غريبُ الكَلِماتِ:
أَحَسَّ: عَلِم ووجَد، أو رأى وسمِع، والإحساس: العِلم بإحدى الحواسِّ؛ وعبَّر بذلك لأنَّه قد ظهَر منهم الكفرُ ظهورًا بان للحِسِّ، فضلًا عن الفَهم يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 52)، ((المفردات)) للراغب (ص: 231)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 45)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 124). .
الْحَوَارِيُّونَ: جمْع حوارِيٍّ، وهمْ أصفياءُ عِيسى عليه السَّلام وشِيعتُه وناصِرُوه، وخُلاصةُ أصحابِه، وشاعَ استعماله في الَّذين خَلَصوا وَأَخْلصُوا فِي التَّصْدِيق بالأنبياءِ ونُصرتِهم؛ قيل: سمُّوا بذلك؛ لأنَّهم كانوا يُحوِّرون الثِّياب، أي: يُبيِّضونها، واشتقاقُهُ من حُرْتُ الثوبَ، أي: أَخْلَصْتُ بياضَه بالغَسْل، ومنه يُقال للدَّقيق الأبيضِ النَّقيِّ: حواري. وقيل: اشتقاقُه مِن حارَ يحورُ إذا رجَع، فكأنَّهم الرَّاجعونَ إلى الله، وقيل: هو مُشتَقٌّ مِن نقاء القَلْبِ وخُلوصِه وصِدْقه يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 464)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 185)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/116)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 45)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/265)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/209)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 124). .
وَمَكَرُوا: المكر: صرْفُ الغيرِ عمَّا يَقصِده بحيلةٍ، وأصل المكر: الاحتيالُ والخِداع يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/345)، ((المفردات)) للراغب (ص: 772). .
مُشكِلُ الإعرابِ:
قوله: مَنْ أنْصارِي إِلَى اللهِ:
إِلى اللهِ: الجارُّ والمجرورُ في مَوضِعِ الحالِ، وتَتعلَّق إِلَى بمحذوفٍ، والتقدير: مَن أنصاري مُضافِينَ إلى اللهِ، أو إلى أَنصارِ الله. وقيل: إنَّ إِلَى بمعنى اللام، أي: مَنْ أنصاري للهِ، كقوله: يَهْدِي إِلَى الحَقٍّ [يونس: 35] أي: للحقِّ. وقيل: إنَّ إلِى بمَعْنى (مَعَ)، أي: مَن أنصاري مع اللهِ، وقيل غير ذلك يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/264)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/207- 208). .
المَعنَى الإجماليُّ:
يُخبِرُ الله تبارَك وتعالَى أنَّ عيسى عليه السَّلام لَمَّا وجَدَ من بني إسرائيل إعراضًا عن دعوتِه, وعلِم بكُفرهم بنبوَّته، استنصرَ أصحابَه قائلًا: مَن يُعاونني ويَنهضُ معي بالدَّعوة إلى الله ونُصرةِ دِينه، فأجابه صفوةُ أصحابه بأنَّهم أنصارُ دِين الله تبارَك وتعالَى, وأعْلنوا إيمانهم, وأَشهَدوا عيسى عليه السَّلام على إسلامِهم، ودعَوْا ربَّهم متوسِّلين بإيمانهم بما أنزل، واتِّباعهم لعيسى عليه السَّلام، أنْ يَكتُبَهم مع مَن شهِد له بالوحدانية, ولرُسلِه بالصِّدق, واتَّبَعوا أوامرَه, واجتنَبوا نواهيَه.
ثمَّ يُخبر تبارَك وتعالَى عن مَكرِ مَن كَفَر بعيسى عليه السَّلام مِن بني إسرائيل وتَمالُئِهم على قَتْله, ومَكْرِه بهم مُقابلةً لمكرهم؛ حيث ألْقى شَبَهَ عيسى عليه السَّلام على رجلٍ آخرَ، فقتلوه ظانِّين أنَّه هو, فكان مكرُ الله أقوى من مَكرِهم وأشدَّ، ثمَّ يذكر قوله لعيسى، أنَّه متوفِّيه وفاةَ نوم, ورافعُه إليه برُوحه وبدنِه, ومُخرِجه من بين الَّذين كفروا، ومُنجِّيه منهم, وأنَّه سيجعل الَّذين اتَّبعوه فوقَ الَّذين كفروا بالحُجَّة والبرهان، وبالعزَّة والغَلَبةِ إلى يومِ القيامة, وأنَّ إليه المصيرَ والمرجعَ فيَقضي بينهم؛ فالَّذين كفروا يُعذِّبهم عذابًا أليمًا في الدُّنيا والآخرة, أمَّا عذابُ الدُّنيا فما أَقدَرَه عليهم من قتْلٍ وسَبْيٍ وذِلَّة, وضِيقٍ وضنكٍ وغيره! وأمَّا عذابُ الآخرة فبِنَارِ جهنَّم, وليس لهم مَن يَنصرُهم, أو يمنع عنهم العذابَ الأليم.
وأمَّا أهلُ الإيمانِ والعملِ الصالح فأولئك يُوفِّيهم أجْرَهم دون نقْصٍ: في الدُّنيا بالنَّصرِ والتَّمكين, وفي الآخِرَة بالجنَّة والرِّضوان من الله تبارك تعالى, واللهُ لا يحبُّ الظَّالمين؛ فكيف يظلِمُ خَلْقَه؟!
ثمَّ يقول اللهُ لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ هذه الأنباء والقصصَ الَّتي أخبر الله بها عن عيسى عليه السَّلام وأمِّه مريم نتلوها عليك- يا محمَّدُ- وهي من العلامات والبراهين الدَّالَّة على صِدقِك ونبوَّتك، ومن القُرْآن المُحكَم المتقَن.
تفسير الآيات:
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ
أي: فلمَّا وجَد عيسى عليه السَّلام من بني إسرائيل- الَّذين أُرسِل إليهم- التَّكذيبَ به، ورأى الإعراضَ عنه والجَحْد لنبوَّته، والصَّدَّ عن دعوتِه، قال: مَن أعواني في الدَّعوة إلى اللهِ ونُصرةِ دِينه، ومَن يُضيفُ نُصرتَه ويَضمُّها إلى نُصرةِ الله لي يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/442)، ((تفسير القرطبي)) (4/97)، ((تفسير ابن كثير)) (2/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 132)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/255). قبل هذه الآيةِ محذوفٌ به يتمُّ اتِّساق الآيات، تقديره: فجاء عيسى عليه السلام كما بَشَّر الله به، فقال جميعَ ما ذُكر لبني إسرائيل، فَلَمَّا أَحَسَّ.... ينظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/442)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/254). ؟
قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ
أي: قال الأنصارُ مِن أصحابِ عيسى عليه السَّلام: نحن أنصارُ دِين الله يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (4/97)، ((تفسير ابن كثير)) (2/46)، ((تفسير السعدي)) (ص: 132). .
آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
أي: آمنَّا بالله، واشهَدْ- يا عيسى- بأنَّنا مسلِمون ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/444)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/441)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/305). .
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ
أي: قال الحواريُّون أيضًا: يا ربَّنا، آمنَّا بالإنجيل الَّذي أَنزلتَ على عيسى عليه السَّلام ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/445)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/441)، ((تفسير ابن عطية)) (1/443). .
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ
أي: واتَّبعنا رسولَك عيسى عليه السَّلام ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/445)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/441)، ((تفسير ابن عطية)) (1/443)، ((تفسير القرطبي)) (4/98). .
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ
أي: أَثبِتْ أسماءَنا مع أسماء الَّذين شهِدوا لك بالوَحْدانيَّة، ولرُسلِك بالصِّدق، ولدِينك بأنَّه الحقُّ، واتَّبَعوا أمرَك ونهيَك- ومنهم أمَّةُ محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فاجعَلْنا في عِدادِهم ومعهم؛ لنفوزَ بمِثْلِ ما فازوا به ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/445 الواحد 1/441 السعدي (ص: 132، 967)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/307). .
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ
أي: ومكَر الَّذين كفَروا من بني إسرائيل بعيسى عليه السَّلام، فحاوَلوا قَتْلَه مُتحيِّلين على ذلك، ومَكَر اللهُ بهم؛ فألْقى شَبَهَ عيسى عليه السَّلام على رَجُلٍ آخرَ، فأَخَذوه وقتَلوه، ظنًّا منهم أنَّه عيسى عليه السَّلام ينظر: ((تفسير ابن جرير))، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/441)، ((تفسير ابن عطية)) (1/443) وعزاه لجمهور المفسرين، ((تفسير ابن كثير)) (2/46)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/201). .
وبَيَّن اللهُ تعالى مكرَهم في قوله: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء: 157] ، وبَيَّن مكرَه بهم في قوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء: 157] ، وقوله: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 157-158] الآيةَ يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/201). .
وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
أي: أقواهم في المكرِ بمن يستحقُّ المكرَ، وأعلمُ بالأسبابِ الَّتي تُحيطُ بأعدائِه، وأشدُّ بطشًا، وأنفَذُ إرادةً يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/443)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/257)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/317). قال ابنُ عاشور: (ويجوز أن يكون معنى خَيْرُ الْمَاكِرِينَ: أنَّ الإملاءَ والاستدراج، الذي يُقدِّره للفجَّار والجبابرة والمنافقين... هو خيرٌ محضٌ لا يترتَّب عليه إلَّا الصَّلاح العام، وإنْ كان يؤذي شخصًا أو أشخاصًا، فهو من هذه الجهة مجرَّدٌ عمَّا في المكر من القُبح؛ ولذلك كانتْ أفعالُه تعالى منزهةً عن الوصف بالقُبح أو الشناعة؛ لأنَّها لا تقارنها الأحوالُ التي بها تقبح بعضُ أفعال العباد من دلالةٍ على سفاهة رأي، أو سوء طويَّة، أو جُبن، أو ضَعْف، أو طَمَع، أو نحو ذلك، أي: فإنْ كان في المكر قُبح، فمكرُ الله خيرٌ محض، ولك على هذا الوجهِ أن تجعل خَيْرُ بمعنى التفضيل وبدونه) ((تفسير ابن عاشور)) (3/257). .
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
أي: واذكُرْ ينظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/444)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/257)، ويُحتمل أن تكون (إذ) متعلِّقة بالمكر يَعني: ومَكَرَ الله حين قال لعيسى... واختاره ابن جرير في ((تفسيره)) (5/447). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/321). إذ قال اللهُ لعيسى عليه السَّلام: يا عيسى، إنِّي مُتوفِّيك وفاةَ نومٍ ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/47)، ((تفسير سورة آل عمران)) لابن عثيمين (1/339). والقول بأنَّ المراد بالوفاة هنا: النوم، هو اختيارُ الأكثر كما ذكَر ابن كثير. وممَّن قال بهذا القول من السلف: الربيع. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/448). وقيل: المراد قَبْضُه مِن الأرض حيًّا برُوحه وجسدِه دونَ نومٍ أو موتٍ. وهذا اختيارُ ابن جرير في ((تفسيره)) (5/450)، والواحدي في ((الوجيز)) (ص: 213)، والقرطبي في ((تفسيره)) (4/100). وممَّن قال بنحو هذا القولِ من السَّلف: الحسن، ومطر الورَّاق، وابن جريج، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وابن زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/448). وقيل: هذا مِن المقدَّم الذي معناه التَّأخيرُ، والمؤخَّر الذي معناه التقديمُ، والمعنَى: إذ قال اللهُ: يا عيسى إنِّي رافعُك إليَّ ومطهِّرك مِن الذين كفَروا، ومُتوفِّيك بعدَ إنْزالي إيَّاك إلى الدُّنيا. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/450). وقيل غير ذلك. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/132-136). .
كما في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام: 60] ، وقوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر: 42] .
وَرَافِعُكَ إِلَيَّ
أي: ورافعُك برُوحِك وبَدَنِك إلى السَّماء ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/442)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/322). ويُنظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (4/323). .
كما قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء: 157-159] .
وعن أبي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: ((والَّذي نَفْسِي بِيَدِه، لَيُوشِكَنَّ أنْ يَنزلَ فيكم ابنُ مَرْيَمَ صَلَّى الله عليه وسَلَّم حَكَمًا مُقْسِطًا، فيَكْسِرُ الصَّليبَ، ويَقْتُلُ الخِنزيرَ، ويَضَعُ الجِزْيَةَ، ويَفِيضُ المالُ حتَّى لا يَقْبَلَه أحدٌ )) أخرجه البخاري (2222) ومسلم (155). .
وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أي: مخلِّصُك ممَّن كفرَ بك، ومُخرِجك من بينهم، برفعي إيَّاك إلى السَّماء ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/453)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/442)، ((تفسير ابن كثير)) (2/47)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/323). .
كما قال تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [المائدة: 110] .
وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
أي: وجاعلٌ أتباعَك يا عيسى فوق الَّذين كفروا، بالحُجَّةِ والبُرهان، وبالعزَّة والغَلَبة قيل المراد بالأتباع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وهو اختيار ابن جرير في ((تفسيره)) (5/453)، والواحدي في ((الوجيز)) (ص: 213). وقيل المراد بهم النصارى المنتسبون لعيسى عليه السلام إلى أن بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فكان المسلمون هم المتبعين لعيسى حقيقة، فأيدهم الله ونصرهم على اليهود والنصارى وسائر الكفار. وهذا اختيار السعدي في ((تفسيره)) (ص: 132)، وابن عاشور في ((تفسيره)) (3/ 260) وقال ابن عطية: (قال جمهور المفسرين بعموم اللفظ في المتبعين فيدخل في ذلك أمة محمد لأنها متبعة لعيسى، نص على ذلك قتادة وغيره، وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين، فمقتضى الآية إعلام عيسى عليه السلام أن أهل الإيمان به كما يجب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان وبالعزة والغلبة، ويظهر من قول ابن جريج وغيره أن المراد المتبعون له في وقت استنصاره وهم الحواريون جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم وأبقى لهم في الصالحين ذكرا، فهم فوقهم بالحجة والبرهان) ((تفسير ابن عطية)) (1/ 445). .
ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
أي: ثمَّ يومَ القيامة إليَّ مصيرُكم- أيُّها المختلِفون في عيسى عليه السَّلام جميعًا- فأَقضِي بينكم فيما كُنتُم تَختلفونَ فيه مِن أمْرِه عليه السَّلام ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/456)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/442)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/260). .
ثمَّ بيَّن الله تعالى حُكمَه فيهم وما يَفعلُه بهم فقال:
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
أي: فأمَّا الَّذين كفروا، فإنِّي أُعذِّبهم عذابًا شديدًا قويًّا في الدُّنيا؛ بالقتلِ والسَّبيِ والذِّلَّة والمسكنةِ، وأخْذِ الأموال، وما يَحصُل لقلوبهم من الضِّيقِ والضَّنك، والقلَقِ والحسرة، وغير ذلك، وفي الآخرةِ بنارِ جهنَّم ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/456)، ((تفسير ابن كثير)) (2/48)، ((تفسير ابن عطية)) (1/445)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/262), ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/329). .
وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
أي: وليس لهم أحدٌ يَدفَعُ عنهم العذابَ، ولا يمنَعُ عنهم أليمَ العِقاب، لا من الأهلِ، أو الشُّفعاء، أو الأصدقاء، أو غيرِهم ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/457)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 132)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/261), ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/330). .
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
أي: وأمَّا الَّذين آمنوا وعمِلوا الصَّالحات، فيُتمُّ لهم جزاءَهم من الثَّواب دون نَقصٍ أو بَخْسٍ في الدُّنيا والآخرة، في الدُّنيا بالنَّصر والظَّفَر، والإعزاز، والحياة الطَّيِّبة، وحُسن الذِّكر، وغير ذلك، وفي الآخِرة بالجنَّةِ والنَّعيمِ المقيم ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 132)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/262). .
وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
أي: واللهُ لا يحبُّ مَن ظلَم غيرَه حقًّا له، أو وضَع شيئًا في غير موضعِه، بل يُبغِضهم ويُحِلُّ عليهم غضَبَه وعقابه، فنَفَى اللهُ بذلك عن نفْسِه أنْ يَظلِمَ أحَدًا مِن خلقِه؛ لأنَّه إذا كان لا يحبُّ الظَّالِمين، فكيف يظلِمُ خَلْقَه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/457)، ((تفسير السعدي)) (ص: 132). ؟!
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ
أي: هذه الأنباءُ الَّتي أخبَر اللهُ بها عن عيسى عليه السَّلام وأمِّه مريمَ، وما قصَّه اللهُ من قَصص نقرؤُها عليك- يا محمَّدُ- على لسان جِبريل عليه السَّلام، هذه الأنباءُ والأخبارُ من العلاماتِ والحُجَج الدَّالَّة على صِدقِك ونبوَّتِك، وهي أيضًا من القُرْآن ذي الحِكمةِ؛ فهو مُحكَم مُتقَنٌ وحاكمٌ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/458)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/442)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/262)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/333). .
الفوائد التربوية :
1 الإعلامُ بأنَّ الآياتِ الكونيَّة وإنْ كثُرت وعظُمت ليست مُفضِيَةً إلى الإيمان حتمًا، وإنَّما يكونُ الإيمان باستعداد المدعُوِّ إليه، وحُسن بيان الدَّاعي بعد توفيقِ الله تعالى وهدايتِه؛ كما في قوله سبحانه: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/258). .
2- طلبُ النَّصر لإظهارِ الدَّعوة لله، موقفٌ من مواقفِ الرُّسل، وسُنَّةُ اللهِ في أنبيائه وأوليائه؛ كما في قوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (4/97), و((تفسير ابن عاشور)) (3/255). .
3- مِن قوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ يُؤخذُ أنَّه ينبغي على الدَّاعيَة إذا اشتبه الأمرُ أنْ يَطلُبَ المخلِصين، وأنْ ينتدبَ الصَّفوةَ من القوم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/307). .
4- لا بدَّ لحصول النَّصرِ مِن تحصيلِ سببِه، كما هي سُنَّة الله يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/255). ؛ كما في قول عيسى عليه السلام: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ.
5- النَّصر لا يستلزم القتالَ؛ فالعملُ بالدِّين والدَّعوة إليه نصرٌ له يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/258). .
6- في قولِ الحواريِّين: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ بيانُ أنَّهم انخلَعوا وانفصَلوا من التَّقاليد السَّابقة, وأخَذوا بالتَّعليم الجديد، وسيَبذُلون مُنتهَى الاستطاعةِ في تأييده؛ فالنَّصر للهِ لا يكونُ إلَّا بذلك يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/258). .
7- يُؤخذُ من قوله تعالى: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أنَّ إشهادَ الإنسانِ على نفسِه بالإيمان أو بالإسلام أو ما أَشْبَه ذلك لا يُعَدُّ مِن الرِّياء، لا سيَّما في الاتِّباع؛ لأنَّ في ذلك فائدةً، وهي تقويةُ المتبوع يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/308). .
8- في قوله تعالى: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ بيانُ أنَّه يجبُ أنْ يكونَ الإيمانُ شاملًا لكلِّ ما أنزَل الله يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/312). .
9- على المرءِ أنْ يُعلِنَ اتِّباعه للرَّسولِ بين أئمَّة الكفر؛ كيلَا يداهنَ في دِين الله؛ فالمداهنة في دِين الله والتَّقيَّةُ نِفاق في الواقع يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/308). ؛ كما في قوله: وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ.
10- في ذِكر الاتِّباع بعد الإيمان في قوله تعالى حِكايةً عن الحواريِّين: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53] ، بيانُ أنَّ العِلم الصَّحيح يستلزم العملَ، والعِلم الَّذي لا أثرَ له في العمل يُشبِهُ أنْ يكونَ مجمَلًا وناقصًا لا يقينًا وإيمانًا، وكثيرًا ما يظنُّ الإنسانُ أنَّه عالمٌ بشيء، حتَّى إذا حاول العملَ به لم يُحسِنْه، فيتبيَّن له أنَّه كان مخطئًا في دعوى العِلم يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/258). .
11- العِلم بالشَّيء يظلُّ مجمَلًا مبهَمًا في النَّفس حتَّى يعمل به صاحبُه، فيكون بالعمل تفصيليًّا, فذِكر الحواريِّين الاتِّباعَ بعد الإيمان يفيد أنَّ إيمانهم كان في مرتبةِ اليقين التَّفصيليِّ، الحاكم على النَّفس، المصرِّف لها في العمل، كما قال تعالى عن الحواريين أنهم قالوا: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 53] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/259). .
12- يُؤخذُ من قوله تعالى: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ الحرصُ على صُحبةِ الأخيار يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/315). .
13- المكرُ في مقامِ المكرِ مَدْحٌ، وصفةُ كمال كما قال تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران: 54] ، والمكرُ في غير موضعِه صفةُ نقص؛ لأنَّ المكرَ في غير موضعِه خيانةٌ، والخيانة صفةُ ذمٍّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/319). .
14- يَنبغي أنْ يُذكِّر الإنسانُ النَّاسَ بأحوال الأنبياء السابقين؛ لِما في ذلك من محبَّتِهم، والثَّناءِ عليهم، ومعرفةِ أحوالهم، وإبقاءِ ذِكراهم، وغير ذلك مِن المصالحِ العظيمة؛ كما في قوله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى أي: واذكُرْ إذ قال الله يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/337). .
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- قال: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ، ولم يقل: مَن أنصاري في الله؛ ليكون النَّصرُ مَبنيًّا على الإخلاص؛ لأنَّ (إلى) للغايةِ، فيُريد أنْ يكونَ نصرًا موصلًا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/303). .
2- لَمَّا كان المقصودُ ثباتَ الأنصار معه إلى أنْ يتمَّ أمرُه، عبَّر عن ذلك بصلةٍ دلَّت على تضمينِ هذه الكلمةِ كلمةً توافقُ الصِّلة فقال: إِلَى أي: سائرينَ أو واصلين معي بنَصرِهم إلى اللَّهِ أي: الملِكِ الأعظمِ يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/417). .
3- التَّوسُّلُ إلى الله تعالى بربوبيَّتِه؛ وذاك مِن قوله: رَبَّنَا آمَنَّا؛ لأنَّ الرُّبوبيَّة تدورُ على ثلاثةِ أشياء، وهي: الخَلْق، والمُلْك، والتَّدبير، وإجابة الدُّعاءِ داخل في هذه الثَّلاثة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/312). .
4- حُسن الاحتراز في قول الحواريِّين: بِمَا أَنْزَلْتَ، ولم يُطلقوا الإيمانَ مَثَلًا بالتَّوراة؛ لأنَّ التَّوراة الَّتي بأيدي اليهود محرَّفةٌ مبدَّلة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/312).
5- في قوله: آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ قوله: بِمَا أَنْزَلْتَ عامٌّ، وهو دليلٌ على وجوب الإيمانِ بكلِّ ما أنزل اللهُ مِن كتاب، وأمَّا الاتِّباع فيكونُ للرَّسول الخاصِّ الَّذي أُرسِل إليك؛ لقوله: وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ وهو خاصٌّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/313). .
6- أنَّه إذا كان هناك وَصفانِ، وكان أحدُ الوصفينِ أخصَّ من الآخرِ بالعمل أو بالحال الَّتي أنت فيها؛ فإنَّ الأَولى أنْ تأخذَ بالأخصِّ؛ لقوله: الرَّسُولَ؛ لأنَّ الرَّسول مرسَلٌ إلينا, ولم يقولوا: (واتَّبَعْنا النَّبيَّ) يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/315). .
7- في قوله: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ دليلٌ على أنَّ الإسلامَ دِينُ اللهِ على لسان كلِّ نبيٍّ، وإنِ اختلفوا في بعض صُوَرِه وأشكاله، وأحكامه وأعماله يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/258). ؛ فهو دِينُ الله الَّذي ابتعَث به عيسى عليه السَّلام والأنبياءَ قبله، لا النَّصرانيَّة ولا اليهوديَّة ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/444). .
8- في قوله تعالى: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ دليلٌ على عُلوِّ الله تعالى حقيقةً يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 132). .
9- في قوله تعالى: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ دلالة على أنَّ عيسى عليه السَّلام في السَّماء حيٌّ قال ابنُ عطية: (أجمعت الأمَّة على ما تَضمَّنه الحديث المتواتِر من أنَّ عيسى عليه السلام في السماء حيٌّ، وأنه ينزل في آخِر الزمان فيَقتُل الخِنزير، ويَكسِر الصَّليبَ، ويقتُل الدجَّال)، ((تفسير ابن عطية)) (1/444). .
10- ذَوو الهِمَم العالية يشتدُّ اهتمامُهم بما يكون عليه خلائفُهم بعدهم من الأحوال؛ لذا بشَّر اللهُ تعالى عيسى عليه السلام في ذلك بما يسُرُّه فقال: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ... يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/421). .
11- في قوله: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِشارةٌ بأنَّ المسلمين لا يَزالون فوق النَّصارى إِلى يوم القِيامة، ولكن هذا مقيَّدٌ باتِّباع شَرْع الله تعالى؛ فبَقدْرِ اتِّباعهم تكون الفوقيَّة؛ فإنَّ المسلمين هم أتْباعُ المُرسَلين في الحقيقة، وأتْباع جميعِ الأنبياء، لا أعداؤُهم، وأعداؤُهم هم عُبَّادُ الصَّليب يُنظر: ((هداية الحيارى)) لابن القيِّم (1/340). .
12- في قوله: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ منَّةُ الله سبحانه وتعالى على عِبادِه؛ حيث جعَل هذا الجزاءَ كالأجور اللازمِ وفاؤُها يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/347). .
13- أشار في قوله: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ بأداة البُعد؛ تنبيهًا على عُلوِّ منزلتِه، ورفيعِ قدْرِه يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي(4/425). .
14- في وصْفِ القُرْآن بالحَكيم دليلٌ على أنَّه لا يوجَدُ حُكمٌ دلَّ عليه القُرْآنُ إلَّا وهو في موضعِه اللَّائق به؛ إذ إنَّ الحكيمَ هو الَّذي يضعُ الشَّيءَ في مواضعِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/350). .
15- فضيلةُ الرَّسول عليه الصلاة والسَّلام في قوله: نَتْلُوهُ عَلَيْكَ، فخصَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالتِّلاوة عليه؛ لأنَّه أشرفُ مَن يتلقَّى القُرْآن، وأقومُ النَّاس عملًا به، فكأنَّه هو المخصوصُ بالتِّلاوة عليه نَتْلُوهُ عَلَيْكَ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/350). .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: إِلَى اللهِ؛ فيه إيجازٌ بالحذفِ، والتقدير: (مَن أنصاري حال التِجائي إلى الله)، أو (مَن أنصاري إلى أنْ أُبيِّن أمر الله) (سائرينَ أو واصلين معي بنَصرِهم إلى اللَّهِ) وقيل غير ذلك يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/233)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/417).. .
2- في قوله تعالى: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ: نداءٌ غرضُه التضرُّع إلى الله عزَّ وجلَّ، والعرْضُ لحالهم عليه تعالى بَعدَ عرضِها على الرَّسول؛ مبالغةً في إظهار أمرِهم يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/42). .
3- قوله تعالى: فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ: فيه تأكيدُ الأمْر بعدَ إشهادِهم عيسى عليه السَّلام على إسلامِ أنفسِهم، حيث قالوا: وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ، فأَشْهَدوا اللهَ تعالى على ذلك أيضًا تأكيدًا للأمْر، وتقويةً له، وأيضًا طَلبوا من الله مِثلَ ثواب كلِّ مؤمِن شهِد لله بالتوحيدِ ولأنبيائه بالنُّبوَّة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/235). .
4- في قوله سبحانه: واللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ: إظهارُ الجلالةِ (الله) في موقعِ الإضمار؛ لتربيةِ المهابة، ولأنَّ المقامَ لزيادةِ العظَمة, ولئلَّا يُفهَم الإضمارُ خصوصًا من جهةٍ ما، والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله يُنظر: ((نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)) للبقاعي (4/419)، ((تفسير أبي السعود)) (2/43). .
5- في قوله سبحانه: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ: (ثمَّ) للتراخي الرُّتبي؛ لأنَّ الجزاءَ الحاصلَ عند مرجِع الناس إلى الله يومِ القِيامة- مع ما يُقارنه من الحُكمِ بين الفريقينِ فيما اختلفوا فيه- أعظمُ درجةً، وأهمُّ من جَعْل متَّبعي عيسى فوقَ الذين كفروا في الدُّنيا. وعلى حمْل الخِطاب في هذه الآية للنبيِّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمين، لا لعيسى عليه السَّلام ومَن معه، فتكون (ثمَّ) للانتقال من غرَض إلى غرَض؛ زيادةً على التراخِي الرُّتبي، والتَّراخي الزَّمني يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/260). .
- وفيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ؛ للقصرِ المفيدِ لتأكيدِ الوعدِ والوعيد يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/44). .
- وعلى القولِ بأنَّ الضَّمير في مَرْجِعُكُمْ لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام وغيرِه من المتَّبعين له والكافرين به، يكونُ فيه تَغليبُ المخاطَب على الغائِبِ في ضِمنِ الالتفاتِ؛ فلو جاء النَّظمُ على السِّياق من غير التفات لكان: (ثم إليَّ مرجعهم فأحكُم بينهم فيما كانوا)، ولكنَّه التفتَ إلى الخِطاب؛ لأنَّه أبلغُ في البشارة، وأزجرُ في النَّذارة يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/215)، ((تفسير أبي السعود)) (2/44). .
6- قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ... وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا...: فيه تفصيلٌ لِمَا أُجمِل في قوله: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/191)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/260). . ففيه تفسيرٌ للحُكم الواقعِ بين الفريقين، وتفصيلٌ لكيفيته. والبدايةُ ببيانِ حالِ الكفرة لأنَّ مساقَ الكلامِ لتهديدهم وزجرِهم عمَّا هُم عليهِ من الكُفر والعِناد يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/44). .
7- قوله تعالى: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ: تذييلٌ للتفصيل كلِّه؛ فهو تذييلٌ ثانٍ لجملة فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا بصريحِ معناها، أي: أعذِّبهم؛ لأنَّهم ظالمون، والله لا يحب الظالمين، وتذييل لجملة وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا...، بكناية معناها؛ لأنَّ انتفاءَ محبَّة الله الظالمين يستلزمُ أنَّه يحبُّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات؛ فلذلك يُعطيهم ثوابهم وافيًا يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/261). .
8- في قوله: فَأُعَذِّبُهُمْ وقوله: فَيُوَفِّيهِمْ تنوُّعٌ في الأسلوب، وهو الانتقالُ من ضمير التَّكلُّم إلى ضميرِ الغَيْبة, وفي تغييرِ الأسلوب فائدتانِ: لفظيَّةٌ، وهي الالتفاتُ الَّذي يوجب الانتباهَ، ومعنويَّةٌ، وهي إظهارُ السُّلطة والعَظَمة والعزَّة في باب التَّعذيب، وإظهارُ الفضل والإحسان للعامِلين في باب المَثُوبة يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/348). يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/262). .
- وعلى قِراءة (فنُوفِّيهم) بالمتكلم وحْدَه المعظِّمِ نفْسَه، يكون ذلك اعتناءً بالمؤمنين، ورفعًا من شأنِهم؛ لَمَّا كانوا مُعظَّمين عنده يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/216) .
9- في قوله تعالى: ذَلِكَ: الإشارة بـ(ذلك) إلى ما سلَف من نبأ عيسى عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما فيه من معنى البُعد؛ للدَّلالة على عِظم شأنِ المُشارِ إليهِ، ورِفعة قدْره، وبُعْد منزلتِه في الشَّرف، وعلى كونِه في ظهور الأمرِ ونباهةِ الشأن بمنزلةِ المشاهَد المعايَن يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/425)، ((تفسير أبي السعود)) (2/45). .
10- قوله تعالى: نَتْلُوهُ: يحتمل أنْ يكونَ فيه التفاتٌ من غَيبة إلى تكلُّم؛ لأنَّه قد تقدَّمه اسمٌ ظاهر، وهو قوله: وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ويحتمل أن يكون وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ جِيء بها اعتراضًا بين أبعاضِ هذه القِصَّة، فلا يكون فيه التفات يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/191)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/218). .