المطلبُ الثاني: وَحدةُ الغايةِ
الكُتُبُ السَّماويةُ غايتُها واحِدةٌ؛ فكُلُّها تدعو إلى عبادةِ اللهِ وَحْدَه لا شريكَ له، وإلى دينِ الإسلامِ.
قال اللهُ تعالى:
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (إنَّ اللهَ تعالى أخبر في كِتابِه أنَّ الإسلامَ دينُ الأنبياءِ؛ كنُوحٍ وإبراهيمَ ويَعقوبَ وأتباعِهم إلى الحواريِّين، وهذا تحقيقٌ لقَولِه تعالى:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ و
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ.
قال تعالى عن نوحٍ أوَّلِ رَسولٍ بعثه إلى الأرضِ:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 71، 72]، فهذا نوحٌ الذي غَرِق أهلُ الأرضِ بدَعوتِه، وجعل جميعَ الآدميِّين مِن ذريَّتِه يَذكُرُ أنَّه أُمِرَ أن يكونَ من المُسلِمين.
وأمَّا الخليلُ فقال تعالى:
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 127، 128]،
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة: 130 - 132].
فقد أخبر تعالى أنَّه أمر الخليلَ بالإسلامِ، وأنَّه قال: أسلَمْتُ لرَبِّ العالَمين، وأنَّ إبراهيمَ وَصَّى بَنِيه ويعقوبَ وَصَّى بَنِيه ألَّا يَموتُنَّ إلَّا وهم مُسلِمون، وقال تعالى:
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 67، 68].
وقال تعالى عن يُوسُفَ الصِّدِّيقِ بنِ يَعقوبَ إنَّه قال:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101]، وقد قال تعالى عن موسى:
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84] .
وقال عن السَّحَرةِ الذين آمَنوا بموسى:
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 50، 51]، وقال تعالى:
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف: 126].
وقال تعالى في قِصَّةِ سُلَيمانَ
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 30، 31]، و
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 38]، وقال:
وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ [النمل: 42] .
وقال تعالى عن بِلقِيسَ التي آمنت بسُلَيمانَ:
رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [النمل: 44] ، وقال عن أنبياءِ بني إسرائيلَ:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المائدة: 44] ، وقال تعالى عن الحواريِّينَ:
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة: 111] ، وقال تعالى:
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53] .
فهؤلاء الأنبياءُ كُلُّهم وأتباعُهم كُلُّهم يذكُرُ اللهُ تعالى أنَّهم كانوا مُسلِمين، وهذا ممَّا يُبَيِّنُ أنَّ قَولَه تعالى:
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران: 85] ، وقَولَه:
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلَامُ لا يختصُّ بمن بُعِث إليه مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل هو حُكمٌ عامٌّ في الأوَّلِين والآخِرينَ؛ ولهذا قال تعالى:
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء: 125] ، وقال تعالى
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 111، 112])
90.
وقال
ابنُ رجب: (إنَّ اللهَ تعالى كان يتعاهَدُ الخَلْقَ بالأنبياءِ والرُّسُلِ، كُلَّما بَعُدَ عَهدُ نُبُوَّةٍ ورسالةٍ أتبَعَها بأُخرى.
وكان الذي اتَّفَقت عليه دعوةُ جميعِ الأنبياءِ والرُّسُلِ هو دينَ الإسلامِ، كما قال نوحٌ أوَّلُ الرُّسُلِ:
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 72]. وقال الحواريُّون للمَسيحِ وهو آخِرُ أنبياءِ بني إسرائيلَ:
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 52] .
والإسلامُ هو الاستسلامُ والانقيادُ، وهو متضَمِّنٌ لعبادةِ اللهِ وَحْدَه لا شَريكَ له. والعِبادةُ تجمَعُ كمالَ الحُبِّ، وكمالَ الخُضوعِ والذُّلِّ. وعبادةُ اللهِ هي الغايةُ التي لأجْلِها خَلَق الخَلْقَ، وبها سَعِد من سَعِد منهم في الدُّنيا والآخِرةِ... والمقصودُ هاهنا أنَّ جميعَ الرُّسُلِ كان دينُهم الإسلامَ؛ ولهذا ثبت في «الصَّحيحِ» عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((إنَّا -مَعاشِرَ الأنبياءِ- دينُنا واحِدٌ)) [91] أخرجه البخاري (3443)، ومسلم (2365) بنحوه من حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ولفظ البخاري: (( ..والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد)) [92] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/ 556). .