المَطلَبُ الثَّاني: الأدِلَّةُ على وُجودِ الجِنِّ مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ
قال الدَّمِيرِيُّ: (اعلَمْ أنَّ الأحاديثَ في وُجودِ
الجِنِّ والشَّياطينِ لا تُحصى، وكَذلك أشعارُ العَربِ وأخبارُها، فالنِّزاعُ في ذلك مُكابَرةٌ فيما هوَ مَعلومٌ بالتَّواتُرِ، ثُمَّ إنَّه أمرٌ لا يُحيلُه العَقلُ، ولا يُكذِّبُه الحِسُّ)
[4250] يُنظر: ((حياة الحيوان الكبرى)) (1/296). .
ومن تِلكَ الأحاديثِ:1- عَن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عَنها قالت: قال رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((خُلِقَتِ المَلائِكةُ من نورٍ، وخُلقَ الجانُّ من مارِجٍ من نارٍ، وخُلقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُم )) [4251] رواه مسلم (2996). .
قال
الصَّنعانيُّ: (
((وخُلِقَ الجانُّ)) هوَ أبو
الجِنِّ أو هوَ
إبليسُ.
((من مارِجٍ من نارٍ)) أي: من نارٍ مُختَلِطةٍ بهَواءٍ مُشتَعِلٍ، والمَرْجُ: الِاختِلاطُ، فهوَ من عُنصُرَينِ؛ هَواءٍ ونارٍ)
[4252] يُنظر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) (5/ 504). .
2- عَن عامِرٍ الشَّعبيِّ قال:
((سَألْتُ عَلقَمةَ: هَل كانَ ابنُ مَسعودٍ شَهِدَ مَعَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيلةَ الجِنِّ؟ قال: فقال عَلقَمةُ: أنا سَألتُ ابنَ مَسعودٍ فقُلتُ: هَل شَهدَ أحَدٌ مِنكُم مَعَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيلةَ الجِنِّ؟ قال: لا، ولَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسولِ اللَّهِ ذاتَ لَيلةٍ ففَقَدْناه فالتَمَسْناه في الأوديةِ والشِّعابِ. فقُلنا: استُطيرَ أوِ اغتِيلَ. قال: فبِتْنا بشَرِّ لَيلةٍ باتَ بها قَومٌ، فلَمَّا أصبَحْنا إذا هوَ جاءَ من قِبَلِ حِرَاءَ. قال: فقُلْنا: يا رَسولَ اللَّهِ، فقَدْناكَ فطَلَبْناكَ فلَم نَجِدْك فبِتْنا بشَرِّ لَيلةٍ باتَ بها قَومٌ. فقال: أتاني داعي الجِنِّ فذَهَبْتُ مَعَه فقَرَأتُ عليهمُ القُرآنَ، قال: فانطَلَقَ بنا فأرانا آثارَهم وآثارَ نيرانِهم )) [4253] رواه مسلم (450). .
قال ابن هُبَيرةَ: (في هَذا الحَديثِ دَليلٌ على أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بُعِثَ إلى
الجِنِّ والإنسِ، وكَذا يَنبَغي أن يُعتَقَدَ، ويَنبَغي أن يَكونَ الإنسانُ مُعرَّضًا لإبلاغِ
الجِنِّ إذا أمكَنَه)
[4254] يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (2/ 106). .
3- عَن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ عِفْريتًا مِنَ الجِنِّ تَفَلَّتَ البارِحةَ ليَقطَعَ عَليَّ صَلاتي، فأمكَنَني اللَّهُ مِنه فأخَذْتُه، فأرَدتُ أن أربِطَه على ساريةٍ من سَوارَي المَسجِدِ حَتَّى تَنظُروا إليهِ كُلُّكُم، فذَكَرْتُ دَعوةَ أخي سُلَيمانَ: رَبِّ هَبْ لي مُلْكًا لا يَنبَغي لأحَدٍ من بَعْدي، فرَدَدتُه خاسِئًا )) [4255] رواه البخاري (3423) واللَّفظُ له، ومسلم (541). .
قال
الخَطَّابيُّ: (قَولُه:
((تَفَلَّتَ)) مَعناه: تَعَرَّضَ لي فَلْتةً أي: فجأةً ليَغلِبني على صَلاتي، وفيه دَليلٌ على أنَّ رُؤيةَ البَشَرِ
الجِنَّ غَيرُ مُستَحيلةٍ، و
الجِنُّ أجسامٌ لَطيفةٌ، والجِسمُ وإنْ لَطُفَ فإنَّ دَرَكَه غَيرُ مُمتَنِعٍ أصلًا، وقد رَأينا غَيرَ واحِدٍ من ثِقاتِ أهلِ الزُّهدِ والوَرعِ، وبَلَغَنا عَن غَيرِ واحِدٍ من أصحابِ الرِّياضاتِ وأهْلِ الصَّفاءِ والإخلاصِ من أهلِ المَعرِفةِ يُخبِرونَ أنَّهم يُدرِكونَ أشخاصَهم، فأمَّا قَولُ اللَّهِ تعالى:
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ فإنَّ ذلك حُكمُ الأعَمِّ الأغلَبِ من أحوالِ بني آدَمَ، امتَحَنَهم اللَّهُ بذلك، وابتَلاهُم ليَفزَعوا إليه ويَستَعيذوا به من شَرِّهم، ويَطلُبوا الأمانَ من غائِلَتِهم، ولا يُنكَرُ أن يَكونَ حُكمُ الخاصِّ والنَّادِرِ مِنَ المُصطَفَين من عِبَادِهِ بخِلافِ ذلك)
[4256] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (1/ 399). .
وقال
النَّوَويُّ: (فيه دَليلٌ على أنَّ
الجِنَّ مَوجودونَ وأنَّهم قد يَراهم بَعضُ الآدَميِّينَ، وأمَّا قَولُ اللَّهِ تعالى:
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ فمَحمولٌ على الغالِبِ، فلَو كانَت رُؤيَتُهم مُحالًا لَمَا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما قال من رُؤيَتِهِ إيَّاه، ومن أنَّه كانَ يَربِطُه ليَنظُروا كُلُّهم إليه، ويَلعَبَ به وِلْدانُ أهلِ المَدينةِ، قال القاضي: وقيلَ: إنَّ رُؤيَتَهم على خَلقِهم وصُوَرِهمُ الأصليَّةِ مُمتَنِعةٌ لظاهِرِ الآيةِ إلَّا للأنبياءِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عليهم أجمَعينَ، ومن خُرِقَتْ لَه العادةُ، وإنَّما يَراهم بنو آدَمَ في صوَرٍ غَيرِ صُوَرِهم كما جاءَ في الآثارِ، قُلتُ: هذه دَعوى مُجَرَّدةٌ، فإنْ لَم يَصِحَّ لَها مُستَنَدٌ فهيَ مَردودةٌ)
[4257] يُنظر: ((شرح مسلم)) (5/ 29). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (نَفيُ رُؤيةِ الإنسِ للجِنِّ على هَيئَتِهم لَيسَ بقاطِعٍ مِنَ الآيةِ، بَل ظاهِرُها أنَّه مُمكِنٌ؛ فإنَّ نَفيَ رُؤيَتِنا إيَّاهم مُقَيَّدٌ بحالِ رُؤيَتِهم لَنا ولا يَنفي إمكانَ رُؤيَتِنا لَهم في غَيرِ تِلكَ الحالةِ. ويُحتَمَلُ العُمومُ، وهَذا الَّذي فهمَه أكثَرُ العُلَماءِ، حَتَّى قال
الشَّافِعيُّ: من زَعَمَ أنَّه يَرى
الجِنَّ أبطَلْنا شَهادَتَه، واستَدَلَّ بهذه الآيةِ. واللَّهُ أعلَمُ)
[4258] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/ 459). .
وقال ابنُ الملكِ الرُّوميُّ الحَنفيُّ: (الحَديثُ يَدُلُّ على أنَّ رُؤيةَ
الجِنِّ غَيرُ مُستَحيلةٍ، وقَولُه تعالى:
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الأعرافُ: 27] هوَ حُكمُ الأعَمِّ الأغلَبِ)
[4259] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (2/ 59). .
4- عَن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه قال:
((وكَّلني رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحِفظِ زَكاةِ رَمضانَ، فأتاني آتٍ فجَعَلَ يَحثو مِنَ الطَّعامِ فأخذْتُه، وقُلتُ: واللهِ لأرفَعَنَّك إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: إنِّي مُحتاجٌ، وعليَّ عيالٌ، ولي حاجةٌ شَديدةٌ، قال: فخَلَّيتُ عَنه، فأصبَحْتُ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أبا هُريرةَ، ما فعل أسيرُكَ البارِحةَ؟، قال: قُلتُ: يا رَسولُ اللَّهِ شَكا حاجةً شَديدةً وعِيالًا فرَحمْتُه، فخَلَّيتُ سَبيلَه، قال: أما إنَّه قد كذَبَكَ وسَيَعودُ، فعَرَفْتُ أنَّه سَيَعودُ؛ لقَولِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّه سَيَعودُ، فرَصدْتُه، فجاءَ يَحثو مِنَ الطَّعامِ، فأخَذْتُه، فقُلتُ: لأرفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: دَعْني فإنِّي مُحتاجٌ وعليَّ عيالٌ، لا أعودُ، فرَحِمْتُه، فخَلَّيتُ سَبيلَه، فأصبَحْتُ، فقال لي رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أبا هُريرةَ، ما فعل أسيرُكَ؟، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ شَكا حاجةً شَديدةً وعيالًا، فرَحمْتُه، فخَلَّيتُ سَبيلَه، قال: أمَا إنَّه قد كذَبَكَ وسَيَعودُ، فرَصدَتُه الثَّالِثةَ، فجاءَ يَحثو مِنَ الطَّعامِ، فأخَذتُه، فقُلتُ: لأرفَعَنَّكَ إلى رَسولِ اللَّهِ، وهَذا آخِرُ ثَلاثِ مَرَّاتٍ، أنَّكَ تَزعُمُ لا تَعودَ، ثُمَّ تَعودُ، قال: دَعْني أعلِّمْكَ كَلِماتٍ يَنفَعُكَ اللهُ بها، قُلتُ: ما هوَ؟ قال: إذا أوَيتَ إلى فراشِكَ، فاقرَأْ آيةَ الكُرسيِّ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] ، حَتَّى تَختِمَ الآيةَ، فإنَّكَ لَن يَزالَ عليكَ مِنَ اللَّهِ حافِظٌ، ولا يَقْرَبَنَّكَ شَيطانٌ حَتَّى تُصبِحَ، فخَلَّيتُ سَبيلَه، فأصبَحْتُ، فقالَ لي رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما فعل أسيرُكَ البارِحةَ؟، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، زَعَمَ أنَّه يُعَلِّمُني كَلِماتٍ يَنفَعُني اللَّهُ بها، فخَلَّيتُ سَبيلَه، قال: ما هيَ؟، قُلتُ: قال لي: إذا أويتَ إلى فراشِكَ فاقرَأْ آيةَ الكُرسيِّ مِن أوَّلِها حَتَّى تَختِمَ الآيةَ: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] ، وقال لي: لَن يَزالَ عليكَ مِنَ اللَّهِ حافِظٌ، ولا يَقرَبُكَ شَيطانٌ حَتَّى تُصبِحَ -وكانوا أحرَصَ شَيءٍ على الخَيرِ- فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَا إنَّه قد صَدَقَكَ وهوَ كَذُوبٌ، تَعلَمُ من تُخاطِبُ مُنذُ ثَلاثِ ليالٍ يا أبا هُريرةَ؟، قال: لا، قال: ذاكَ شَيطانٌ)) [4260] أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم (2311) واللَّفظُ له، وأخرجه موصولًا النسائي في ((السنن الكبرى)) (10795)، وابن خزيمة (2424). صححه ابن الملقن في ((البدر المنير)) (6/735)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (11/50)، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (610). .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (في الحَديثِ مِنَ الفَوائِدِ أنَّ
الشَّيطانَ قد يَعلَمُ ما يَنتَفِعُ بهِ المُؤْمِنُ، وأنَّ الحِكْمةَ قد يَتَلَقَّاها الفاجِرُ فلا يَنتَفِعُ بها، وتُؤخَذُ عَنه فيَنتَفِعُ بها، وأنَّ الشَّخصَ قد يَعلَمُ الشَّيءَ ولا يَعمَلُ بهِ، وأنَّ الكافِرَ قد يُصَدِّقُ ببَعضِ ما يُصَدِّقُ بهِ المُؤْمِنُ، ولا يَكونُ بذلك مُؤْمِنًا، وبِأنَّ الكَذَّابَ قد يَصْدُقُ، وبِأنَّ
الشَّيطانَ من شَأنِهِ أن يَكذِبَ، وأنَّه قد يَتَصَوَّرُ ببَعضِ الصُّوَرِ فتُمَكِنُ رُؤيَتُه، وأنَّ قَولَه تعالى:
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ مَخصوصٌ بما إذا كانَ على صورَتِهِ الَّتي خُلِقَ عليها، وأنَّ من أقيمَ في حِفظِ شَيءٍ سُمِّيَ وكيلًا، وأنَّ
الجِنَّ يَأكُلونَ من طَعامِ الإنسِ، وأنَّهم يَظهَرونَ للإنسِ لَكِن بالشَّرطِ المَذكورِ، وأنَّهم يَتَكَلَّمونَ بكِلامِ الإنسِ، وأنَّهم يَسرِقونَ ويَخدَعونَ)
[4261] يُنظر: ((فتح الباري)) (4/ 489). .