المَبحَثُ الثَّاني: الأدِلَّةُ العَقليَّةُ على وُجودِ الجِنِّ
إنَّ عَدَمَ العِلمِ بوُجودِ الشَّيءِ لا يَستَلزِمُ عَدَمَ وُجودِهِ، وفي حَياةِ الإنسانِ أشياءُ كثيرةٌ من حَولِهِ هوَ مُوقِنٌ بوُجودِها ومَعَ ذلك لا يَراها، مِثلُ الكَهرباءِ فهيَ تَسري دونَ أن يَراها، والمَوجاتِ الصَّوتيَّةَ تَنتَقِلُ عَبرَ الأثيرِ فيَلمَسُ آثارَها دونَ أن يَراها
[4262] يُنظر: ((عالم الجن في ضوء الكتاب والسنة)) لعبد الكريم عبيدات (ص: 82)، ((عالم الجن والشياطين)) لعمر الأشقر (ص: 13). .
قال
الجُوينيُّ : (حَقُّ اللَّبِيبِ والمُعتَصِمِ بحَبلِ الدِّينِ أن يُثبِتَ ما قَضى العَقلُ بجِوازِه، ونَصَّ الشَّرعُ على ثُبوتِه، ولا يَبقى لمَن يُنكِرُ
إبلِيسَ وجُنودَه، والشَّياطِينَ المُسخَّرِينَ في زَمَنِ سُلَيمانَ، كما أنبَأ عَنهم آيٌ من كِتابِ اللَّهِ تعالى، لا يُحصيها- مُسكةٌ في الدِّينِ، وعُلقةٌ يَتَشَبَّثُ بها)
[4263] يُنظر: ((الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)) (ص: 343). .
وقال
مُحَمَّد رَشيد رضا : (لَو كانَ الِاستِدلالُ بعَدَمِ رُؤيةِ الشَّيءِ على عَدَمِ وُجودِهِ صَحيحًا وأصلًا يَنبَغي للعُقلاءِ الِاعتِمادُ عليهِ، لَمَا بَحثَ عاقِلٌ في الدُّنيا عَمَّا في الوُجودِ مِنَ المَوادِّ والقُوى المَجهولةِ، ولَمَا كُشِفَت هذه المَيِكروباتُ الَّتي ارتَقَت بها عُلومُ الطِّبِّ والجِراحةِ إلى الدَّرَجةِ الَّتي وصَلَت إليها، ولا تَزالُ قابِلةً للِارتِقاءِ بكَشفِ أمثالِها، ولَمَا عُرِفَتِ الكَهرباءُ الَّتي أحدَثَ كَشْفُها هَذا التَّأثيرَ العَظيمَ في الحَضارةِ، ولَو لَم تُكشَفْ هذه المَيِكروباتُ -وأخبَرَ أمثالَهم بها مُخبِرٌ في القُرونِ الخاليةِ- لعَدُّوه مَجنونًا، وجَزموا باستِحالةِ وُجودِ أحياءٍ لا تُرى؛ إذ يوجَدُ في نُقطةِ الماءِ الصَّغيرةِ ألوفُ الألوفِ مِنها، وأنَّها تَدخُلُ في الأبَدانِ من خُرطومِ البَعوضةِ أوِ البُرغوثِ إلخ، كما أنَّ ما يَجزِمُ بهِ عُلَماءُ الكَهرباءِ من تَأثيرِها في تَكوينِ العَوالِمِ، وما تَعرِفُه الشُّعوبُ الكَثيرةُ الآنَ من تَخاطُبِ النَّاسِ بها مِنَ البِلادِ البَعيدةِ بآلاتِ التِّلغرافِ والتِّليفونِ اللَّاسِلكيَّةِ- كُلُّهُ مِمَّا لَم يَكُن يَتَصَوَّرُه عَقلٌ، وقد وقَعَ بالفِعلِ)
[4264] يُنظر: ((تفسير المنار)) (8/326). .
وقال مُحَمدُ الخَضر حسين: (إنَّما يُنكِرُ
الجِنَّ من جَمُدَ عَقْلُه في دائِرةٍ مِنَ المَحسوساتِ لا يَتَخَطَّاها أُنمُلةً، ونَحنُ نَعلَمُ أنَّ العَقلَ وحدَه لا يَصِلُ إلى العِلمِ بوُجودِهم، كما أنَّه لا يَستَطيعُ إقامةَ الدَّليلِ على نَفْيِهم، بَل إذا سُئِلَ عَنهم، وهوَ صَحيحُ النَّظَرِ، مُجَرَّدٌ من كُلِّ تَقليدٍ، أقَرَّ بإمكانِ وُجودِهم؛ إذ لَيسَ من شَرطِ كُلِّ مَوجودٍ أن يُدرَكَ بإحدى الحَواسِّ الخَمسِ، فقُدرةُ اللَّه تعالى تَسَعُ خَلقًا يَنشَأ من عُنصُرٍ لَطِيفٍ، فلا يَقَعُ عليهِ النَّظَرُ، وإذا أقَرَّتِ العُقولُ إمكانَ شَيءٍ، وأخبَرَ الدِّينُ القائِمُ على البُرهانِ بوُجودِهِ، تَلَقَّينا خَبرَه بالقَبولِ، ولَم نُفَرِّق بَينَه وبَينَ ما أدرَكْناه بالمُشاهَدةِ، أو ثَبَتَ بالأدِلَّةِ العَقليَّةِ مُباشَرةً)
[4265] يُنظر: ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (2/ 158). .
وقال أبو بَكرٍ الجَزائِريُّ: (إنَّ الآثارَ الدَّالَّةَ على وُجودِ
الجِنِّ والشَّياطينِ كثيرةٌ جِدًّا، وحَسْبُنا مِنها ما يَلي:
1- الصَّرَعُ الَّذي لا يَكادُ يَخلو مِنه زَمانٌ ولا مَكانٌ ومُنذُ فجرِ التَّاريخِ، ونَعني بالصَّرَعِ ما كانَ سَبَبُه الأرواحَ الخَبيثةَ، وهيَ أرواحُ الشَّياطين... ذلك الصَّرَعُ الَّذي وقَفَ الطِّبُّ حَتَّى في أيَّامِ تَقدُّمِهِ وقَفَ حيالَه لا يُبدِي ولا يُعيدُ؛ فإنَّه أثَرٌ من آثارِ الجانِّ والشَّياطينِ ودَليلٌ قاطِعٌ على وُجودِهم.
2- تَكَلُّمُ الجانِّ على لسانِ الشَّخصِ الَّذي يَحُلُّ فيه ويَتَلَبَّسُ بهِ، وإخبارُه بأمورٍ لَم يَكُنِ الإنسانُ المُصابُ بهِ يَعرِفُها، حَتَّى إنَّ بَعضَهم ليَتَكَلَّمَ بَلَغاتٍ لَم يَكُنِ المُصابُ يَعرِفُ مِنها حَرفًا واحِدًا!
3- خُروجُ الجانِّ مِنَ الإنسانِ الَّذي حَلَّ فيه ورَكِبَه، بواسِطةِ
الرُّقى من ذَوِي الأرواحِ الطَّيِّبةِ والنُّفوسِ الزَّكِّيَّةِ أو بواسِطةِ الأرواحِ الخَبيثةِ مِنَ البَشَرِ مِمَّن يوالونَ الشَّياطينَ ويَتَعاوَنونَ مَعَهم، وتَصريحُ
الجِنِّ بالخُروجِ وعَدَمِ العَودةِ بالمَصروعِ...
4- ظُهورُ بَعضِ الجانِّ لبَعضِ النَّاسِ ومُخاطَبَتُهم إيَّاهم، وهَذا أيضًا مُتَواتِرُ الأخبارِ)
[4266])) يُنظر: ((عقيدة المؤمن)) (ص: 121). .
انظر أيضا:
عرض الهوامش