المطلبُ الرابعُ: القواعِدُ العامَّةُ
الكُتُبُ المُنَزَّلةُ مُتَّفِقةٌ على تقريرِ القواعدِ العامَّةِ التي لا بُدَّ أن تَعِيَها البَشَريَّةُ.
ومن ذلك: قاعِدةُ الثَّوابِ والعِقابِ، وهي أنَّ الإنسانَ يحاسَبُ بعَمَلِه، فيُعاقَبُ بذُنوبِه، ولا يؤاخَذُ بذُنوبِ غيرِه، ويُثابُ بسَعْيِه لا بسَعْيِ غَيرِه.
قال اللهُ تعالى:
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم: 36، 41].
قال النَّسفيُّ: (أعلَمَ بما في صُحُفِ موسى وإبراهيمَ، فقال
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى... والمعنى أنَّه لا تَزِرُ... أي: أنْ لَا تحمِلُ نَفسٌ ذَنْبَ نَفسٍ
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى إلَّا سَعْيُه، وهذه أيضًا ممَّا في صُحُفِ إبراهيمَ وموسى...
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى أي: يَرى هو سَعْيَه يومَ القيامةِ في ميزانِه
ثُمَّ يُجْزَاهُ ثمَّ يُجْزى العَبدُ سَعْيَه... ثمَّ فَسَّره بقَولِه:
الْجَزَاءَ الْأَوْفَى أو أبدَلَه عنه
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى هذا كُلُّه في الصُّحُفِ الأُولى)
[99] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/ 396). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ: (قَولُه تعالى:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] يدُلُّ الكلامُ على أنَّه لا يَظلِمُ مُحسِنًا فيَنقُصَه من إحسانِه، أو يجعَلَه لغَيرِه، ولا يَظلِمُ مُسيئًا فيَجعَلَ عليه سَيِّئاتِ غَيرِه، بل لها ما كَسَبت وعليها ما اكتَسَبت. وهذا كقَولِه:
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى فأخبر أنَّه ليس على أحَدٍ مِن وِزْرِ غَيرِه شَيءٌ، وأنَّه لا يَستَحِقُّ إلَّا ما سعاه)
[100] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (18/ 142). .
ومن ذلك: الحَثُّ على تزكيةِ النَّفسِ، وبيانُ أنَّ الفلاحَ الحقيقيَّ لا يتحقَّقُ إلَّا بتزكيتِها بالطَّاعةِ، والعُبوديَّةِ للهِ تعالى، وإيثارِ الآجِلِ على العاجِلِ.
قال اللهُ سُبحانَه:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى: 14-19] .
قال قَتادةُ: (
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى [الأعلى: 18] تتابَعَت كُتُبُ اللهِ -كما تَسمَعون- أنَّ الآخِرةَ خَيرٌ وأبقى)
[101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 324)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (10/ 3419). .
وقال
السَّعديُّ: (
إِنَّ هَذَا المذكورَ لكم في هذه السُّورةِ المباركةِ من الأوامِرِ الحَسَنةِ، والأخبارِ المُستَحْسَنةِ
لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى اللَّذِينِ هما أشرَفُ المُرسَلينَ سِوى النَّبيِّ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
فهذه أوامِرُ في كُلِّ شريعةٍ؛ لكَونِها عائدةً إلى مصالحِ الدَّارَينِ، وهي مصالحُ في كُلِّ زَمانٍ ومكانٍ)
[102] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 921). .
وقال
ابنُ عاشورٍ: (الإشارةُ بكَلِمةِ
هَذَا إلى مجموعِ قَولِه:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلى قَولِه:
وَأَبْقَى فإنَّ ما قبل ذلك من أوَّلِ السُّورةِ إلى قَولِه:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ليس ممَّا ثبت معناه في صُحُفِ إبراهيمَ وموسى عليهما السَّلامُ)
[103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 291). .
ومن تلك القواعِدِ: أنَّ الذي يستحِقُّ وِراثةَ الأرضِ هم عِبادُ اللهِ الصَّالِحونَ.
قال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (يقولُ تعالى مخبرًا عمَّا حَتَّمه وقضاه لعبادِه الصَّالحينَ من السَّعادةِ في الدُّنيا والآخِرةِ، ووِراثةِ الأرضِ في الدُّنيا والآخرةِ، كقَولِه تعالى:
إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] ... وأخبر تعالى أنَّ هذا مكتوبٌ مسطورٌ في الكُتُبِ الشَّرعيةِ والقَدَريةِ، فهو كائِنٌ لا محالةَ؛ ولهذا قال تعالى:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105] ، قال الأعمَشُ: سألتُ سَعيدَ بنَ جُبَيرٍ عن قَولِه تعالى:
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105] ، فقال: الزَّبُورُ: التوراةُ والإنجيلُ والقُرْآنُ. وقال مجاهِدٌ: الزَّبورُ: الكِتابُ... وقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ: الذِّكرُ: الذي في السَّماءِ)
[104] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/ 384). .
وقال
السَّعديُّ: (
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ وهو الكِتابُ المزبورُ، والمرادُ: الكُتُبُ المُنَزَّلةُ، كالتوراةِ ونحوِها
مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي: كتَبْناه في الكُتُبِ المُنَزَّلةِ بَعْدَ ما كتبنا في الكِتابِ السَّابِقِ، الذي هو اللَّوحُ المحفوظُ، وأمُّ الكِتابِ الذي توافِقُه جميعُ التقاديرِ المتأخِّرةِ عنه، والمكتوبُ في ذلك:
أَنَّ الْأَرْضَ أي: أرضَ الجنَّةِ
يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ الذين قاموا بالمأموراتِ واجتَنَبوا المنهِيَّاتِ، فهم الذين يُورِثُهم اللهُ الجَنَّاتِ، كقَولِ أهلِ الجَنَّةِ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ [الزمر: 74] ، ويحتَمِلُ أنَّ المرادَ الاستِخلافُ في الأرضِ، وأنَّ الصَّالحينَ يمكِّنُ اللهُ لهم في الأرضِ، ويُوَلِّيهم عليها، كقَولِه تعالى:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 55] الآية)
[105] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 531). .
ومن ذلك: أنَّ العاقِبةَ للمُتَّقِينَ.
قال اللهُ تعالى:
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] .
قال
ابنُ رَجَبٍ: (لَمَّا افترق بنو آدم وصاروا فِرَقًا شَتَّى بين مُؤمِنٍ وكافرٍ وبَرٍّ وفاجِرٍ، أرسل اللهُ الرُّسُلَ وأنزل معهم الكُتُبَ، وأقام بهم الحُجَجَ؛ لئلَّا يكونَ للنَّاسِ على اللهِ حُجَّةٌ بعد الرُّسُلِ، وأمَرَ عِبادَه المُؤمِنين بدعوةِ الكافِرينَ، وشرع جهادَهم بالسَّيفِ والسِّنانِ، وبإقامةِ الحُجَجِ والبراهينِ، وجعل العاقِبةَ لأهلِ التقوى وأتباعِ المُرسَلين، وسَلَّط على من استنكف عن عبادتِه واستكبر عنها جُنْدَه الغالِبين، حتى صاروا عبيدًا للعبيدِ عُقوبةً على امتناعِهم من عبادةِ رَبِّ العالَمين، وأورث المُؤمِنين ما كان خَوَّلهم من الأموالِ والأولادِ والدِّيارِ والأرَضِينَ، كما قال تعالى حاكيًا عن نبيِّه موسى عليه السَّلامُ؛ حيث قال لقَومِه:
اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] ، وقال تعالى مخاطبًا أمَّةَ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55] )
[106]يُنظر: ((الاستخراج لأحكام الخراج)) (ص: 6). .