تاسعًا: الوسائِلُ المُعينةُ على اكتِسابِ التَّودُّدِ
وسائِلُ التَّودُّدِ إلى الخَلقِ كثيرةٌ جدًّا، وتختلِفُ باختِلافِ الأشخاصِ والأوقاتِ والأحوالِ، ولكن نُعدِّدُ بعضًا مِن أهَمِّ هذه الوسائِلِ؛ فمنها:
1- حُسنُ الخُلقِ معَ البَشرِ؛ فهو مِفتاحُ قُلوبِهم، والباعِثُ على مودَّةِ صاحِبِه، ومُمهِّدٌ له في قُلوبِ النَّاسِ مكانًا؛ قال
الجاحِظُ: (حُسنُ الخُلقِ يوجِبُ المودَّةَ)
[2461] ((الرسائل)) للجاحظ (1/ 110). .
وقال
ابنُ حبَّانَ: (حُسنُ الخُلقِ بَذْرُ اكتسابِ المحبَّةِ، كما أنَّ سوءَ الخُلقِ بَذْرُ استِجلابِ البِغضةِ)
[2462] ((روضة العقلاء)) (ص: 65). .
وقال
ابنُ حبَّانَ أيضًا: (الواجِبُ على العاقِلِ أن يتحبَّبَ إلى النَّاسِ بلُزومِ حُسنِ الخُلقِ)
[2463] ((روضة العقلاء)) (ص: 64). .
وأنشَد مُحمَّدُ بنُ إبراهيمَ اليَعمريُّ:
حافِظْ على الخُلقِ الجميلِ ومِزْ به
ما بالجميلِ وبالقبيحِ خَفاءُ
إن ضاق مالُك عن صديقِك فالقَه
بالبِشرِ منك إذا يحينُ لِقاءُ
[2464] ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 64). 2- التَّغافُلُ عن الزَّلَّاتِ، وعَدمُ التَّوقُّفِ عندَ كُلِّ خطأٍ أو كَبوةٍ يقعُ فيها الرَّفيقُ؛ قال بعضُ الحُكماءِ: (وجَدْتُ أكثَرَ أمورِ الدُّنيا لا تجوزُ إلَّا بالتَّغافُلِ)
[2465] ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 180). ، وقال الأصمَعيُّ: (قال أعرابيٌّ: تناسَ مَساوِئَ الإخوانِ يَدُمْ لك وُدُّهم)
[2466] ((شعب الإيمان)) للبيهقي (13/ 504) رقم (10686). .
3- البَشاشةُ وطلاقةُ الوَجهِ، والتَّبسُّمُ في وُجوهِ النَّاسِ: ممَّا يقذِفُ الوُدَّ في قُلوبِ البَشرِ لصاحِبِها؛ قال
ابنُ حبَّانَ: (التَّحبُّبُ إلى النَّاسِ أسهَلُ ما يكون وَجهًا)
[2467] ((روضة العقلاء)) (ص: 65). ، وقال المنصورُ: (إذا أحبَبْتَ المَحمَدةَ مِن النَّاسِ بلا مَؤونةٍ فالقَهم ببِشرٍ حَسنٍ)
[2468] ((الموشى)) للوشاء (ص: 29). .
4- الرِّفقُ ولينُ الجانِبِ، والأخذُ باليُسرِ والسُّهولةِ في مُعامَلةِ النَّاسِ.
5- التَّواضُعُ، وخَفضُ الجَناحِ، وعَدمُ التَّعالي والتَّكبُّرِ عليهم.
قال
ابنُ حبَّانَ: (مِن أسبابِ المُؤاخاةِ التي يجِبُ على المرءِ لُزومُها: مشيُ القَصدِ، وخَفضُ الصَّوتِ، وقلَّةُ الإعجابِ، ولُزومُ التَّواضُعِ، وتَركُ الخِلافِ)
[2469] ((روضة العقلاء)) (ص: 88). .
6- عَدمُ إكثارِ المؤوناتِ والتَّثقيلِ عليهم؛ فالبَشرُ مجبولونَ على كراهيَةِ مَن يُكلِّفُهم المؤونةَ، ويشُقُّ أو يُثقِلُ عليهم؛ قال
ابنُ حبَّانَ: (ولا يجِبُ للمرءِ أن يُكثِرَ على إخوانِه المؤوناتِ فيُبرِمَهم؛ لأنَّ المُرضِعَ إذا كثُر مصُّه ربَّما ضجِرَت أمُّه؛ فتُلقيه)
[2470] ((روضة العقلاء)) (ص: 88). ، وقال أكثَمُ بنُ صَيفيٍّ: (تباعَدوا في الدِّيارِ، تقارَبوا في المودَّةِ)
[2471] ((البيان والتبيين)) للجاحظ (2/46). ويُنظَر: ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (3/ 100). .
7- تفريجُ كُرَبِ الإخوانِ، والوُقوفُ إلى جانِبِهم في المُلمَّاتِ والأحزانِ، ومُواساتُهم والإحسانُ لهم.
قال المنصورُ لابنِه المَهديِّ: (اعلَمْ أنَّ رضا النَّاسِ غايةٌ لا تُدرَكُ، فتحبَّبْ إليهم بالإحسانِ جُهدَك، وتودَّدْ إليهم بالإفضالِ، واقصِدْ بإفضالِك موضِعَ الحاجةِ منهم)
[2472] يُنظَر: ((أنساب الأشراف)) للبلاذري (4/ 270)، ((روضة العقلاء)) لابن حبان (ص: 235). .
8- الزِّيارةُ والتَّواصُلُ، والسُّؤالُ عن الإخوانِ، وتجنُّبُ الجَفاءِ بَينَ المُتودِّدِ ومَن يطلُبُ وُدَّه.قال بعضُ الأدباءِ: (المودَّةُ رُوحٌ، والزِّيارةُ شَخصُها)
[2473] ((البصائر والذخائر)) لأبي حيان التوحيدي (3/57). ، وقالت الحُكماءُ: (دواءُ المودَّةِ كثرةُ التَّعاهُدِ)
[2474] ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (ص: 340). ، وقال
ابنُ حبَّانَ: (العاقِلُ يتفقَّدُ تَركَ الجَفاءِ معَ الإخوانِ، ويُراعي مَحوَها إن بدَت منه، ولا يجِبُ أن يستضعِفَ الجَفوةَ اليَسيرةَ؛ لأنَّ مَن استصغَر الصَّغيرَ يوشِكُ أن يجمَعَ إليه صغيرًا، فإذا الصَّغيرُ كبيرٌ، بل أخرَقُ الخُرقِ التِماسُ المرءِ الإخوانَ بغَيرِ وفاءٍ، وطَلبُ الأجرِ بالرِّياءِ، ولا شيءَ أضيَعُ مِن مودَّةٍ تُمنَحُ مَن لا وفاءَ له)
[2475] ((روضة العقلاء)) (ص: 89). .
9- عَدمُ مُقابَلةِ الإساءةِ منهم بالمِثلِ، بل مَن أراد التَّودُّدَ للآخَرينَ فليعْفُ وليصفَحْ، وليُقابِلِ الإساءةَ بنقيضِها.
قال السُّلَميُّ: (وقابِلِ القطيعةَ بالصِّلةِ، والإساءةَ بالإحسانِ، والظُّلمَ بالصَّبرِ والغُفرانِ)
[2476] ((وصية الشيخ السلمي)) (ص: 49). ، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((ليس الواصِلُ بالمُكافِئِ)) [2477] أخرجه البخاري (5991) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
((وما زاد اللهُ عبدًا بعَفوٍ إلَّا عزًّا)) [2478] أخرجه مسلم (2588) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
10- إدخالُ السُّرورِ في قُلوبِ النَّاسِ، والانبِساطُ معَهم، والمُزاحُ المُنضبِطُ.
قال
الماوَرديُّ: (العاقِلُ يتوخَّى بمُزاحِه إحدى حالتَينِ لا ثالِثَ لهما: إحداهما: إيناسُ المُصاحِبينَ والتَّودُّدُ إلى المُخالِطينَ، وهذا يكونُ بما أُنِس مِن جميلِ القولِ، وبُسِط مِن مُستحسَنِ الفِعلِ.
وقد قال سعيدُ بنُ العاصِ لابنِه: «اقتصِدْ في مُزاحِك؛ فإنَّ الإفراطَ فيه يُذهِبُ البهاءَ، ويُجرِّئُ عليك السُّفهاءَ، وإنَّ التَّقصيرَ فيه يفُضُّ عنك المُؤانِسينَ، ويوحِشُ منك المُصاحِبينَ»، والحالةُ الثَّانيةُ: أن ينفيَ بالمُزاحِ ما طرأ عليه مِن سَأمٍ، وأُحدِث به مِن هَمٍّ؛ فقد قيل: لا بُدَّ للمصدورِ أن ينفُثَ)
[2479] ((أدب الدنيا والدين)) (ص: 310). .
11- أن يوقِّرَ الشُّيوخَ ويرحَمَ الصِّبيانَ، وفي الحديثِ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((ليس منَّا مَن لم يُوقِّرْ كبيرَنا، ويرحَمْ صغيرَنا)) [2480]رواه من طرق: أبو داود (4943) بلفظ: "ويعرِفْ حَقَّ كبيرِنا"، والترمذي (1920) بلفظ: "ويعرِفْ شَرَفَ كبيرِنا"، وأحمد (6937) واللفظ له من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الترمذي، والنووي في ((الترخيص: بالقيام)) (57)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4943)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (788)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (11/ 529). .
12- أن يبدَأَ مَن يلقى بالسَّلامِ قَبلَ الكلامِ، ويُصافِحَه؛ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا تدخُلونَ الجنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنوا حتَّى تحابُّوا، أوَلا أدُلُّكم على شيءٍ إذا فعَلْتُموه تحابَبْتُم؟ أفشوا السَّلامَ بَينَكم)) [2481] أخرجه مسلم (54) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ قصدًا إلى التَّحابُبِ والتَّوادُدِ، واستِكثارًا للإخوانِ
[2482] ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 552). ، قال الطِّيبيُّ: (إفشاءُ السَّلامِ سببٌ للتَّحابِّ والتَّوادِّ)
[2483] ((الكاشف)) للطيبي (10/ 3038). ، وقال بعضُ أهلِ العِلمِ: (ممَّا يُصفي لك وُدَّ أخيك: أن تُسلِّمَ عليه إذا لقيتَه، وتدعوَه بأحبِّ الأسماءِ إليه، وتُوسعَ له المجلِسَ إليك)
[2484] ((الجامع)) لابن وهب - الآداب (ص: 315) رقم (216). ، والمُصافَحةُ باليدِ (هي نهايةُ ما يتودَّدُ به المُسلِمُ)
[2485] ((المنتقى)) (9/ 154). .
13- الكلمةُ الطَّيِّبةُ؛ فهي تقودُ القُلوبَ إلى محبَّةِ صاحِبِها؛ فقد قال بعضُهم ناصِحًا: (ولا تمتنِعْ أن تتكلَّمَ بما يُطَيِّبُ قُلوبَ العامَّةِ؛ فإنَّ النَّاسَ ينقادونَ للكلامِ أكثَرَ مِن انقيادِهم بالبَطشِ)
[2486] ((لباب الآداب)) لأسامة بن منقذ (1/51). .
14- الهِبةُ والهديَّةُ؛ فالهِبةُ بها يَعلَمُ الموهوبُ له اعتناءَ الواهِبِ به، وإرادةَ إيصالِ الخيرِ له
[2487] ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (4/ 591). . والهديَّةُ وسيلةٌ ذاتُ أثرٍ كبيرٍ في القُلوبِ؛ فقد قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يا نِساءَ المُسلِماتِ، لا تحقِرَنَّ جارةٌ لجارتِها ولو فِرسِنَ شاةٍ [2488] فِرْسِنَ شاةٍ: الفِرْسِنُ: عَظمٌ قليلُ اللَّحمِ، وهو كالقدَمِ من الإنسانِ، وهو ما دونَ الرُّسغِ وفوقَ الحافِرِ، ويُضرَبُ به المثَلُ في القِلَّةِ والزُّهدِ فيه. يُنظَر: ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (5/223)، ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 198)، ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (4/321). ) [2489] أخرجه البخاري (2566)، ومسلم (1030) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، هو كِنايةٌ عن التَّحابُبِ والتَّوادُدِ، فكأنَّه قال: لِتُوادِدِ الجارةُ جارتَها بهديَّةٍ ولو حَقُرَت
[2490] ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 445). ؛ لأنَّ الهديَّةَ فيها تأنيسٌ للمُهدى إليه، وإلطافٌ له، وتثبيتٌ لمودَّتِه
[2491] ((شرح البخاري)) لابن بطال (7/ 136). .
قال بعضُ الشُّعراءِ:
إنَّ الهديَّةَ حُلوةٌ
كالسِّحرِ تجتلِبُ القُلوبَا
تُدني البغيضَ مِن الهوى
حتَّى تُصيِّرَه قريبَا
وتُعيدُ مُضطغَنَ العدا
وةِ بَعدَ نُفرتِه حبيبَا
[2492] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (3/ 42). 15- المُشاوَرةُ؛ لأنَّ في المُشاوَرةِ تودُّدًا إلى مَن يُشاوَرُ
[2493] ((بحر العلوم)) لأبي الليث السمرقندي (1/ 260). .
16- إجابةُ الدَّعوةِ، ومنها حُضورُ الوَليمةِ؛ قال العِراقيُّ: (التَّودُّدُ بحُضورِ الوَليمةِ أشَدُّ وأبلَغُ مِن السَّلامِ والكلامِ)
[2494] ((طرح التثريب)) (7/ 77). .
17- أن يعرِفَ فَضلَ التَّودُّدِ؛ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((قال اللهُ عزَّ وجلَّ: المُتحابُّونَ في جَلالي لهم منابِرُ مِن نورٍ يغبِطُهم النَّبيُّونَ والشُّهداءُ)) [2495] أخرجه الترمذي (2390)، وأحمد (22080) من حديثِ معاذِ بنِ جبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (577)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2390)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (2/173). ، المُتحابُّونَ: المُتوادُّونَ، والتَّحابُبُ: التَّوادُدُ
[2496] ((الإتحافات السنية)) للمناوي (ص: 114). .