المَطْلَبُ الأوَّلُ: تعيينُ أُولي العَزْمِ
اختَلَفَت الأقوالُ في تعيينِ أُولي العَزمِ
[514] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/207)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/114). .
قال
البغويُّ: (اختلفوا فيهم، فقال ابنُ زيد: كُلُّ الرُّسُلِ كانوا أُولي عَزمٍ لم يَبعَثِ اللهُ نَبِيًّا إلَّا كان ذا عَزمٍ وحَزمٍ، ورأيٍ وكَمالِ عَقلٍ، وإنما أُدخِلَت مِنْ للتجنيسِ لا للتبعيضِ، كما يقال: اشتريتُ أكسِيَةً مِنَ الخَزِّ وأَرْدِيةً مِنَ البَزِّ... وقال قومٌ: هم نُجَباءُ الرُّسُلِ المذكورين في سورة الأنعام
[90] يُنظر: ((دقائق التفسير)) (1/ 337-239). وهم ثمانيةَ عَشَرَ؛ لقَولِه تعالى بعد ذِكْرِهم:
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] .
وقال الكلبيُّ: هم الذين أُمِروا بالجِهادِ وأظهروا المكاشَفةَ مع أعداءِ الدِّينِ.
وقيل: هم سِتَّةٌ: نوحٌ، وهودٌ، وصالحٌ، ولوطٌ، وشُعَيبٌ، وموسى، عليهم السَّلامُ، وهم المذكورون على النَّسَقِ في سورةِ الأعرافِ والشُّعَراءِ...
وقال
ابنُ عَبَّاسٍ وقتادةُ: هم نوحٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى؛ أصحابُ الشَّرائع، فهم مع مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خمسةٌ.
قُلتُ: ذَكَرهم اللهُ على التخصيصِ في قَولِه:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7] ، وفي قَولِه تعالى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا [الشورى: 13] الآية)
[515] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/ 207). .
وقال
ابنُ الجوزي: (قَولُه:
كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ أي: ذَوُو الحَزمِ والصَّبرِ، وفيهم عَشَرةُ أقوالٍ:
أحَدُها: أنَّهم نوحٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى، ومُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. رواه الضَّحَّاكُ عن
ابنِ عَبَّاسٍ، وبه قال مجاهِدٌ، وقتادةُ، وعَطاءٌ الخُراسانيُّ، وابنُ السَّائِبِ.
والثَّاني: نوحٌ، وهودٌ، وإبراهيمُ، ومُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قاله أبو العاليةِ الرياحيُّ.
والثَّالِثُ: أنَّهم الذين لم تُصِبْهم فتنةٌ مِنَ الأنبياءِ. قاله الحسَنُ.
والرابعُ: أنَّهم العَرَبُ من الأنبياءِ. قاله مجاهِدٌ، والشَّعبيُّ.
والخامِسُ: أنَّهم إبراهيمُ، وموسى، وداودُ، وسُلَيمانُ، وعيسى، ومُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قاله السُّدِّي.
والسَّادِسُ: أنَّ منهم إسماعيلَ ويعقوبَ وأيوبَ، وليس منهم آدَمُ، ولا يُونُسُ، ولا سُلَيمانُ.قاله ابنُ جُرَيجٍ.
والسابعُ: أنَّهم الذين أُمِروا بالجِهادِ والقِتالِ. قاله ابنُ السَّائِبِ، وحُكِيَ عن السُّدِّي.
والثَّامن: أنَّهم جميعُ الرُّسُلِ، فإنَّ اللهَ لم يبعَثْ رَسولًا إلَّا كان من أُولي العَزمِ. قاله ابنُ زيدٍ، واختاره ابنُ الأنباريِّ، وقال: «من» دخلت للتجنيسِ لا للتبعيضِ، كما تقولُ: قد رأيتُ الثِّيابَ مِنَ الخَزِّ والجِبابَ مِنَ القَزِّ.
والتاسِعُ: أنَّهم الأنبياءُ الثمانيةَ عَشَرَ المذكورون في سورةِ «الأنعام»، قاله الحُسَينُ بنُ الفَضلِ.
العاشِرُ: أنَّهم جميعُ الأنبياءِ إلَّا يُونُسَ. حكاه الثعلبيُّ)
[516] يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 114). .
قال أبو حاتمٍ: (قال تعالى ذِكْرُه:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ فأجمل النَّبِيِّينَ ثُمَّ قال:
وَمِنكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فأفردهم تفضيلًا لهم على سائرِ الأنبياءِ)
[517] يُنظر: ((كتاب النخلة)) (ص: 37). .
وقال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (أفضَلُ أولياءِ اللهِ هم أنبياؤه، وأفضَلُ أنبيائه هم المُرْسَلون منهم، وأفضَلُ المُرْسَلين
أولو العَزمِ: نوحٌ وإبراهيمُ وموسى وعيسى ومُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قال تعالى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] ، وقال تعالى:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب: 7، 8]، وأفضَلُ أُولي العزمِ مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاتَمُ النَّبِيِّينَ وإمامُ المتَّقِينَ وسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ)
[518] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/ 161). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ في بيانِ طَبَقاتِ المُكَلَّفينَ: (
الطَّبَقةُ الأولى وهي العُليا على الإطلاقِ مَرتبةُ الرِّسالةِ، فأكرَمُ الخَلقِ على اللهِ وأخَصُّهم بالزُّلفى لديه رُسُلُه... وأعلاهم منزلةً
أُولو العزمِ منهم المذكورون في قَولِه تعالى:
شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وهؤلاء هم الطَّبَقةُ العُليا من الخلائِقِ، وعليهم تدورُ الشَّفاعةُ حتى يَرُدُّوها إلى خاتَمِهم وأفضَلِهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
[519] حديث الشفاعة أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194) مِن حَديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ولفظ البخاري: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوة، فرفع إليه الذراع - وكانت تعجبه- فنهس منها نهسة وقال: ((أنا سيد القوم يوم القيامة، هل تدرون بمن؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر ويسمعهم الداعي، وتدنو منهم الشمس، فيقول بعض الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ إلى ما بلغكم؟ ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس: أبوكم آدم. فيأتونه فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: ربي غضب غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدا شكورا، أما ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما بلغنا؟ ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي، ائتوا النبي صلى الله عليه وسلم. فيأتوني، فأسجد تحت العرش، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، واشفع تشفع، وسل تعطه)) .
ا
لطبقةُ الثَّانيةُ: مَن عداهم من الرُّسُلِ على مراتِبِهم من تفضيلِ اللهِ بَعْضِهم على بعضٍ)
[520] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 349). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (قد اختلفوا في تَعدادِ أُولي العَزمِ على أقوالٍ، وأشهَرُها أنَّهم: نوحٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى، وخاتَمُ الأنبياءِ كُلِّهم مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قد نصَّ اللهُ على أسمائِهم من بين الأنبياءِ في آيتينِ مِن سُورَتَيِ «الأحزاب» و«الشورى»، وقد يحتَمِلُ أن يَكونَ المرادُ بأُولي العَزمِ جميعَ الرُّسُلِ، وتكونُ
مِن في قَولِه:
من الرُّسُلِ لبيانِ الجِنسِ. واللهُ أعلَمُ)
[521] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 305). .
وقال
حافِظٌ الحَكَميُّ:
(وخمسةٌ منهم
أُولو العَزمِ الأُلى... في سورةِ الأحزابِ والشُّورى تلا
«وخمسةٌ منهم» أي: من الرُّسُل «أولو» أي: أصحابُ «العزمِ» يعني: الحَزمِ والجِدِّ والصَّبرِ وكَمالِ العَقلِ، ولم يُرسِلِ اللهُ تعالى من رسولٍ إلَّا وهذه الصِّفاتُ فيه مجتَمِعةٌ، غيرَ أنَّ هؤلاء الخَمسةَ أصحابُ الشَّرائعِ المشهورةِ كانت هذه الصِّفاتُ فيهم أكمَلَ وأعظَمَ مِن غَيرِهم؛ لذا خُصُّوا بالذِّكرِ «في سورة الأحزاب» يعني: قَولَه تعالى:
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب: 7] ، فذكر تعالى أخْذَه الميثاقَ على جميعِ النَّبِيِّينَ جملةً، ونَصَّ منهم على هؤلاء الخَمسةِ: مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو خاتَمُهم، ونوحٍ، وهو فاتِحُهم، وإبراهيمَ وموسى وعيسى وهم بينهما، وكذا ذكَرَهم على وَجهِ التخصيصِ في سورةِ «الشُّورى»؛ إذ يقولُ تعالى:
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] .
وهؤلاء الخمسةُ هم الذين يتراجَعون الشَّفاعةَ بعد أبيهم آدَمَ عليه السَّلامُ حتى تنتهيَ إلى نبيِّنا مُحَمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيقولَ: «أنا لها»
[522] أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193) مطولًا مِن حَديثِ أنس رَضِيَ اللهُ عنه. ولفظ البخاري: ((إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن. فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله. فيأتون موسى، فيقول لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته. فيأتون عيسى، فيقول لست لها، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم. فيأتوني، فأقول: أنا لها..)) [523] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/ 679). .
وقال
الشنقيطيُّ في قَولِه تعالى:
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ: (اختلف العُلَماءُ في المرادِ بأُولي العَزمِ مِنَ الرُّسُل في هذه الآيةِ الكريمةِ اختِلافًا كثيرًا.
وأشهَرُ الأقوالِ في ذلك أنَّهم خمسةٌ، وهم الذين قَدَّمنا ذِكْرَهم في «الأحزاب» و«الشورى»، وهم: نوحٌ، وإبراهيمُ، وموسى، وعيسى، ومُحَمَّد -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ.
وعلى هذا القولِ فالرُّسُلُ الذين أُمِرَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَصبِرَ كما صبروا أربعةٌ، فصار هو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خامِسَهم.
واعلَمْ أنَّ القولَ بأنَّ المرادَ بأُولي العزم جميعُ الرُّسُلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنَّ لَفظةَ مِنْ في قَولِه:
مِنَ الرُّسُلِ بيانيَّةٌ؛ يَظهَرُ أنَّه خلافُ التحقيقِ، كما دلَّ على ذلك بعضُ الآياتِ القُرآنيَّةِ، كقَولِه تعالى:
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ، فأمر اللهُ جَلَّ وعلا نبيَّه في آية «القلم» هذه بالصَّبرِ، ونهاه عن أن يَكونَ مِثلَ يُونُسَ؛ لأنَّه هو صاحِبُ الحوتِ، وكقَولِه:
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا؛ فآيةُ «القلم»، وآية «طه» المذكورتان كِلتاهما تدُلُّ على أنَّ أُولي العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ الذين أمِرَ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَصبِرَ كصبرِهم ليسوا جميعَ الرُّسُلِ. والعِلْمُ عند اللهِ تعالى)
[524] يُنظر: ((أضواء البيان)) (7/ 241). .