المَبْحَثُ الثَّالثُ: الفَرْقُ بين الرَّسولِ والنَّبِيِّ في الاصطِلاحِ
لا شَكَّ أنَّ ثمَّةَ فَرقًا بين النَّبِيِّ والرَّسولِ، ومِمَّا يدلُّ على ذلك: عَطفُ النَّبِيِّ على الرَّسولِ في قَولِ الله تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] .
قال
الرَّازي: (عُطِفَ النَّبِيُّ على الرَّسولِ، وذلك يوجِبُ المغايرةَ، وهو من بابِ عَطفِ العامِّ على الخاصِّ)
[379] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/236). .
وأيضًا وصْفُ بَعضِ رُسُلِه بالنُّبُوَّة والرِّسالة معًا، كقَولِه تعالى في حقِّ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم: 51] .
وقد اشتَهَر أنَّ من نبَّأه اللهُ بخَبَرِ السَّماءِ، إنْ أَمَره أن يُبَلِّغَ غَيرَه، فهو نبيٌّ رَسولٌ، وإن لم يأمُرْه أن يبَلِّغَ غَيرَه، فهو نبيٌّ وليس برسولٍ. فكُلُّ رَسولٍ نبيٌّ، وليس كُلُّ نبيٍّ رَسولًا
[380] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/ 155). . وهذا غيرُ صَحيحٍ.
قال
الشِّنقيطيُّ: (إنَّ ما اشتهر على ألسِنَةِ أهلِ العِلمِ مِن أنَّ النَّبِيَّ هو من أُوحِيَ إليه وَحيٌ ولم يؤمَرْ بتبليغِه، وأنَّ الرَّسولَ هو النَّبِيُّ الذي أُوحِيَ إليه، وأُمِرَ بتبليغِ ما أُوحِيَ إليه: غيرُ صَحيحٍ؛ لأنَّ قَولَه تعالى
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] يدُلُّ على أنَّ كُلًّا منهما مُرسَلٌ، وأنَّهما مع ذلك بينهما تغايُرٌ)
[381] يُنظر: ((أضواء البيان)) (5/ 290). .
ومِمَّا قيل في الفَرْقِ بين النَّبِيِّ والرَّسولِ: أنَّ من جاءه الملَكُ ظاهرًا وأمَرَه بدَعوةِ الخَلْقِ فهو الرَّسولُ، ومن لم يَكُنْ كذلك بل رأى في النَّومِ كَونَه رسولًا أو أخبره أحدٌ من الرُّسُلِ بأنَّه رسولُ اللهِ، فهو النَّبِيُّ الذي لا يكونُ رسولًا
[382] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/236). .
وقيل: الرَّسولُ هو مَنْ أُوحِيَ إليه بشرعٍ جديدٍ، والنَّبِيُّ هو المبعوثُ لتقريرِ شَرعِ مَن قَبْلَه
[383] يُنظر: ((البناية شرح الهداية)) للعيني (1/ 116)، ((تفسير الألوسي)) (9/165). .
فعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((كانت بنو إسرائيلَ تَسُوسُهم الأنبياءُ، كُلَّما هلك نبيٌّ خلَفَه نبيٌّ )) [384] رواه البخاري (3455) ومسلم (1842) مطولًا. .
قال
ابنُ حَجَرٍ: (كانوا إذا ظهر فيهم فسادٌ بعث اللهُ لهم نبيًّا يُقيمُ لهم أمْرَهم ويزيلُ ما غَيَّروا من أحكامِ التَّوراةِ)
[385] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/497). .
وقال
العينيُّ: (الفَرْقُ بين الرَّسولِ والنَّبِيِّ: أنَّ الرَّسولَ من بُعِث لتبليغِ الوَحيِ، ومعه كِتابٌ. والنَّبِيَّ من بُعِث لتبليغِ الوَحيِ مُطلَقًا، سواءٌ كان بكِتابٍ أو بلا كِتابٍ، كيُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فكان النَّبِيُّ أعَمَّ من الرَّسولِ. كذا قال الشَّيخُ قوامُ الدِّين الأترازيُّ في «شرحه»، وهو قد تَبِع في ذلك صاحِبَ «النهاية»؛ حيث قال: الرَّسولُ هو النَّبِيُّ الذي معه كِتابٌ، كموسى عَلَيْهِ السَّلَامُ، والنَّبِيُّ هو الذي يُنبِئُ عن اللهِ وإن لم يَكُنْ معه كِتابٌ، كيُوشَعَ علَيْهِ السَّلَامُ،... والصَّحيحُ هنا أنَّ الرَّسولَ من نزل عليه الكِتابُ، أو أتى إليه مَلَكٌ، والنَّبِيَّ من يُوقِفُه اللهُ تعالى على الأحكامِ، أو تَبِع رَسولًا آخَرَ)
[386] يُنظر: ((البناية شرح الهداية)) (1/ 116). .
وقيل: الفَرْقُ بينهما أنَّ الرَّسولَ مَن أُرسِلَ إلى كُفَّارٍ مُخالِفين مُكَذِّبين سواءٌ بشَرعٍ جَديدٍ أو بشَرعِ مَن قَبْلَه، والنَّبِيُّ من أُرسِلَ إلى مُؤمِنين مُوافِقين بشريعةِ مَن قَبْلَه من الرُّسُلِ؛ فهو كالعُلَماءِ المُبَلِّغين عن الرُّسُلِ
[387] يُنظر: ((أعلام النبوة)) للماوردي (ص: 51)، ((النبوات)) لابن تيمية (2/714). .
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (فالنَّبِيُّ هو الذي يُنَبِّئُه اللهُ، وهو يُنَبِّئُ بما أنبأ اللهُ به؛ فإن أُرسِلَ مع ذلك إلى من خالف أمْرَ اللهِ ليُبَلِّغَه رسالةً من اللهِ إليه؛ فهو رسولٌ، وأمَّا إذا كان إنما يعمَلُ بالشَّريعةِ قَبْلَه، ولم يُرسَلْ هو إلى أحدٍ يُبَلِّغُه عن الله رسالةً، فهو نَبيٌّ وليس برَسولٍ؛ قال تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أُمْنِيَّته، وقَولُه:
مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ؛ فذكر إرسالًا يعمُّ النَّوعَينِ، وقد خَصَّ أحدَهما بأنَّه رسولٌ؛ فإنَّ هذا هو الرَّسولُ المُطلَقُ الذي أمره بتبليغِ رسالتِه إلى من خالف اللهَ؛ كنُوحٍ. وقد ثبت في الصَّحيحِ أنَّه أوَّلُ رَسولٍ بُعِثَ إلى أهلِ الأرضِ
[388] أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظ البخاري: ((.. يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض..)) ، وقد كان قَبْلَه أنبياءُ؛ كشِيثٍ، وإدريسَ عليهما السَّلامُ، وقَبْلَهما آدمُ كان نبيًّا مُكَلَّمًا. قال
ابنُ عَبَّاسٍ: كان بين آدَمَ ونوحٍ عَشَرةُ قُرونٍ كُلُّهم على الإسلامِ
[389] أخرجه البزار (4815)، والطبري في ((التفسير)) (4048)، والحاكم (3654) مطولًا بنحوِه. صَحَّحه الحاكم وقال: على شرط البخاري. والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (7/854). . فأولئك الأنبياءُ يأتيهم وَحيٌ من اللهِ بما يفعلونه ويأمُرون به المُؤمِنين الذين عندهم؛ لكونهم مُؤمِنين بهم، كما يَكونُ أهلُ الشَّريعةِ الواحِدةِ يَقبَلون ما يُبلِّغُه العُلَماءُ عن الرَّسولِ.
وكذلك أنبياءُ بني إسرائيلَ يأمُرون بشريعةِ التَّوراة، وقد يُوحى إلى أحدِهم وحيٌ خاصٌّ في قصَّةٍ مُعَيَّنةٍ، ولكن كانوا في شرعِ التوراةِ كالعالِم الذي يُفهِّمُه اللهُ في قضيَّةٍ معنًى يطابِقُ القرآنَ، كما فهَّم اللهُ سُلَيمانَ حُكْمَ القَضِيَّةِ التي حَكَم فيها هو وداودُ.
فالأنبياءُ يُنبِّئُهم اللهُ فيُخبرُهم بأمرِه ونهيِه وخَبرِه، وهم يُنَبِّئون المُؤمِنين بهم ما أنبأهم اللهُ به من الخبَرِ والأمرِ والنَّهيِ... ولا بُدَّ أن يُكَذِّبَ الرُّسُلَ قَومٌ؛ قال تعالى:
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52]، وقال:
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ؛ فإنَّ الرُّسُلَ تُرسَلُ إلى مخالفين؛ فيُكَذِّبُهم بَعضُهم.
فقَولُه:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ: دليلٌ على أنَّ النَّبِيَّ مُرسَلٌ، ولا يُسَمَّى رسولًا عند الإطلاقِ؛ لأنَّه لم يُرسَلْ إلى قومٍ بما لا يعرفونه، بل كان يأمرُ المُؤمِنين بما يعرفونه أنَّه حَقٌّ؛ كالعالِم،... وليس من شَرطِ الرَّسولِ أن يأتيَ بشَريعةٍ جَديدةٍ؛ فإنَّ يُوسُفَ كان على مِلَّةِ إبراهيمَ، وداودَ وسليمانَ كانا رَسُولَينِ، وكانا على شريعةِ التَّوراةِ)
[390] يُنظر: ((النبوات)) (2/ 714). .