الفَرعُ الأوَّلُ: مِن أمثِلةِ الشِّرْكِ الأصغَرِ في الأفعالِ: الرُّقَى الشِّرْكيَّةُ
الرُّقَى هي: كَلِماتٌ يُعاذُ بها لرَفعِ البلاءِ أو دَفْعِه
[375] يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/254)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/236)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/195)، ((عمدة القاري)) للعيني (21/262). والرُّقى تُسَمَّى العزائِمَ. والعزائِمُ في الأصل: رقُىً كانوا يعزِمونَ بها على الجِنِّ، فيقالُ: عَزَم الرَّاقي، كأنَّه أقسَمَ على الدَّاءِ. ينظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (12/400). .
والرُّقيةُ الشَّرعيَّةُ: هي الأذكارُ والأدعيةُ والتعويذاتُ مِن القرآنِ، أو الثابتةُ في السُّنَّةِ، أو الأدعِيَةُ الأُخرى المشروعةُ التي يَقْرَؤُها الإنسانُ على نَفْسِه، أو يَقْرَؤُها عليه غَيرُه؛ ليُعيذَه اللهُ مِن الشُّرورِ بأنواعِها، فيَطلُبُ دَفْعَها قبل وقوعِها، أو رَفْعَها بعد وقوعِها، وغالبًا يَصحَبُ قراءةَ هذه الأذكارِ نَفْثٌ مِن الرَّاقي، وقد تكونُ الرُّقيةُ بالقِراءةِ والنَّفْثِ على بَدَنِ المَرْقِيِّ أو في يَدَيه، ويمسَحُ بهما جسَدَه ومواضِعَ الألَمِ إنْ وُجِدَت، وقد تكونُ بالقراءةِ في ماءٍ ثمَّ يَشرَبُه المَرْقِيُّ، أو يَصُبُّ على بَدَنِه، وبعضُهم يقومُ بكتابةِ الأذكارِ بزَعفرانٍ أو غيرِه على وَرَقٍ أو في إناءٍ، ثمَّ يَغسِلُه بماءٍ، ثمَّ يَسْقيه المريضَ.
وقد أجمَعَ أهلُ العِلمِ على جوازِ الرُّقْيةِ الشَّرعيَّةِ في الجُملةِ.
قال ابنُ رُشدٍ الجَدُّ: (لا اختِلافَ في جوازِ الاستعاذةِ بالقُرآنِ والرُّقيةِ به)
[376] يُنظر: ((المقدمات الممهدات)) (3/465). .
وقال
النَّوويُّ: (قد نقلوا الإجماعَ على جوازِ الرُّقَى بالآياتِ وأذكارِ اللهِ تعالى)
[377] يُنظر: ((شرح مسلم)) (14/168). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (أجمع العُلَماءُ على جوازِ الرُّقى عند اجتماعِ ثلاثةِ شُروطٍ: أن يكونَ بكلامِ اللهِ تعالى أو بأسمائِه وصفاتِه، وباللِّسانِ العَرَبيِّ أو بما يُعرَفُ معناه من غيرِه، وأن يَعتَقِدَ أنَّ الرُّقيةَ لا تؤثِّرُ بذاتِها، بل بذاتِ اللهِ تعالى)
[378] يُنظر: ((فتح الباري)) (10/195). .
وقال
القسطلاني: (جوازُ الرُّقيةِ، لكِنْ بشُروطٍ: أن تكونَ بكَلامِ اللهِ تعالى، أو بأسمائِه وصِفاتِه، وباللِّسانِ العَربيِّ، أو بما يُعرَفُ معناه من غيرِه، وأن يعتَقِدَ أنَّ الرُّقيةَ غَيرُ مُؤَثِّرةٍ بنَفْسِها، بل بتقديرِ اللهِ عزَّ وجَلَّ)
[379] يُنظر: ((إرشاد الساري)) (8/388). .
فيُشترَطُ في الرُّقيةِ أن يعتَقِدَ الرَّاقي والمَرْقِيُّ أنَّ الرُّقيةَ لا تؤثِّرُ بذاتِها، وألَّا يعتَمِدَ عليها المَرْقِيُّ بقَلْبِه، وأن يعتَقِدَ أنَّ النَّفعَ إنَّما هو مِنَ اللهِ تعالى، وأنَّ هذه الرُّقيةَ إنَّما هي سببٌ مِن الأسبابِ المشروعةِ، ويُشتَرَطُ ألَّا تكونَ هذه الرُّقيةُ مِن ساحِرٍ أو متَّهَمٍ بالسِّحرِ.
فإذا اجتَمَعَت هذه الشُّروطُ تكونُ الرُّقيةُ مُستحَبَّةً، وهي من أعظَمِ أسبابِ الوِقايةِ والشِّفاءِ بإذنِ اللهِ تعالى.
ومن الأدِلَّةِ على ذلك:عن
عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّها قالت: (كانَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذَا أوَى إلى فِرَاشِهِ، نَفَثَ في كَفَّيْهِ بقُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ وبِالْمُعَوِّذَتَيْنِ جَمِيعًا، ثُمَّ يَمْسَحُ بهِما وجْهَهُ، وما بَلَغَتْ يَدَاهُ مِن جَسَدِهِ. قَالَتْ
عَائِشَةُ: فَلَمَّا اشْتَكَى كانَ يَأْمُرُنِي أنْ أفْعَلَ ذلكَ به)
[380] أخرجه البخاري (5748). .
وعن
جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: لَدَغَتْ رَجُلًا مِنَّا عَقْرَبٌ، وَنَحْنُ جُلُوسٌ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسولَ اللهِ، أَرْقِي؟ قالَ :
((مَنِ اسْتَطَاعَ مِنكُم أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَ لْ)) [381] أخرجه مسلم (2199). .
وأمَّا الرُّقَى الشِّرْكيَّةُ فهي التي يعتَمِدُ فيها الرَّاقي أو المَرْقيُّ على الرُّقْيةِ فحَسْبُ، فإن اعتَمَد عليها مع اعتقادِه أنَّها سَبَبٌ من الأسبابِ، وأنَّها لا تستَقِلُّ بالتأثيرِ، فهذا شِركٌ أصغَرُ.
وإن اعتَمَد عليها اعتمادًا كُلِّيًّا فاعتَقَد أنَّها تنفَعُ مِن دونِ اللهِ، أو تضَمَّنَت صَرْفَ شَيءٍ مِن العبادةِ لغيرِ اللهِ، كالدُّعاءِ، أو الاستعاذةِ بمخلوقٍ فيما لا يَقدِرُ عليه إلَّا اللهُ؛ فهو مِنَ الشِّرْكِ الأكبَرِ المخرِجِ مِنَ المِلَّةِ.
والرُّقى التي فيها طلاسِمُ، أو ألفاظٌ غيرُ مَفهومةٍ، الغالِبُ أنَّها رُقًى شِرْكيَّةٌ، وبالأخَصِّ إذا كانت من شَخصٍ غيرِ مَعروفٍ بالصَّلاحِ والاستقامةِ على دينِ اللهِ تعالى، أو كانت من كافِرٍ
[382] يُنظر: ((السنة)) للخلال (5/13)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/362)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/195)، ((معارج القبول)) لحافظ الحكمي (2/497)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/208)، ((تسهيل العقيدة الإسلامية)) لعبد الله الجبرين (ص: 397). .
قال
مالِكٌ في الرُّقى بغيرِ العَربيَّةِ: (وما يُدريك لعَلَّه كُفرٌ)
[383] يُنظر: ((المدخل)) لابن الحاج (2/ 323). .
وسُئِلَ عن الرُّقى بالحديدِ والمِلْحِ وعَقدِ الخَيطِ، فكَرِهَ ذلك كُلَّه، وكان العَقدُ عنده في ذلك أعظَمَ كراهيةً
[384] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد الجد (17/165). .
قال
الربيعُ بنُ سُلَيمانَ: (سألتُ
الشَّافعيَّ عن الرُّقْيةِ، فقال: لا بأسَ أن يَرقِيَ الرَّجُلُ بكتابِ اللهِ، وما يعرِفُ من ذِكرِ اللهِ. قُلتُ: أيرقي أهلُ الكتابِ المسلِمين؟ فقال: نعم، إذا رَقَوا بما يُعرَفُ من كتابِ اللهِ، أو ذِكْرِ اللهِ، فقُلتُ: وما الحُجَّةُ في ذلك؟ قال: غيرُ حُجَّةٍ) أي: الحُجَّةُ ليست واحدةً، بل عندنا في ذلك حجَجٌ كثيرةٌ، وذكَرَ بعضَ تلك الحُجَجِ
[385] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (8/ 630). .
وقال
أحمدُ بنُ حنبل: (الرُّقى ما كان مِنَ القُرآنِ فلا بأسَ)
[386] يُنظر: ((مسائل الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه)) رواية الكوسج (9/4712). .
وقال
الخطَّابي: (أمَّا الرُّقى فالمنهيُّ عنه هو ما كان منها بغيرِ لسانِ العَرَبِ فلا يُدرى ما هو، ولعَلَّه قد يُدخِلُه سِحرًا أو كُفرًا، فأمَّا إذا كان مفهومَ المعنى وكان فيه ذِكرُ اللهِ تعالى، فإنَّه مُستحَبٌّ مُتبَرَّكٌ به. واللهُ أعلَمُ)
[387] يُنظر: ((معالم السنن)) (4/ 226). .
وقال
الخطَّابي: (كُرِهَ من الرُّقى ما لم يكُنْ بذِكرِ اللهِ وأسمائِه وبكِتابِه، وباللِّسانِ الذي يُعرَفُ بيانُه، ويُفهَمُ معناه؛ ليكونَ بريئًا من شَوبِ الشِّركِ)
[388] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (3/2132). .
وقال أيضًا: (قد يحتَمِلُ أن يكونَ الذي كُرِهَ من الرُّقيةِ ما كان منها على مَذهَبِ
التَّمائِمِ التي كانوا يتعَلَّقونَها، والعُوَذِ التي كان أهلُ الجاهليَّةِ يتعاطَونَها يَزعُمون أنَّها ترفَعُ عنهم الآفاتِ، ويَرَونَ مُعظَمَ السَّبَبِ في ذلك من قِبَلِ
الجِنِّ ومَعونتِهم، وهذا النوعُ من الرُّقى محظورٌ على أهلِ الدِّينِ، محرَّمٌ عليهم التصديقُ بها والاعتقادُ لشَيءٍ منها)
[389] يُنظر: ((أعلام الحديث)) (3/ 2117). .
وقال أبو العباس القُرطبيُّ: (جازت الرُّقيةُ مِن كُلِّ الآفاتِ؛ مِن الأمراضِ والجِراحِ والقُروِح، والحُمَةِ، والعَينِ، وغيرِ ذلك؛ إذا كان الرُّقَى بما يُفهَمُ، ولم يكُنْ فيه شِركٌ ولا شيءٌ ممنوعٌ، وأفضَلُ ذلك وأنفَعُه: ما كان بأسماءِ اللهِ تعالى وكَلامِه، وكلامِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[390] يُنظر: ((المفهم)) (5/581). .
وقال أيضًا: (أمَّا الرُّقى والاسترقاءُ، فما كان منه من رُقى الجاهليَّةِ أو بما لا يُعرَفُ، فواجِبٌ اجتنابهُ على سائِرِ المسلِمين)
[391] يُنظر: ((المفهم)) (1/466). .
وقال الشبليُّ: (عامَّةُ ما بأيدي النَّاسِ مِن العزائِمِ والطَّلاسِمِ والرُّقَى: لا يُفقَهُ بالعَربيَّةِ معناها؛ ولهذا نهى عُلَماءُ المسلمينَ عن الرُّقى غيرِ المفهومةِ المعنى؛ لأنَّها مَظِنَّةُ الشِّرْكِ وإنْ لم يَعرِفِ الرَّاقي أنَّها شِرْكٌ، ومن رَتَع حولَ الحِمى أوشَكَ أن يقَعَ فيه، وفي الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه رَخَّص في الرُّقى ما لم يكُنْ شِرْكًا
[392] أخرجه مسلم (2200) من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه بلفظ: ((لا بأس بالرقى، ما لم يكن فيه شرك)). ... وفي التطَبُّبِ والاستشفاءِ بكِتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ غنًى تاٌّم، ومَقنَعٌ عامٌّ، وهو النُّورُ والشِّفاءُ لِما في الصُّدورِ، والوِقاءُ الدَّافِعُ لكُلِّ محذورٍ، والرَّحمةُ للمؤمِنينَ مِنَ الأحياءِ وأهلِ القُبورِ)
[393] يُنظر: ((آكام المرجان في أحكام الجان)) (ص: 155). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (مهما كان مِنَ الرُّقى يؤدِّي إلى الشِّركِ يُمنَعُ، وما لا يُعقَلُ معناه لا يؤمَنُ أن يؤدِّي إلى الشِّركِ؛ فيمتَنِعُ احتياطًا)
[394] يُنظر: ((فتح الباري)) (10/195). .
وقال
المناوي في شَرحِ حديثِ
((لا بأسَ بالرُّقَى ما لم يكُنْ فيه شِرْكٌ )) [395] أخرجه مسلم (2200) مطولاً من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه. : (أي: شيءٌ يوجِبُ اعتقادَ الكُفرِ، أو شيءٌ من كلامِ أهلِ الشِّركِ الذي لا يوافِقُ الأُصولَ الإسلاميَّةَ؛ فإنَّ ذلك محرَّمٌ، ومِن ثَمَّ منعوا الرُّقى بالعبرانيِّ والسريانيِّ ونحوِ ذلك مما جُهِلَ معناه؛ خَوفَ الوقوعِ في ذلك)
[396] يُنظر: ((فيض القدير)) (1/558). .
وقال ولي الله الدهلوي: (أمَّا الرُّقى فحقيقتُها التمَسُّكُ بكَلِماتٍ لها تحقُّقٌ في المِثلِ وأثَرٌ، والقواعِدُ المِلِّيَّةُ لا تدفَعُها ما لم يكُنْ فيها شِركٌ، لا سِيَّما إذا كان من القُرآنِ أو السُّنَّةِ أو ممَّا يُشبِهُهما من التضَرُّعاتِ إلى اللهِ)
[397] يُنظر: ((حجة الله البالغة)) (2/300). .
وقال نعمانُ خير الدين الألوسي: (في الصَّحيحِ عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه قال:
((لا بأسَ بالرُّقى ما لم تكُنْ شِركًا)) [398] أخرجه مسلم (2200) مطولاً باختلاف يسير من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه. ، فنهى عن الرُّقى التي فيها شِركٌ، كالتي فيها الاستغاثةُ ب
الجِنِّ؛ ولهذا نهى العُلَماءُ عن التعازيمِ والأقسامِ التي يستعمِلُها بعضُ النَّاسِ في حَقِّ المصروعِ وغَيرِه، التي تتضَمَّنُ الشِّركَ، بل نُهُوا عن كُلِّ ما لا يُعرَفُ معناه؛ خشيةَ أن يكونَ فيه شِركٌ، بخلافِ ما كان من الرُّقى المشروعةِ؛ فإنَّه جائِزٌ)
[399] يُنظر: ((جلاء العينين)) (ص: 545). .
ومِنَ الأدِلَّةِ على تحريمِ جَميعِ الرُّقى الشِّرْكيَّةِ:1- عن عَوفِ بنِ مالِكٍ الأشجعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كُنَّا نَرْقي في الجاهِليَّةِ، فقُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، كيف ترى في ذلك؟ فقال:
((اعرِضُوا عليَّ رُقاكم، لا بأْسَ بالرُّقى، ما لم يكُنْ فيه شِرْكٌ)) [400] أخرجه مسلم (2200). .
2- عن زَينبَ امرأةِ
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قالت: كان عبدُ اللهِ إذا جاء من حاجةٍ فانتهى إلى البابِ، تنَحْنَحَ وبَزَق؛ كراهيةَ أن يَهجُمَ مِنَّا على شَيءٍ يَكرَهُه، وإنَّه جاء ذاتَ يومٍ، فتنَحْنَحَ، قالت: وعندي عجوزٌ تَرْقيني من الحُمْرةِ
[401] الحُمْرَةُ: مَرَضٌ وَبائيٌّ مِن جِنْسِ الطَّواعِينِ يُسَبِّبُ حُمَّى وبُقَعًا حمراءَ في الجِلْدِ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (11/ 85)، ((شرح سنن ابن ماجه)) للهرري (20/431). ، فأدخَلْتُها تحتَ السَّريرِ، فدَخَل، فجَلَس إلى جنبي، فرأى في عُنُقي خَيطًا، قال: ما هذا الخَيطُ؟ قلتُ: خَيطٌ أُرْقِيَ لي فيه، فأخَذَه فقَطَعَه، ثمَّ قال: إنَّ آلَ عبدِ اللهِ لأغنياءُ عن الشِّركِ! سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((إنَّ الرُّقى، والتَّمائِمَ، والتِّوَلَةَ: شِرْكٌ))، فقُلتُ له: لمَ تقولُ هذا وقد كانت عيني تَقذِفُ، فكُنتُ أختَلِفُ إلى فلانٍ اليَهوديِّ يَرْقِيها، وكان إذا رقاها سكَنَت؟! قال: إنَّما ذلك عَمَلُ
الشَّيطانِ، كان يَنْخَسُها بيَدِه، فإذا رَقَيْتِها كَفَّ عنها، إنَّما كان يكفيكِ أن تقولي كما قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أذهِبِ البَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أنت الشَّافي، لا شِفاءَ إلَّا شِفاؤُك، شِفاءً لا يُغادِرُ سَقَمًا )) [402] أخرجه أبو داود (3883)، وابن ماجه (3530)، وأحمد (3615) واللفظ له. صحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (6090)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (9/453)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3530)، وحَسَّنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (840)، وقال شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3883): المرفوعُ منه صحيحٌ لغَيرِه. .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (
التَّمائِمُ جَمعُ تميمةٍ، وهي خَرَزٌ أو قِلادةٌ تُعَلَّقُ في الرَّأسِ، كانوا في الجاهِليَّةِ يعتَقِدونَ أنَّ ذلك يدفَعُ الآفاتِ. والتِّوَلَةُ -بكَسْرِ المثَنَّاةِ، وفَتحِ الواوِ واللَّامِ مخفَّفًا-: شَيءٌ كانت المرأةُ تجلِبُ به محبَّةَ زَوْجِها، وهو ضَرْبٌ مِنَ السِّحْرِ، وإنَّما كان ذلك مِنَ الشِّرْكِ؛ لأنَّهم أرادوا دَفْعَ المضارِّ وجَلْبَ المنافِعِ من عندِ غيرِ اللهِ)
[403] يُنظر: ((فتح الباري)) (10/ 196). .
وقال
محمَّدُ بنُ عبدِ الوَهَّابِ: (الرُّقى: هي التي تُسَمَّى العزائِمَ، وخَصَّ منها الدَّليلُ ما خلا مِنَ الشِّرْكِ؛ فقد رَخَّص فيه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنَ العَينِ والحُمَةِ)
[404] يُنظر: ((كتاب التوحيد)) (ص: 29). .
وأمَّا ما يُسمَّى بالنُّشْرةِ فقد قال عنها
ابنُ الأثيرِ: (النُّشْرةُ -بالضَّمِّ-: ضَربٌ من الرُّقْيةِ والعِلاجِ يُعالَجُ به من كان يُظَنُّ أنَّ به مسًّا مِنَ
الجِنِّ، سُمِّيَت نُشرةً؛ لأنَّه يُنشَرُ بها عنه ما خامَرَه مِنَ الدَّاءِ، أي: يُكشَفُ ويُزالُ)
[405] يُنظر: ((النهاية)) (5/54). .
والمرادُ هنا: حَلُّ السِّحرِ عن المسحورِ، وهي نوعانِ:
الأوَّلُ: حَلُّ السِّحرِ بالأدعِيَةِ والرُّقَى المباحةِ مِنَ القُرآنِ والسُّنَّةِ؛ فهذا جائِزٌ.
الثَّاني: حَلُّ السِّحرِ عن المسحورِ بسِحرٍ مِثْلِه، وهو محَرَّمٌ، وهو كُفرٌ أصغَرُ؛ حيثُ يتقَرَّبُ النَّاشِرُ والمنتَشِرُ إلى
الشَّيطانِ بما يحِبُّ؛ حتى يبطِلَ عَمَلَه عن المسحورِ.
قال
ابنُ مسعودٍ: (إنَّ اللهَ لم يجعَلْ شِفاءَكم فيما حَرَّمَ عليكم)
[406] أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجزم قبل حديث (5614)، وأخرجه موصولًا: الطبراني (9/403) (9716)، والحاكم (7509). صحَّحه الألباني في ((غاية المرام)) (30)، وذكَرَ ابنُ حجر في ((التلخيص الحبير)) (4/1397) أنَّه ورد من طُرُقٍ صحيحةٍ، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (5/89): رجالُه رجالُ الصَّحيحِ. وقال محمد ابن عبد الهادي في ((المحرر)) (440): ذكره البخاريُّ، وقد رُوِيَ من حديثِ أمِّ سَلَمةَ مرفوعًا. .
فحَلُّ السِّحرِ بالسِّحرِ مِن عَمَلِ
الشَّيطانِ، وعَمَلُ
الشَّيطانِ مُحَرَّمٌ، فلا يكونُ فيه شفاءٌ، وتوقُّعُ أنَّ فيه شفاءً عادةً لا يجوزُ؛ لأنَّه يَحرُمُ التداوي بالمحَرَّماتِ، ولا يقالُ: إنَّ ذلك للضَّرورةِ؛ لأنَّ محَلَّ الضَّرورةِ ما فيه نَفعٌ يَدفَعُها، والسِّحرُ ليس فيه نفعٌ حقيقيٌّ يدفَعُ تلك الضَّرورةَ، وتجويزُ استِعمالِ السِّحرِ للعلاجِ يَحمِلُ ضِمنًا تجويزَ تعَلُّمِه والعَمَلِ به، ويفتَحُ البابَ للسَّحَرةِ، فيَسْحَرون النَّاسَ لِيَلْجَؤوا إليهم مِن أجْلِ العلاجِ، فيزدادُ السَّحَرةُ شَرًّا وإفسادًا، مع أنَّ الشَّرعَ يَحكُمُ بقَتْلِ السَّاحِرِ
[407] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/220)، ((المغني)) لابن قدامة (12/304)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (6/558)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 356)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/57)، ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/280)، ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (2/177)، ((المدخل لدراسة العقيدة الإسلامية)) لإبراهيم البريكان (ص: 145). .