ب- من السَّنةِ النَّبَويَّةِ
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((دينارٌ أنفَقْتَه في سبيلِ اللهِ، ودينارٌ أنفَقْتَه في رَقَبةٍ، ودينارٌ تصَدَّقْتَ به على مِسكينٍ، ودينارٌ أنفَقْتَه على أهلِك؛ أعظَمُها أجرًا الذي أنفَقْتَه على أهلِك)) [2722] أخرجه مسلم (995). ، فهذا الحديثُ يُبَيِّنُ وجوهًا كثيرةً للنَّفَقةِ تدلُّ على تعدُّدِ صُوَرِ البَذْلِ والجُودِ؛ قال
النَّوويُّ: (في هذا الحديثِ فوائِدُ؛ منها: الابتداءُ في النَّفَقةِ بالمذكورِ على هذا التَّرتيبِ. ومنها: أنَّ الحُقوقَ والفضائِلَ إذا تزاحمت قُدِّم الأوكَدُ فالأوكَدُ. ومنها: أنَّ الأفضَلَ في صَدَقةِ التَّطوُّعِ أن يُنَوِّعَها في جهاتِ الخَيرِ ووُجوهِ البِرِّ بحَسَبِ المصلحةِ، ولا ينحَصِرُ في جهةٍ بعَينِها)
[2723] يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (7/81). .
2- وعن
أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((انتهَيتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو جالِسٌ في ظِلِّ الكعبةِ، فلمَّا رآني قال: هم الأخسَرون ورَبِّ الكعبةِ. قال: فجِئتُ حتَّى جلستُ، فلم أتقارَّ [2724] لم أتقارَّ: لم ألبَثْ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/38). أن قُمْتُ، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، فداك أبي وأمِّي، من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالًا، إلَّا من قال هكذا وهكذا وهكذا -من بَينِ يَدَيه ومِن خَلفِه، وعن يمينِه وعن شِمالِه- وقليلٌ ما هم، ما مِن صاحِبِ إبِلٍ ولا بَقَرٍ ولا غَنَمٍ لا يؤدِّي زكاتَها إلَّا جاءت يومَ القيامةِ أعظَمَ ما كانت وأسمَنَه، تنطَحُه بقُرونِها، وتطَؤُه بأظلافِها، كلَّما نَفِدَت أُخراها عادت عليه أُولاها، حتَّى يُقضى بَينَ النَّاسِ)) [2725] أخرجه البخاري (1460، 6638) مفَرَّقًا باختلافٍ يسيرٍ، ومسلم (990) واللفظ له. .
قال
النَّوويُّ: (فيه الحثُّ على الصَّدَقةِ في وجوهِ الخيرِ)
[2726] يُنظَر: ((شرح صحيح مسلم)) (7/73). .
(فقَولُه:
((قال هكذا)) إلخ، كنايةٌ عن التَّصدُّقِ العامِّ في جميعِ جهاتِ الخَيرِ)
[2727] يُنظَر: ((مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للمباركفوري (6/ 293). .
3- وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال:
((بينما نحن في سَفَرٍ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ جاء رجلٌ على راحلةٍ له، قال: فجَعَل يَصرِفُ بَصَرَه يمينًا وشِمالًا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن كان معه فَضلُ ظَهرٍ فلْيَعُدْ به على مَن لا ظَهْرَ له، ومَن كان له فَضلٌ مِن زادٍ فلْيَعُدْ به على مَن لا زادَ له، قال: فذَكَر مِن أصنافِ المالِ ما ذَكَر حتَّى رأينا أنَّه لا حَقَّ لأحَدٍ مِنَّا في فَضلٍ)) [2728] أخرجه مسلم (1728). .
قال
النَّوويُّ: (في هذا الحديثِ: الحَثُّ على الصَّدَقةِ والجُودِ والمواساةِ والإحسانِ إلى الرُّفقةِ والأصحابِ، والاعتناءِ بمصالحِ الأصحابِ، وأمرُ كبيرِ القومِ أصحابَه بمواساةِ المحتاجِ، وأنَّه يُكتفى في حاجةِ المحتاجِ بتعَرُّضِه للعطاءِ وتعريضِه من غيرِ سُؤالٍ)
[2729] يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/33). . وأخبر أبو سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه في نهايةِ هذا الحديثِ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (ذكَرَ من أصنافِ المالِ ما ذَكَر، حتَّى رأينا أنَّه لا حقَّ لأحَدٍ منَّا في فَضل)ٍ، وأصنافُ المالِ كثيرةٌ؛ كالثَّوبِ والنِّعالِ، والقِربةِ والماءِ، والخيمةِ والنَّقودِ ونَحوِها
[2730] يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (6/ 2514). ، حتَّى ظنَّ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم وفَهِموا مِن أمرِه أنَّ الإنسانَ ليس له حقٌّ في إمساكِ ما زاد على حاجتِه من الطَّعامِ والشَّرابِ والرَّحلِ وغيرِ ذلك، بل عليه أن يجودَ به ويبذُلَه للمُحتاجين، وهذا كُلُّه من بابِ الإيثارِ، وهكذا الحُكمُ إذا نزلت حاجةٌ أو مجاعةٌ، في السَّفَرِ أو في الحَضَرِ؛ واسى المسلِمُ بما زاد على كفايةِ تلك الحالِ.
4- عن عُقبةَ بنَ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنه قال: (جاء رجلٌ بناقةٍ مخطومةٍ، فقال: هذه في سبيلِ اللهِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لك بها يومَ القيامةِ سَبعُمائةِ ناقةٍ، كُلُّها مخطومةٌ)
[2731] أخرجه مسلم (1892). .
فأوضح هذا الحديثَ أنَّ الرَّجُلَ بذل وجاد من مالِه بناقةٍ حَسَنةٍ، لها خِطامٌ، وهو قريبٌ من الزِّمامِ، وهو حَبلٌ يُلَفُّ حولَ أنفِ النَّاقةِ يُشَدُّ على أعلى رأسِها لتُقادَ به، وهو دليلٌ على كونِها ناقةً ذَلولًا صالحةً للحَملِ والرُّكوبِ، فأخبر الرَّجُلُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ نَفْسَه جادت بهذه النَّاقةِ لتكونَ صَدَقةً للجهادِ في إعلاءِ كَلِمةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، فأخبره النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنه يُجازى بها يومَ القيامةِ سبعَمائةِ ناقةٍ، كُلُّها مخطومةٌ، وذلك على سبيلِ المضاعفةِ في الأجرِ والثَّوابِ فَضلًا وكَرَمًا من اللهِ سُبحانَه، مِصداقًا لقَولِه تعالى:
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 261] ، ويحتَمِلُ أنَّ له سبعَمائةِ ناقةٍ في الجنَّةِ يتنزَّهُ عليهنَّ ويركبُهنَّ حيث شاء
[2732] يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (13/ 38)، ((الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم)) لمحمد الأمين الهرري (20/ 211). .
6- عن أسماءَ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أنفِقي، ولا تُحصي فيُحصيَ اللهُ عليكِ، ولا توعي فيُوعيَ اللهُ عليكِ)) [2733] أخرجه البخاري (2591) ومسلم (1029). .
والحديثُ معناه الحَثُّ على النَّفقةِ في الطَّاعةِ، والنَّهيُ عن الإمساكِ والبُخلِ، وعن ادِّخارِ المالِ في الوِعاءِ
[2734] ((شرح النووي على مسلم)) (7/ 118). .
7- عن
عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((لا حَسَدَ إلَّا في اثنتينِ: رجُلٍ آتاه اللهُ مالًا فسُلِّط على هلَكَتِه في الحَقِّ، ورجلٍ آتاه اللهُ الحِكمةَ فهو يقضي بها ويُعَلِّمُها)) [2735] أخرجه البخاري (73) ومسلم (816). .
((هَلَكَتِه))، أي: إهلاكِه، ففيه مبالغتانِ: التَّعبيرُ بالتَّسليطِ المقتضي لفِعلِه، وبالهَلَكةِ المُشعِرةِ بفَناءِ الكُلِّ، أي: إنفاقِه،
((في الحَقِّ)) أي: ما يحقُّ فيه إنفاقُ المالِ من القُرَبِ
[2736] ((دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين)) لابن علان (7/ 171). .
8- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ما من يومٍ يُصبِحُ العبادُ فيه إلَّا مَلَكانِ يَنزِلان، فيقولُ أحَدُهما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعطِ مُمسِكًا تَلَفًا)) [2737] أخرجه البخاري (1442) ومسلم (1010). .
قال العُلَماءُ: هذا في الإنفاقِ في الطَّاعاتِ ومكارِمِ الأخلاقِ، وعلى العيالِ والضِّيفانِ والصَّدَقاتِ ونحوِ ذلك، بحيثُ لا يُذَمُّ ولا يُسَمَّى سَرَفًا، والإمساكُ المذمومُ هو الإمساكُ عن هذا
[2738] ((شرح النووي على مسلم)) (7/ 95). .
9- عن أبي أُمامةَ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((يا ابنَ آدَمَ إنَّك أن تَبذُلَ الفَضلَ خَيرٌ لك، وأن تمسِكَه شَرٌّ لك، ولا تُلامُ على كَفافٍ...)) [2739] أخرجه مسلم (1036). .
والحديثُ معناه: إن بذَلْتَ الفاضِلَ عن حاجتِك وحاجةِ عيالِك فهو خيرٌ لك؛ لبقاءِ ثوابِه، وإن أمسَكْتَه فهو شرٌّ لك؛ لأنَّه إن أمسَك عن الواجِبِ استحَقَّ العقابَ عليه، وإن أمسَك عن المندوبِ فقد نقَص ثوابَه وفوَّت مصلحةَ نَفسِه في آخرتِه، وهذا كُلُّه شرٌّ، ومعنى
((لا تُلامُ على كَفافٍ)): أنَّ قَدْرَ الحاجةِ لا لَومَ على صاحِبِه، وهذا إذا لم يتوجَّهْ في الكَفافِ حَقٌّ شَرعيٌّ، كمن كان له نِصابٌ زَكَويٌّ ووجبت الزَّكاةُ بشُروطِها وهو محتاجٌ إلى ذلك النِّصابِ لكَفافِه، وجب عليه إخراجُ الزَّكاةِ، ويُحَصِّلُ كفايتَه من جهةٍ مُباحةٍ
[2740] ((شرح النووي على مسلم)) (7/ 127). .
10- عن الحارِثِ بنِ سُوَيدٍ، قال عبدُ اللهِ: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أيُّكم مالُ وارِثِه أحَبُّ إليه من مالِه؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ، ما منَّا أحدٌ إلَّا مالُه أحَبُّ إليه، قال: فإنَّ مالَه ما قدَّم، ومالَ وارِثِه ما أخَّر)) [2741] أخرجه البخاري (6442). .
(وهذا الحديثُ تنبيهٌ للمُؤمِنِ على أن يُقَدِّمَ من مالِه لآخِرتِه، ولا يكونَ خازِنًا له وممسِكَه عن إنفاقِه في الطَّاعةِ؛ فيَخيبَ من الانتفاعِ به يومَ الحاجةِ إليه)
[2742] ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (29/ 440). .