمدَحُ فريقَه، ويذُمُّ الفريقَ الآخَرَ، والحَربُ أوَّلُها الكلامُ
[7170] يُنظَر: ((كرة القدم وأخواتها)) لأبي ذر القلموني (ص: 65). .
9- الهَجْرُ بتركِ التَّسميةِ وبَسطِ الوَجهِ دونَ السَّلامِ والكَلامِ [7171] يُنظَر: ((الهجر في الكتاب والسنة)) لمشهور حسن سلمان (ص: 97). .عن
عائشةَ رَضِيَ الله عنها قالت: قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنِّي لأعلَمُ إذا كُنتِ عنِّي راضيةً، وإذا كنتِ عَلَيَّ غَضْبى! قالت: فقُلتُ: من أين تَعرِفُ ذلك؟! فقال: أمَّا إذا كنتِ عني راضيةً فإنَّك تقولينَ: لا ورَبِّ محمَّدٍ، وإذا كنتِ عَلَيَّ غَضْبى قُلتِ: لا ورَبِّ إبراهيمَ! قالت: قلتُ: أجَلْ، واللهِ يا رسولَ اللهِ ما أهجُرُ إلَّا اسمَك)) [7172] أخرجه البخاري (5228) ومسلم (2439). .
و(إنَّما اغتُفِرَت مغاضَبةُ
عائشةَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مع ما في ذلك من الحرَجِ؛ لأنَّ الغَضَبَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معصيةٌ كبيرةٌ؛ لأنَّ الحامِلَ لها على ذلك الغَيرةُ التي جُبِلت عليها النِّساءُ، وهي لا تنشَأُ إلَّا عن فَرطِ المحبَّةِ، فلمَّا كان الغَضَبُ لا يستلزِمُ البُغضَ اغتُفِر؛ لأنَّ البُغضَ هو الذي يُفضي إلى الكُفرِ أو المعصيةِ، وقد دَلَّ قولُها: "لا أهجُرُ إلَّا اسمَك" على أنَّ قَلبَها مملوءٌ بمحبَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[7173] ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 498). .
10- هَجرُ الكلامِ دونَ هَجرِ السَّلامِ.