غريبُ الكَلِماتِ:
يَمْسَسْنِي: المسُّ: الجِماع يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 767)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 45)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 111). .
وَجِيهًا: صاحبُ جاهٍ ومنزلةٍ يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 105)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 479)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/89)، ((المفردات)) للراغب (ص: 856)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 45)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 123). .
الْمَهْدِ: مَضْجَعُ الصَّبِيِّ فِي رَضَاعِهِ، وهو ما يُهيَّأ للصَّبي، وأصلُه: التَّوطئةُ للشَّيء وتسهيلُه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/412)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/280)، ((المفردات)) للراغب (ص: 780). .
كَهْلًا: الكهل: الَّذي انتَهى شبابُه، ومَن وَخَطَه- أي: خالَطَه- الشَّيبُ يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 530)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/144)، ((المفردات)) للراغب (ص: 727)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 45)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 124). .
الْأَكْمَهَ: الَّذي يُولد أعْمَى، أو هو الَّذي يُولَد مطموسَ العين، أو الأعمى مطلَقًا يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 105)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 52)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/136)، ((المفردات)) للراغب (ص: 726)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 45)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 124). .
المَعنَى الإجماليُّ:
يُخبِر الله نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمجيء الملائكةِ إلى مريم تَحمِل لها البُشرى بغلامٍ يوجِده الله بكلمةٍ منه, اسمُه المسيحُ عيسى ابنُ مريم، نسبةً إلى أمِّه؛ لأنَّه لا أبَ له, والَّذي سيكون من صِفاته أنَّه ذو وجاهةٍ عالية، ومنزلةٍ رفيعة عند الله في الدُّنيا والآخِرة, ومن المقرَّبين إليه، وأنَّ مِن معجزاته تَكليمَ النَّاس في حال طُفولتِه؛ تَبرئةً لأمِّه، ودَعوةً إلى عِبادةِ الله وحْده لا شريكَ له, ويُكلِّمهم في حال كُهولتِه تَكليمَ المرسلين بما يوحيه اللهُ إليه, وأنَّه من الصَّالحين.
ثمَّ يذكُرُ اللهُ تعالى جوابَ مريم: يا ربِّ، كيف يكون منِّي ولد وأنا لم يمسَسْني بشر؟! فأَخْبَرها سبحانه أنَّ هذا الفِعلَ المستغرَب والخارِقَ للعادة هو مِن فِعل مَن بيده الأمرُ؛ فهو يَخلُق ما يشاءُ, كيفما يُريد, وإذا أراد شيئًا، فإنَّما يقولُ له: كن, فيكون الأمرُ كما أراد سبحانه.
ثمَّ يَذكرُ اللهُ تعالى ما امتنَّ به على عبدِه ورسولِه عيسى عليه السَّلام مِن المِنَن العظيمة؛ مِن تعليمِ الكتابِ والحِكمة، والتَّوراة والإنجيل, وأنَّه سيُرسله إلى بني إسرائيل ليقول لهم: إنِّي قد جِئتُكم بآيةٍ من ربِّكم، وهي أنِّي أُصوِّرُ من الطِّين على شكل الطَّير، ثمَّ أنفخُ فيه، فيكون طيرًا تدِبُّ فيه الرُّوح, بإذن الله سبحانه وتعالى، وأنِّي أَشفي مَن وُلِد أعمى, وَمن به برَصٌ, وأُحيي الموتى بإذن الله, وأُخبركم بما تأكلون من طعامٍ وما تدَّخرونه في بيوتكم, دون أنْ أراها أو يُطلِعني عليها أحدٌ, وفي هذا كلِّه آيةٌ لكم تدلُّكم على صِدق ما جئتُكم به، إنْ كنتم مؤمنين, وأنِّي قد أتيتُكم مقرِّرًا ومثبِتًا لِمَا أُنزل قبلي من التَّوراة, ولأُحِلَّ لكم بعضَ الَّذي حُرِّم عليكم, وجئتُكم بآيةٍ تدلُّ على صِدق ما أقولُه لكم؛ فاتَّقوا اللهَ وأطيعوني فيما دعوتُكم إليه, إنَّ اللهَ ربِّي وربُّكم؛ لذا توجَّهوا إليه بالعبادةِ وحْدَه؛ فهذا هو الطَّريقُ المستقيم الَّذي يُوصلكم إلى الله ورِضوانِه.
تفسير الآيات:
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ
أي: واذكُرْ ينظر ((تفسير ابن عطية)) (1/435)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/264). وقال ابنُ جرير: يعني بقوله جل ثناؤه: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ *آل عمران: 45*، وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ، وما كنتَ لديهم أيضًا إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ. ((تفسير ابن جرير)) (5/406) ورده ابن عطية. إذ قالتِ الملائكةُ: يا مريمُ، إنَّ الله يُبشِّرُك بولد اختار قال ابن جرير: أنَّ قوله: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ. يعني: برسالة من الله، وخبر من عنده، وهو من قول القائل: ألقى فلان إليَّ كلمة سرَّني بها، بمعنى: أخبرني خبرًا فرحت به، كما قال جل ثناؤه: وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ *النساء: 171*، يعني: بشرى الله مريم بعيسى ألقاها إليها. وما اختاره خلافُ رأي الجمهور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/406)، ((تفسير ابن كثير)) (2/43، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/200)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/264). يكونُ وجودُه بكلمةٍ صادرةٍ من الله، وهي قوله: (كُنْ) فيكون ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/43)، ((تفسير السعدي)) (ص: 131)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/264). وممَّن قال بهذا القول قتادة. ((تفسير ابن جرير)) (5/407) .
قال الله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ [آل عمران: 59] .
اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
أي: يَشتهرُ بأنَّ اسمَه المسيحُ سُمِّي عيسى عليه السَّلام بالمسيح؛ قال بعضُ السَّلف: لكثرةِ سِياحته. وقيل: لأنَّه كان إذا مَسحَ أحدًا مِن ذوي العاهاتِ بَرَأَ بإذن الله تعالى، وقيل: غير ذلك، حتى بلغَ بها بعضُهم خمسين قولًا. ينظر ((تفسير ابن عطية)) (1/436)، ((تفسير ابن كثير)) (2/43)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (4/499)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/267). عيسى ابنُ مريم، نِسبةً لأمِّه؛ لأنَّه لا أبَ له، فنفَى الله بذلك عنه ما أضافَ إليه النَّصارى، مِن إضافتِهم بنوَّتَه إليه عزَّ وجلَّ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/408)، ((تفسير ابن كثير)) (2/43). .
وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
أي: حالَ كونه ذا وجاهةٍ ومنزلةٍ عالية ومكانةٍ عند الله: في الدُّنيا؛ لكونِه أحدَ المرسَلين مِن أُولي العزم الَّذين نَشَر الله ذِكرَهم، وفي الآخرة لِمَا له من الشَّفاعة عند الله، والدَّرجات العُليا في الجنة ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/410)، ((تفسير ابن كثير)) (2/43)، ((تفسير السعدي)) (ص: 131)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/268). .
وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
أي: من المقرَّبين إلى الله عزَّ وجلَّ في الدُّنيا والآخِرة يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/436)، ((تفسير القرطبي)) (4/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 131)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/269). .
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا
أي: ويُكلِّمُ النَّاس طفلًا في الفِراش؛ آيةً من الله، وتبرئةً لأمِّه، ويكلِّمهم أيضًا بالغًا كبيرًا حال كهولتِه، تكليمَ المرسَلين، بعد أنْ يوحيَ اللهُ إليه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/412)، ((تفسير القرطبي)) (4/90)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/247)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/269). وممَّن قال بنحو هذا القول: محمَّد بن جعفر بن الزُّبير, وقتادة, والربيع, والحسن. ((تفسير ابن جرير)) (5/413). .
كما قال الله تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم: 29-33] .
وَمِنَ الصَّالِحِينَ
أي: وهو مِنَ الصَّالحين في قولِه وعمَلِه ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/43)، ((تفسير القرطبي)) (4/91)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/271). .
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ
أي: قالت مريمُ: يا ربِّ، كيف يوجَدُ هذا الولد منِّي ولم يُجامِعْني بَشرٌ لا بنِكاحٍ ولا بزنًا ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/44)، ((تفسير القرطبي)) (4/92)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/387). .
قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
أي: قال: مِثْلَ ذلك الخَلْقِ- وهو إيجادُ الولد بدون مسيسٍ- يَخلُقُ الله ما يشاء، ويصنَعُ ما يُريد، فلا يُعجِزه شيءٌ ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/438)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/248)، ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/415)، ((تفسير ابن عطية)) (1/437). .
إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
أي: إذا أراد إيجادَ شيء، فإنَّما يقولُ له: كُنْ، فيوجَدُ كما شاء عَقِيبَ الأمر، فلا يتأخَّرُ شيئًا ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/415)، ((تفسير ابن عطية)) (1/437)، ((تفسير ابن كثير)) (2/44). .
كما قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] .
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ
أي: ويُعلِّمُ الله عزَّ وجلَّ عيسى عليه السَّلام الكتابةَ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/582)، ((تفسير ابن كثير)) (3/158)، ((تفسير السعدي)) (ص: 240)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/217-218). وذهَب السعديُّ إلى أنَّه يحتمل أن يكون المرادُ بالكتاب هنا: جِنس الكتب، ويحتمل أن يكون معناه الكتابةَ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 131). وذهَب ابنُ عثيمين إلى حمْل الآية على كلا المعنيين. فعلَّمه الكتابةَ فكتَب، وعلَّمه الكتب السابقة. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/277). ، ويُعلِّمُه السُّنَّة الَّتي يُوحيها إليه في غير كِتابٍ من الشَّرائع ونحوها، ويُعلِّمه التَّوراةَ الَّتي أنزلها على موسى عليه السَّلام، والإنجيل الَّذي يُنزِّله عليه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/416)، ((تفسير ابن عطية)) (1/438)، ((هداية الحيارى)) لابن القيِّم 1(/332)، ((تفسير ابن كثير)) (2/44)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/277). .
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ
أي: ويَجعلُه رسولًا يُرسلُه إلى بَنِي إسرائيلَ ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/418)، ((تفسير ابن كثير)) (2/44)، ((تفسير القرطبي)) (4/93). .
قائلًا لهم:
أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ:
أي من قوله تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ.... إلى قوله وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرائِيلَ خِطاب لمريم، ومن قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ... إلى قوله: مُسْتَقِيمٌ يحتمل أنْ يكونَ خِطابًا لمريم على معنى: يكون من قولِه لبني إسرائيل، كيت وكيت، ويكون في آخِر الكلامِ متروكٌ يدلُّ عليه الظاهر، تقديرُه: فجاء عيسى بني إسرائيل رسولًا، فقال لهم ما تقدَّم ذِكرُه فَلَمَّا أَحَسَّ...، ويحتمل أن يكون المتروك مقدرًا في صدْر الكلام بعد قوله: إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فيكون تقديره، فجاء عيسى كما بشَّر الله رسولًا إلى بني إسرائيل بأنِّي قد جئتُكم، ويكون قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ... ليس بخِطاب لمريمَ، والأوَّل أظهرُ. ينظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/438). : أنِّي فتْح الهمزة في قوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ لتقديرِ باء الجرِّ، بعد قوله: وَرَسُولًا، أي: رسولًا بهذا المقال؛ لِمَا تضمَّنه وصفُ رَسُولًا من كونِه مبعوثًا بكلام. ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/249). قد جئتُكم بعلامةٍ من ربِّكم، تحقِّقُ قولي، وتصدِّقُ خبَري في كوني مُرسَلًا مِن الله إليكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/418). .
ثم بَيَّن هذه الآيةَ الَّتي جاءَ بها قائلًا:
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
القِراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التَّفسير:
أ- في قوله تعالى: أنِّي أَخْلُقُ قراءتان:
1- إنِّي بالكَسرِ، وذلك مِن أوجه، منها: على إضمارِ القولِ، أي: فقلت: إنِّي أَخلُق. ومنها: أنَّه على الاستئناف. أو على التفسير، فَسَّر بهذه الجملةِ قولَه: بِآيَةٍ كأنَّ قائِلًا قال: وما الآيةُ؟ فقال هذا الكلامَ قَرَأَ بها المدَنِيَّانِ نافع وأبو جعفر. ينظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/240). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/256)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 164)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/191). .
2- أنِّي بالفتحِ على أَنَّهَا بدلٌ من قَوْله قَدْ جِئتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فالمعنى: بأَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ. أو أنها خَبرُ مبتدأٍ مُضمَرٍ، تقديرُه: هي أنِّي أَخلُق. وقيل غير ذلك قَرَأَ بها البَاقُونَ. ينظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/240). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/256)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 164)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/191). .
ب- وفي قوله تعالى: كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ ثلاثُ قراءات:
1- ... كَهَيْئَةِ الطَّائرِ... فَيَكُونُ طَائرًا، أي: إنَّه كان يَخلُق واحدًا ثمَّ واحدًا قرأ بها أبو جعفر. ينظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 187). ويُنظر لمعنى القراءتين: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/257)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 164). .
2- ... كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... فَيَكُونُ طَائرًا أي: تُقدِّر هيئةً كهيئةِ الطَّير، فتكونُ الهيئةُ طائرًا، أي: كلُّ هَيئةٍ تُقدِّرها تكونُ واحدًا مِن الطَّير قرأ بها نافع ويعقوب. ينظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 187). ويُنظر لمعنى القراءتين: ((تفسير ابن عطية)) (2/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/102). .
3- ... كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ... فَيَكُونُ طَيْرًا، أي: إنَّ الله تعالى أذِن له أن يَخلُقَ طيرًا كثيرةً، ولم يكُن يَخلُقُ واحدًا فقط قرأ بها الباقون. ينظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 187). ويُنظر لمعنى القراءتين: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/257)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 164). .
أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ
أي: أُصوِّرُ لكم من الطِّين شيئًا مقدَّرًا على شكلِ الطَّير، فأنفُخُ فيه فيكون طيرًا له رُوح، يَطيرُ بعِلم الله وتمكينِه لي يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/439)، ((تفسير ابن كثير)) (2/44)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/250)، ((تفسير السعدي)) (ص: 131). .
وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ
أي: وأَشفي مَن يُولد أعْمَى وممَّن قال بهذا القول: ابن عبَّاس, والحسن والضحَّاك، والسُّدِّي، وقتادة. ((تفسير ابن جرير)) (5/421), ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/655). ، ومَن به داءُ البرصِ الَّذي يُصيب الجِلدَ، وأُحيي الموتى بإذنِ الله ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/420)، ((تفسير ابن كثير)) (2/44)، ((تفسير السعدي)) (ص: 131)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/251). .
وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ
أي: وأُخبِرُكم بما تَأكلونَه وما تدَّخِرونه في بُيوتِكم فلا تأكلونه، دون أنْ أُعاينَ ذلك، أو يَأتِيَني أحدٌ بخبَرِه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/425)، ((تفسير ابن كثير)) (2/45)، ((تفسير القرطبي)) (4/95)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/252). قال ابنُ جرير: (فإنْ قال قائلٌ: وما كان في قوله لهم: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ *آل عمران: 49* مِن الحُجَّة له على صِدقِه، وقد رأينا المتنجِّمةَ والمتكهِّنةَ تُخبر بذلك كثيرًا فتصيب؟ قيل: إنَّ المتنجِّم والمتكهِّن معلومٌ منهما عند مَن يُخبره بذلك أنهما يُنبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدِّية إلى عِلمه، ولم يكُن ذلك كذلك مِن عيسى صلواتُ الله عليه ومِن سائرِ أنبياء الله ورسله، وإنَّما كان عيسى يُخبر به عن غيرِ استخراجٍ ولا طلبٍ لمعرفته باحتيالٍ، ولكن ابتداءً بإعلام الله إيَّاه من غير أصلٍ تَقدَّم ذلك؛ احتذاه أو بَنَى عليه أو فزِع إليه، كما يَفزع المتنجِّمُ إلى حِسابِه، والمتكهِّن إلى رِئيه، فذلك هو الفصلُ بين عِلم الأنبياء بالغيوبِ وإخبارهم عنها، وبين عِلم سائرِ المتكذِّبة على اللهِ، أو المدَّعية عِلمَ ذلك) ((تفسير ابن جرير)) (5/425). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أي: إنَّ في إبراءِ الأَكْمَهِ والأبرصِ وإحياءِ الموتى وغيرِ ذلك ممَّا سبق ذِكره، لآيةً تدلُّ على صِدقي، وتَهديكم، وتَنفعُكم، إنْ كنتم مؤمنين، وإلَّا فليستْ هاديةً ولا نافعةً لكم يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/441)، ((تفسير ابن كثير)) (2/45)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/285). .
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ
أي: وجئتُكم مُقررًا ومخبرًا بصِدْق ما قبلي من التَّوراةِ الَّتي أُنزِلَت على موسى عليه السَّلام ينظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/439)، ((تفسير ابن كثير)) (2/45)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/252)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/291). .
وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ
أي: وجئتُكم أيضًا لأحلَّ لكم بعضَ الَّذي حُرِّم عليكم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/292). .
وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ
أي: وجئتُكم بحجَّةٍ ودلالةٍ على صِدقي فيما أقولُ لكم ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/433)، ((تفسير ابن كثير)) (2/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 131). .
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ
أي: فاتَّقوا الله بفِعلِ ما أمَر به، واجتنابِ ما نهى عنه، وأطِيعوني فيما دعوتُكم إليه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/433)، ((تفسير السعدي)) (ص: 131)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/293). .
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَرَهم بتقوى الله ذَكَر ما هو كالسَّببِ في ذلك ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/294). ، فقال:
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ
أي: إنَّ الله ربِّي وربُّكم، وخالقُنا، ومالكُنا ورازقُنا؛ لذا فاعبُدوه وحده؛ فاستدلَّ بتوحيدِ الرُّبوبيَّة على توحيدِ الألوهيَّة؛ لأنَّه يستلزمُه يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 132)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/294). .
كما قال تعالى: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [المائدة: 117] .
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
أي: ما سبَق ذِكرُه- من تقوى الله، وطاعة رسولِه، وتحقيق العبادة له- طريقٌ مستقيمٌ لا اعوجاجَ فيه، مُوصلٌ إلى اللهِ وإلى جنَّتِه ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/433)، ((تفسير السعدي)) (ص: 132)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/298). .
الفوائد التربوية :
1- يُؤخذُ من قوله تعالى: وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ أنَّ علامةَ الصَّادق أنْ يكونَ خبرُه من جِنسِ خبر الصَّادقين، يُخبِر بالصِّدق، ويأمُرُ بالعدلِ، من غير تخالُفٍ ولا تناقُضٍ يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 131). .
2- في قوله: وَمِنَ الصَّالِحِينَ بيانُ أنَّه لا رتبةَ أعظمُ من كون المرء صالحًا؛ لكونه في جميعِ الأفعال والتُّروك مواظِبًا على النَّهج الأصلح، والطَّريق الأكمل، ومعلوم أنَّ ذلك يتناولُ جميع المقاماتِ في الدُّنيا والدِّين، في أفعال القلوب، وفي أفعال الجوارح يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/225- 226). .
3- الإيمانُ يَحمِلُ صاحبَه على قَبول الآياتِ الَّتي جاءت بها الرُّسلُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/291). ؛ كما في قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
4- في قول الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ دليلٌ على أنَّ مِن لوازم تقوى الله: طاعةَ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/231). .
الفَوائدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:
1- مِن حِكمةِ اللهِ أنْ تَدرَّج بأخبارِ العبادِ من الغريبِ إلى ما هو أغربُ منه؛ فذكَر وجودَ يَحيى بن زكريَّا بين أبوين أحدُهما كبيرٌ، والآخَر عاقرٌ، ثمَّ ذكَر أغربَ من ذلك وأعجبَ، وهو وجودُ عيسى عليه السَّلام من أمٍّ بلا أبٍ يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 131). .
2- (مِن) في قوله: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ليستْ للتَّبعيض، بل لابتداءِ الغاية؛ وذلك لعدمِ وجودِ واسطةِ الأبِ في حقِّ عيسى عليه السَّلام, فصارَ تأثيرُ كلمة الله تعالى في تكوينِه وتخليقِه أكملَ وأظهرَ، فكان كونُه كلمةَ الله مبدأً لظهوره ولحدوثه أكملَ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/222), ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/246). .
3- في قوله تعالى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عبَّر عن العَلَم واللَّقَب والوَصف بالاسم؛ لأنَّ لثلاثتِها أثرًا في تمييزِ المسمَّى يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/246). .
4- قدَّم اللَّقبَ في قوله تعالى: اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ على الاسمِ؛ لأنَّ المسيحَ لقَبٌ يُفيدُ كونَه شريفًا رفيعَ الدَّرجة؛ كالصِّدِّيقِ والفاروق؛ فذكَره الله أولًا ليُفيدَ علوَّ درجتِه، ثمَّ ذكَره باسمه الخاصِّ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/223). .
5- الضَّمير في قوله: اسْمُهُ عائدٌ إلى الكلمةِ، وهي مُؤنَّثة، ومع ذلك فقد ذكَّر الضَّمير؛ لأنَّ المسمَّى بها مُذكَّر يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/223). .
6- جاء قوله: ابْنُ مَرْيَمَ مع كون الخِطاب لها؛ قيل: إعلامًا لها بأنَّه يُنسَب إليها; لأنَّه مُحدَثٌ بغير الأب، فكان ذلك سببًا لزيادة فضلِه، وعلوِّ درجتِه ودرجتها، وتشريفِها، وتبرئتِها ممَّا رماها به اليهود يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/223), ((تفسير الشربيني)) (1/215، 378)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/251). .
7- لَمَّا كان قوله: فِي الدُّنْيَا قد لا يُلازم الوجاهةَ بعد الموت، قال: وَالْآخِرَةِ, ولَمَّا كانتِ الوجاهةُ ثَمَّ مختلفةً، ذكَر أعلاها عاطفًا بالواو، إشارةً إلى تمكُّنِه في الصِّفات فقال: وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي: عند الله، كما في قوله تعالى: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [آل عمران: 45] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/398). .
8- خَصَّ تكليمَه بحالَيِ المهدِ والكهولة، مع أنَّه يتكلَّمُ فيما بين ذلك؛ لأنَّ لهما مزيدَ اختصاصٍ بتشريف الله إيَّاه، فأمَّا تكليمُه النَّاس في المهد، فلأنَّه خارقُ عادةٍ؛ إرهاصًا لنبوءتِه، وأمَّا تكليمُهم كهلًا، فمرادٌ به دعوتُه النَّاسَ إلى الشَّريعةِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/247). .
9- في قوله: كَهْلًا ردٌّ على النَّصارى الَّذين يدَّعون أنَّ عيسى إلهٌ؛ إذ لو كان إلهًا لَمَا كان متقلِّبًا في الأحوال من الصِّبا إلى الكهولة، فالتَّغيُّر على الإله تعالى محالٌ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/224). .
10- الاستفهام في قولها: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ للإنكار والتَّعجُّب؛ ولذلك أُجيب جوابين، أحدهما: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فهو لرفعِ إنكارها، والثَّاني: إِذَا قَضَى أَمْرًا إلخ؛ لرفعِ تعجُّبها يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/248), ويُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/253). .
11- عبَّر عن تكوينِ الله لعيسى بفعل يَخْلُقُ؛ لأنَّه إيجاد كائن من غير الأسباب المعتادةِ لإيجاد مِثله، فكان للفعل يَخْلُقُ هنا موقعٌ متعيِّن؛ فهو يدلُّ على الإبداع يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/249), ويُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (3/253)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/281). .
12- تضمَّن قوله: يَخْلُقُ في قوله: كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ الرَّدَّ على شُبَه النَّصارى الَّذين يقولون: إنَّ عيسى هو الله، وإنَّه ثالثُ ثلاثةٍ؛ لأنَّ في قوله يَخْلُقُ التَّصريحَ بأنَّه مخلوق، فكان هذا قطعًا لدابر قولهم فيه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/281). .
13- المرادُ بالآية في قوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ الجنس لا الفرد؛ لأنَّه تعالى عدَّد هاهنا أنواعًا من الآيات، وهي: إحياءُ الموتى، وإبراءُ الأَكْمَهِ والأبرص، والإخبارُ عن المغيَّبات يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/227). .
14- أنَّ ما فُعِل بأمْر الله، فهو حلالٌ مُباحٌ، وإنْ كان نظيرُه بدون أمرٍ حرامًا؛ كما في قوله: أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ثمَّ قال: بِإِذْنِ اللَّهِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/286). .
15- الإذن في قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ إذنٌ كونيٌّ وشرعيٌّ؛ لأنَّ كونه يُصوِّر مضاهيًا لخَلْق الله يحتاج إلى إذنٍ شرعيٍّ؛ لحرمة التَّصويرِ, وكذلك يحتاج إلى إذنٍ كونيٍّ؛ لأنَّ خَلْق هذا الطيرِ حتَّى يطير يكونُ بإذن اللهِ الكونيِّ، فيطير بإذن الله إذنًا كونيًّا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/282). .
16- ذكَر عيسى عليه السَّلام قَيدَ الإذنِ مِن الله في قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ؛ لإزالة الشُّبهة، وتحقيقًا للتَّوحيد، وللتَّنبيه على أنَّه إنَّما يعمل التَّصوير، أمَّا خَلْق الحياة فهو من الله, ولرفْعِ توهُّم استقلالِه بالفعل في كلِّ آيةٍ أتى بها عند مَن اعتقد فيه الإلهيَّة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/229)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/251)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/282). .
17- في قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ، وقوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ، وقوله: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ بيان أنَّ الأمورَ المهمَّة- خاصَّةً الخارجةَ عن المألوف المعتاد- ينبغي تكرارُها، من أجْل أنْ يَتبيَّن للمخاطَب أهميَّتُها عند المتكلِّم، وأنَّه ذو عنايةٍ بها، ومن أجْل أنْ ترسخَ في الذِّهن، وتؤثِّرَ في القلوب يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/291)، ((تفسير الرازي)) (8/231). .
18- في ذِكر هذه المعجزات تعريضٌ بالنَّصارى، الَّذين جعَلوا منها دليلًا على ألوهيَّة عيسى؛ لعدمِ دُخولِها تحت مقدرةِ البشر, وهذا دليلٌ سُفسطائي، أشار اللهُ إلى كشفِه بقوله: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ مرَّتين يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/252). .
19- جوازُ النَّسخ في الشَّرائع؛ لقوله: وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/299). ، ففيه دلالةٌ على أنَّ عيسى عليه السَّلام نسَخَ بعضَ شريعة التَّوراة، وأنَّ أكثرَ أحكام التَّوراة لم يَنسَخْها الإنجيلُ ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 131). .
20- في التَّعقيب بقوله: وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ.. بعد قوله: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ تنبيهٌ على أنَّ النَّسخَ لا ينافي التَّصديقَ؛ لأنَّ النَّسخ إعلامٌ بتغيُّر الحُكم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/253). .
21- في قوله: أُحِلَّ لَكُمْ جوازُ نِسبة الحُكم إلى مَن بلَّغه؛ إذ إنَّ الأصلَ في التَّحليل والتَّحريم أنَّه من عندِ الله عزَّ وجلَّ، لكن لا بأسَ بإضافتِه إلى مَن أبانه وأظهَره يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/300). .
22- نُصَّ على الطَّاعة في قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ مع أنَّها من التَّقوى؛ وذلك لأنَّ المرادَ هو تقوى خاصَّةٌ فيما جاء به عيسى عليه السلام، كما أنَّ التَّقوى سبيلٌ إلى الاستجابةِ والطَّاعةِ والقَبولِ والانقياد يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/293). .
23- يُؤخذُ من قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ أنَّ الطَّاعة أمرٌ مشترَك بين الرُّسل وبين اللهِ عزَّ وجلَّ، وأمَّا التَّقوى فهي خاصَّةٌ بالله يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/300). .
24- التَّقوى واجبةٌ في كلِّ شريعة, ولكن المتقَى به قد يختلف باختلاف الشَّرائع يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/300). .
25- قوله تعالى: إن الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ فيه ردٌّ على النَّصارى الَّذين يؤلِّهون عيسى عليه السَّلام يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 132)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/294). .
26- قوله تعالى: رَبِّي وَرَبُّكُمْ بدأ بنفسِه؛ ليكون أوَّلَ مُذعِنٍ ومنقادٍ لهذا الرَّبِّ عزَّ وجلَّ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/296). .
27- مَن أقرَّ بربوبيَّةِ الله، لزِمَه أنْ يُقِرَّ بعبوديَّته؛ ولهذا قال: فَاعْبُدُوهُ، فأتى بالفاء الدَّالَّة على السَّببيَّة، أي: فبسببِ اختصاصِه بالرُّبوبيَّة يجبُ أنْ تخصُّوه بالعبادةِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/301), ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 132). .
بلاغة الآيات:
1- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا: فيه تعظيمٌ لقدْر عيسى عليه السَّلام، وبيانٌ لفَضلِه على يَحيى عليهما السَّلام؛ إذ لَمَّا وصفَه بهذا الوصفِ الشريف المَسِيح ذكَر اسْمَه فقال: عِيسَى، وفي تَفخيمِ هذا الذِّكر بجَعْلِه نفْسَ الكَلمة وبإبهامِه أولًا ثمَّ تفسيرِه، والتعبيرِ بصِيغة المبالغةِ وَجِيهًا للمبالغةِ في وجاهته؛ إذ أصلُ معناه: الوجهُ، وهو الملاحَظُ المحترَمُ بعلوٍّ ظاهر فيه، ولَمَّا كان قوله: فِي الدُّنيَا قد لا يلازمُ الوجاهةَ بعدَ الموت قال: والآخِرَةِ، ولَمَّا كانتِ الوجاهةُ في الآخِرةِ مختلفةً ذكَر أعلاها عاطفًا بالواو إشارةً إلى تمكُّنِه في الصِّفات، فقال: وَمِنَ المُقَرَّبِينَ، أي: عند الله- في كلِّ ذلك تعظيمٌ لقدْر عيسى عليه السَّلام وبيانٌ لفَضلِه، ولم يَجعلْ ليحيى عليه السلام في البشارةِ به مِثلَ هذا الذِّكر يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/397-398). .
2- قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا: فيه إيثارُ التعبير بصيغة المضارع؛ لدلالته على التجدُّد وقتًا فوقتًا. وفيه تطمينٌ لخاطرها بما يخالف العادة، حيث بَشَّر اللهُ مريمَ بأنَّ هذا يَتكلَّم طِفلًا، ويَعيش ويتكلَّم في حال كُهولته. أو بمعنى يُكلِّم الناس كلامَ الأنبياء من غير تفاوتٍ بين الحالتين: حالة الطفولة وحالة الكُهولة؛ فيكون غايةً في الإعجاز يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/364)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/178، 181)، ((تفسير القاسمي)) (2/319). .
3- قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ:
- النِّداءُ للتحسُّر (رَبِّ) وليس للخِطاب؛ لأنَّ الذي كَلَّمها هو الـمَلَكُ، وهي قد توجَّهتْ إلى الله يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (248). .
- والاستفهامُ للإنكارِ والتعجُّب، أو للاستبعادِ العادي، أو استفهامٌ عن أنَّه يكون بتزوُّج أو غيره يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/17). ؛ ولذلك أُجيب بجوابينِ؛ أحدهما: كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ؛ لرَفْع إنكارها، والثاني: إِذَا قَضَى أَمْرًا... لرفْع تعجُّبها يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (248). .
- وقال هنا: وَلَد كما في قول مريم: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ ولم يقُل: (غلام) كما في قِصَّة زكريا وقوله: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ لاستبعادِ مريمَ لمطلق الحَبَل، لا بقَيدِ كونِه ذَكرًا، كما في قِصَّة زكريا عليه السلام؛ لذا قالت وَلَدٌ، وقالت: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؛ لفَهمها ذلك من نِسبته إليها فقط، والولدُ يُطلق على الذَّكر والأنثى، بخلافِ زكريَّا عليه السلام الذي بُشِّر بيحيى عليه السلام يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (4/400) .
4- قوله تعالى: قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ... جوابُ استفهامها، ولم تُعطفْ هذه الجملةُ على التي قبلها؛ لأنَّها جاءتْ على طريقة المحاورات. وتقديمُ اسمِ الجلالة على الفِعل؛ لإفادةِ تقوِّي الحُكم وتحقيقِ الخبَر يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (248). .
- وصرَّح هاهنا بقوله: يَخْلُقُ ولم يقل: (يَفْعَلُ) كما في قِصَّة زكريا؛ لأنَّ أمْر زكريَّا داخلٌ في الإمكانِ العاديِّ الذي يُتعارَف وإنْ قلَّ، وفي قِصَّة مريم قال: يَخْلُقُ؛ لأنَّه لا يُتعارَف وجودُ ولدٍ من غيرِ والدٍ، فهو إيجادٌ واختراعٌ من غيرِ سببٍ عاديٍّ؛ فلذلك جاءَ بلفظ: يَخْلُقُ الدالِّ على هذا المعنى يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/158). ، فالخَلْقُ المنبِئُ عن الإحداثِ للمُكوَّن أنسبُ بهذا المقام؛ لئلَّا يبقى لمبطِل شُبهةٌ. وأكَّد ذلك بقوله: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، أي: من غير تأخُّر، ولا حاجةٍ إلى سبَب يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (2/319). .
5- قوله تعالى: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ: فيه كنايةٌ حسَنة، حيث كنى بالمسِّ عن الوطء، كما كنَّى عنه: بالحَرْث، واللِّباس، والمباشَرة يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/170). .
6- قوله تعالى: إِذَا قَضَى أَمْرًا: فيه التعبيرُ عن الجَمْع بالمفرد؛ وسرُّ ذلك- والله أعلم- بيانُ سهولةِ قَضاءِ كلِّ الأمورِ وتكوينها عليه سبحانه، كأنَّ الأمورَ كلَّها عنده كأمرٍ واحد، كما قال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان: 28] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/170). .
7- قوله تعالى: وَيُعَلِّمُهُ: فيه التفاتٌ- على قِراءة (نُعلِّمه) بنون العظمة- والالتفاتُ من ضميرِ الغَيبة إلى ضميرِ المتكلِّم المعظِّمِ نفْسَه؛ إيذانًا بالفخامةِ والتَّعظيم يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/171)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/182)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/294). .
8- قوله تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ: فيه إيجازٌ بالحذف؛ والتقدير: (وأبعثه رسولًا إلى بني إسرائيل قائلًا: إني قد جئتكم بآية) فقوله: ومصدِّقًا معطوف عليه، والتقدير: (وأبعثه رسولًا إلى بني إسرائيل قائلًا: إني قد جئتكم بآية، وإني بُعثت مصدقًا لما بين يدي من التوراة)؛ وإنما حسُن حذفُ هذه الألفاظ؛ لدلالةِ الكلام عليها يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/230). .
- وتخصيصُ بني إسرائيل في قوله: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ؛ لخصوصِ بَعثتِه إليهم، أو للردِّ على مَن زعَم أنَّه مبعوثٌ إلى غيرِهم يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/18). .
9- قوله تعالى: وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ: فيه تكرارُ قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ؛ دفعًا لتوهُّم الألوهيَّة؛ فإنَّ الإِحياء ليس من جِنس الأفعال البشريَّة يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/18)، ((تفسير القاسمي)) (2/320). .
10- في قوله تعالى: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ: تكرارُ ذِكر الآياتِ وإعادتها؛ للتأكيد؛ لأنَّ إخراجَ الإنسان عن المألوفِ المعتادِ من قديم الزَّمان عسِرٌ، فأعاد ذِكر المعجزات؛ ليصيرَ كلامُه ناجعًا في قلوبهم، ومؤثِّرًا في طباعهم يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/231). .
11- قوله تعالى: أَخْلُقُ فَأَنْفُخُ وَأُبْرِئُ وَأُحيي وَأُنَبِّئُكُمْ: أتى بهذه الخوارقِ بلفظِ المضارع؛ دلالةً على تجدُّد ذلك كلَّ وقتٍ طُلِب منه، وقَيَّد قوله: أَنِي أَخْلُقُ بقوله: بِإذْنِ اللهِ؛ لأنَّه خارقٌ عظيم، فأتَى به دفعًا لتوهُّم الإلهيَّة، ولم يأتِ به فيما عُطِف عليه في قوله: وَأُبْرِئُ، ثم قيَّد الخارق الثالث أيضًا بقوله: بِإِذْنِ اللهِ؛ لأنَّه خارقٌ عظيم أيضًا، وعطَف عليه قوله: وَأُنَبِّئُكُمْ من غير تقييدٍ له، مُنبِّهًا على عِظَم ما قبله، ودفعًا لوهمِ مَن يَتوهَّم فيه الإلهيَّة. أو يكون قد حذَفَ القيدَ من المعطوفين؛ اكتفاءً به في الأوَّل. والتقديرُ المقدَّمُ أحسنُ يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/199). .
12- قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ: أمرٌ مرادُه التخويفُ لهم؛ لأنَّ طاعة الرسول مِن لوازمِ تقوى الله تعالى، فبيَّن أنَّه إذا لزِمَكم أنْ تتَّقوا الله، لزِمَكم أن تُطيعوني فيما آمرُكم به عن ربِّي يُنظر: ((تفسير الرازي)) (7/231). .
13- في قوله تعالى: وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ: تأكيدٌ لقوله الأوَّل: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، وعطف بالواو؛ لأنَّه أُريد أن يكونَ من جملة الأخبار المتقدِّمة، ويحصُل التأكيدُ بمجرَّد تقدُّم مضمونه، فتكون لهذه الجملةِ اعتباران يَجعلانِها بمنزلة جُملتين، وليُبنى عليه التفريعُ بقوله: فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/253). .
14- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ: فيه تَكرار (رَبِّي وَرَبُّكُمْ)، وهو أبلغُ في الْتزام العبوديَّة من قوله: (ربَّنا)، وأدلُّ على التبرِّي من الربوبيَّة. ومقصودُه إظهارُ الخضوعِ والاعتراف بالعبوديَّة؛ لكيلا يتقوَّلوا عليه الباطل، فيقولوا: إنَّه إلهٌ، وابنُ إله؛ لأنَّ إقرارَه لله بالعبوديَّة يَمنعُ ما تدَّعيه جُهَّالُ النَّصارى عليه يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/170)، ((تفسير الرازي)) (7/231). .