المَبْحَثُ الأوَّلُ: حُكْمُ الإيمانِ بالأنبياءِ والرُّسُلِ
الإيمانُ بأنبياءِ اللهِ تعالى ورُسُلِه رُكنٌ من أركانِ الإيمانِ، وأصلٌ من أصولِه، لا يصحُّ إيمانُ العبدِ إلَّا به.
وعلى ذلك دلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ والإجماعُ.فمن الكِتابِ:1- قَولُ اللهِ تعالى:
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] .
قال
ابنُ كثير: (يُصَدِّقون بجميعِ الأنبياءِ والرُّسُلِ والكُتُبِ المنَزَّلةِ من السَّماءِ على عبادِ اللهِ المُرسَلين والأنبياءِ، لا يُفَرِّقون بين أحدٍ منهم، فيُؤمِنون ببعضٍ ويَكفُرون ببعضٍ، بل الجميعُ عندهم صادِقون بارُّون راشِدون مَهْدِيُّون هادُون إلى سُبُلِ الخيرِ، وإن كان بعضُهم يَنسَخُ شريعةَ بعضٍ بإذنِ اللهِ، حتى نُسِخَ الجميعُ بشَرعِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاتَمِ الأنبياءِ والمُرسَلين، الذي تقومُ الساعةُ على شريعتِه)
[391] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/ 736). .
2- قَولُ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 150 - 152] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يعني بذلك جَلَّ ثناؤه:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ مِنَ اليهودِ والنَّصارى
وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ بأن يُكَذِّبوا رُسُلَ اللهِ الذين أرسلهم إلى خَلْقِه بوَحْيِه، ويَزعُمون أنَّهم افتَرَوا على رَبِّهم، وذلك هو معنى إرادتِهم التفريقَ بين اللهِ ورُسُلِه، بنِحْلَتِهم إيَّاهم الكَذِبَ والفِرْيةَ على اللهِ، وادِّعائِهم عليهم الأباطيلَ.
وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ يعني أنَّهم يقولون: نُصَدِّقُ بهذا ونُكَذِّبُ بهذا، كما فعَلَت اليهودُ مِن تكذيبِهم عيسى ومحمَّدًا صلَّى الله عليهما وسلَّم، وتصديقِهم بموسى وسائِرِ الأنبياءِ قَبْلَه بزَعْمِهم، وكما فعلت النصارى من تكذيبِهم محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وتصديقِهم بعيسى وسائِرِ الأنبياءِ قَبْلَه بزَعْمِهم.
وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا يقول: ويريدُ المفَرِّقون بين اللهِ ورُسُلِه، الزَّاعِمون أنَّهم يُؤمِنون ببعضٍ ويَكفُرون ببعضٍ، أن يتَّخِذوا بين أضعافِ قَولِهم: نُؤمِنُ ببعضِ الأنبياءِ ونَكفُرُ ببعضٍ، سَبيلًا: يعني طريقًا إلى الضَّلالةِ التي أحدثوها والبِدعةِ التي ابتدعوها، يَدعون أهلَ الجَهْلِ من النَّاسِ إليه. فقال جَلَّ ثناؤه لعبادِه، مُنَبِّهًا لهم على ضلالتِهم وكُفرِهم:
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرونَ حَقًّا يقولُ: أيُّها النَّاسُ، هؤلاء الذين وصفتُ لكم صِفَتَهم هم أهلُ الكُفرِ بي، المستَحِقُّون عذابي والخُلودَ في ناري حقًّا، فاستيقِنوا ذلك)
[392] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/ 634). .
ومِنَ السُّنَّةِ:قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين سأله
جِبريلُ عليه السَّلامُ عن الإيمان:
((أن تؤمِنَ باللهِ، وملائِكَتِه، وكُتُبِه، ورُسُلِه، واليومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه )) [393] رواه مسلم (8) من حديثِ عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال أبو بكرٍ الإسماعيليُّ: (اعلَموا رَحِمَنا اللهُ وإيَّاكم أنَّ مَذهَبَ أهلِ الحَديثِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ الإقرارُ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه، وقَبولُ ما نطق به كِتابُ اللهِ تعالى، وصَحَّت به الروايةُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى0 اللهُ عليه وسلَّم، لا مَعدِلَ عمَّا ورد به ولا سَبيلَ إلى رَدِّه)
[394] يُنظر: ((اعتقاد أئمة الحديث)) (ص: 49). .
ومن الإجماعِ:1- قال ابنُ العَطَّارِ: (يجِبُ الإيمانُ بجَميعِ رُسُلِ اللهِ وأنبيائِه، وأنَّ جميعَ ما جاؤوا به حقٌّ وصِدقٌ؛ قال اللهُ تعالى:
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ [البقرة: 136] الآية، والآية التي في آلِ عِمرانَ:
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا [آل عمران: 84] قال العُلَماءُ: لا يَكونُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا حتى يُؤمِنَ بجَميعِ الأنبياءِ السَّابِقينَ وجَميعِ الكُتُبِ التي أنزلها اللهُ عَزَّ وجَلَّ على جميعِ الرُّسُلِ... ومن اعترف بالوحدانيَّةِ والإلهيَّةِ، وجحد النُّبُوَّةَ من أصْلِها عُمومًا، أو نبُوَّةَ نبيِّنا خصوصًا، أو أحَدٍ من الأنبياءِ الذين نُصَّ عليهم بعد عِلْمِه بذلك؛ فهو كافِرٌ بلا ريبِ... وكذلك من دان بالوحدانيَّةِ، وصِحَّةِ نُبُوَّةِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولكِنْ جَوَّز على الأنبياءِ الكَذِبَ فيما أَتَوا به، وادَّعى في ذلك المصلحةَ بزَعْمِه أو لم يَدَّعِها؛ فهو كافِرٌ بإجماعٍ... وكذلك من أضاف إلى نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تعَمُّدَ الكَذِبِ فيما بلغه، وأخبر به، أو شَكَّ في صِدْقِه، أو سَبَّه، أو قال: إنَّه لم يُبَلِّغْ، أو استخَفَّ به أو بأحدٍ من الأنبياءِ، أو أزرى عليهم، أو آذاهم، أو قتل نبيًّا، أو حاربه؛ فهو كافِرٌ بإجماعٍ)
[395] يُنظر: ((الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد)) (ص: 210-222). ويُنظر: ((الشفا)) لعياض (2/283). .
2- قال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (اتَّفَق المُسلِمون على ما هو معلومٌ بالاضطرارِ من دينِ الإسلامِ: وهو أنَّه يجِبُ الإيمانُ بجَميعِ الأنبياءِ والمُرسَلين، وبجميعِ ما أنزله اللهُ مِنَ الكُتُبِ، فمن كفر بنبيٍّ واحدٍ تُعلَمُ نُبُوَّتُه، مِثلُ: إبراهيمَ ولوطٍ وموسى وداودَ وسُلَيمانَ ويونُسَ وعيسى؛ فهو كافِرٌ عند جميعِ المُسلِمين، حُكْمُه حُكْمُ الكُفَّارِ)
[396] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) (2/ 371). .
ومن الأدِلَّةِ العَقليَّةِ على وُجوبِ الإيمانِ بالرُّسُلِ [397] يُنظر: ((منهاج المسلم)) لأبي بكر الجزائري (ص: 25). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/ 93) (19/ 101)، ((مجموع فتاوى ابن عثيمين)) (5/ 299). : 1- رُبُوبيَّتُه ورحمتُه تعالى تقتضيانِ إرسالَ رُسُلٍ منه إلى خَلْقِه لِيُعَرِّفوهم برَبِّهم، ويُرشِدوهم إلى ما فيه سعادتُهم في دُنياهم وأُخراهم.
2- خلْقُ اللهِ تعالى الخَلقَ لعبادتِه يقتضي اصطِفاءَ الرُّسُلِ وإرسالَهم؛ لِيُعَلِّموا العِبادَ كيف يَعبُدونَه تعالى ويُطيعونَه.
3- كونُ الثَّوابِ والعِقابِ مُرَتَّبَينِ على آثارِ الطَّاعةِ والمعصيةِ في النَّفسِ بالتطهيرِ والتَّدسِيَةِ أمرٌ يقتضي إرسالَ الرُّسُلِ، وبَعثةَ الأنبياءِ؛ لِئلَّا يقولَ النَّاسُ يومَ القيامةِ: إنَّنا يا رَبَّنا لم نَعرِفْ وَجْهَ طاعتِك حتى نطيعَك، ولم نَعرِفْ وَجهَ مَعصِيَتِك حتى نتجَنَّبَها، ولا ظُلمَ اليومَ عندك، فلا تُعَذِّبْنا، فتكونُ لهم الحُجَّةُ على اللهِ تعالى؛ فكانت هذه حالًا اقتضت بَعثةَ الرُّسُلِ لِقَطعِ الحُجَّةِ على الخَلْقِ.
قال
أبو عَمرٍو الدَّاني في اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ: (من قَولِهم: إنَّ اللهَ سُبحانَه قد احتجَّ على عبادِه برُسُلِه والسُّفَراءِ بينه وبين خَلْقِه، وقَطَع عُذرَ العِبادِ في الدَّلالةِ على صِدْقِهم بما آتاهم من الآياتِ، وقاهِرِ المُعجِزاتِ، وتتابُعِ الرُّسُلِ، وأنزل عليهم الكِتابَ، وشرع الشَّرائعَ، وفرض الفرائِضَ، وختم النُّبُوَّةَ برِسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمينِه وصَفِيِّه، خاتَمِ النَّبِيِّين، كما قال عَزَّ وجَلَّ:
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء: 165] ، وقال:
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، وقال:
وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)
[398] يُنظر: ((الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات)) (ص: 235). .
وقال البَزْدَويُّ: (قال أهلُ التوحيدِ: إنَّ بَعْثَ الرُّسُلِ جائِزٌ عَقلًا، وقد بعث اللهُ تعالى الأنبياءَ والرُّسُلَ، والإقرارُ بهم واجِبٌ شَرعًا)
[399] يُنظر: ((أصول الدين)) (ص: 95). .