غَريبُ الكَلِماتِ:
مِيثَاقَهُمْ: الميثاقُ: عقدٌ مؤكَّدٌ بيمينٍ وعهدٍ، أو العهدُ المُحكَمُ، وأصلُه: العقدُ والإحكامُ [173] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/46) و(19/22)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/85)، ((المفردات)) للراغب (ص: 853). .
مِيثَاقَهُمْ: الميثاقُ: عقدٌ مؤكَّدٌ بيمينٍ وعهدٍ، أو العهدُ المُحكَمُ، وأصلُه: العقدُ والإحكامُ [173] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/46) و(19/22)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/85)، ((المفردات)) للراغب (ص: 853). .
يقولُ تعالى مذكِّرًا رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بالعهدِ الَّذي أخَذه عليه وعلى الأنبياءِ مِن قبْلِه: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- إذ أخَذْنا مِنَ النَّبيِّينَ مِيثاقًا وعهدًا مُؤكَّدًا على اتِّباعِ ما أوحى اللهُ به، وتبليغِ الدِّينِ وإقامتِه، وأخَذْنا منك -يا محمَّدُ- هذا الميثاقَ، ومِن نوحٍ، وإبراهيمَ، وموسى، وعيسى ابنِ مريمَ -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- وأخَذْنا منكم جميعًا ميثاقًا مُؤكَّدًا؛ لِيَسألَ اللهُ الصَّادقينَ عن صِدقِهم، وأعدَّ اللهُ للكافِرينَ عذابًا مُؤلِمًا في نارِ جَهنَّمَ.
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالاتِّقاءِ، بقَولِه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب:1] ، وأكَّده بالحكايةِ الَّتي خَشِيَ فيها النَّاسَ؛ لِكَيلا يَخشى فيها أحدًا غَيرَه، وبيَّن أنَّه لم يرتكِبْ أمرًا يوجِبُ الخَشيةَ، بقَولِه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب:6] - أكَّدَه بوَجهٍ آخَرَ وقال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ الآيةَ، كأنَّه قال: اتَّقِ اللهَ ولا تخَفْ أحدًا، واذكُرْ أنَّ الله أخَذ ميثاقَ النَّبيِّينَ في أنَّهم يُبَلِّغونَ رِسالاتِ اللهِ، ولا يَمنَعُهم مِن ذلك خَوفٌ ولا طمَعٌ [174] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (??/???). .
وأيضًا لَمَّا كان ما سبَق أحكامًا عن الله تعالى، وكان فيها أشياءُ ممَّا كانت في الجاهليَّةِ، وأشياءُ في الإسلامِ نُسِخَت؛ أتْبَعَه بقَولِه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ، أي: في تبليغِ الشَّرائعِ، والدُّعاءِ إلى اللهِ؛ فلَسْتَ بِدْعًا في تبليغِك عن اللهِ [175] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/455). .
وأيضًا لَمَّا كان نَقضُ العوائِدِ وتغييرُ المألوفاتِ ممَّا يَشُقُّ كثيرًا على النُّفوسِ، ويُفَرِّقُ المجتَمِعينَ، ويَقطَعُ بيْنَ المُتواصِلينَ، ويُباعِدُ بيْن المتقارِبينَ؛ قال الله تعالى مُذكِّرًا للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بما أخَذَ على مَن قَبْلَه مِن نَسخِ أديانِهم بدِينِه، وتغييرِ مألوفاتِهم بإلْفِه، ومِن نصيحةِ قَومِهم بإبلاغِهم كُلَّ ما أُرسِلوا به [176] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/293). :
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ.
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- إذْ [177] (إِذْ) هنا: مفعولٌ لفعلٍ محذوفٍ، تقديرُه: اذكرْ. أي: اذكُرْ للنَّاسِ إذ أخَذْنا، أو: اذكُرْ لنفْسِك مذَكِّرًا إيَّاها إذْ أخَذْنا مِن النَّبيِّينَ ميثاقَهم. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/293)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/274)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 75). أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ عَهدًا مُؤكَّدًا على تَصديقِ بَعضِهم بَعضًا، وتبليغِ الدِّينِ وإقامتِه، والقيامِ بتقوى اللهِ، ونَبْذِ طاعةِ الكافِرينَ والمنافِقينَ، واتِّباعِ ما أَوحَى اللهُ به، وأخَذْنا هذا الميثاقَ مِنك -يا محمَّدُ- ومِن نُوحٍ، وإبراهيمَ، وموسى، وعيسى ابنِ مَريمَ -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ [178] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/22)، ((تفسير القرطبي)) (14/127)، ((تفسير ابن كثير)) (6/382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 659)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/274). .
كما قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] .
وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا.
أي: وأخَذْنا مِن جميعِ هؤلاءِ الأنبياءِ عَهدًا عَظيمًا مُؤكَّدًا على القيامِ بدِينِ اللهِ وتَبليغِه، وتَصديقِ بَعضِهم بَعضًا [179] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/22)، ((تفسير القرطبي)) (14/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 659). .
كما قال تعالى: أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] .
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8).
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ.
أي: أخَذ اللهُ الميثاقَ مِن أولئك الأنبياءِ؛ لكيْ يَسألَ الصَّادِقينَ [180] قيل: السُّؤالُ للأنبياءِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والزَّجَّاج، ومكِّي، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، والنسفي، والرَّسْعَني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/24)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/217)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5790)، ((الوسيط)) للواحدي (3/460)، ((تفسير السمعاني)) (4/262)، ((تفسير البغوي)) (3/611)، ((تفسير النسفي)) (3/19)، ((تفسير الرسعني)) (6/108). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، والحسَنُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/702). قال الزَّجَّاج: (وتأويلُ مسألةِ الرُّسلِ -واللهُ يَعلَمُ أنَّهم صادِقون- التَّبكيتُ لِلَّذين كفَروا بهم، كما قال الله عزَّ وجلَّ: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116]). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/217). وقيل: السُّؤالُ لأُمَمِ الأنبياءِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/276). وقيل: السُّؤالُ للأنبياءِ ولأُمَمِهم الَّذين دعَوهم. وممَّن قال بهذا: السعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 659)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الأحزاب)) (ص: 84، 85). عن قيامِهم بهذا العَهدِ المؤكَّدِ، فيُثيبَهم الجنَّةَ [181] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/24)، ((تفسير ابن كثير)) (6/383)، ((تفسير السعدي)) (ص: 659)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/275، 276). .
وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا.
أي: وأعدَّ اللهُ للكافِرينَ باللهِ ورُسُلِه مِن جميعِ الأُمَمِ عَذابًا مُؤلِمًا موجِعًا في النَّارِ [182] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/24)، ((تفسير القرطبي)) (14/128)، ((تفسير ابن كثير)) (6/383). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الأحزاب: 64، 65].
1- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا فيه أنَّه تعالى أرسَلَ الرُّسُلَ، وعاقِبةُ المكَلَّفينَ إمَّا حِسابٌ وإمَّا عَذابٌ؛ لأنَّ الصَّادِقَ مُحاسَبٌ، والكافِرَ مُعذَّبٌ، وهذا كما قال عليٌّ رضِيَ الله عنه: (الدُّنيا حلالُها حِسابٌ، وحَرامُها عذابٌ) [183] أخرجه من طرق أبو داود في ((الزهد)) (109)، والدِّينَوريُّ في ((المجالسة وجواهر العلم)) (421). ، وهذا ممَّا يُوجِبُ الخَوفَ العامَّ [184] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (??/???). .
2- قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ أنَّ مَن أنعَمَ اللهُ تعالى عليه بنِعمةٍ، فإنَّ لله تعالى عليها شُكرًا خاصًّا غيرَ النِّعمةِ العامَّةِ، كقَولِه سُبحانَه وتعالى: مِيثَاقَهُمْ؛ فإنَّ الإضافةَ هنا تدُلُّ على التَّخصيصِ -أي: الميثاقَ الخاصَّ بهم-؛ فكلُّ مَن أنعَمَ اللهُ تعالى عليه بنِعمةٍ، فإنَّ لله تعالى عليه فيها عَهدًا أنْ يَقومَ بهذه النِّعمةِ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 80). .
3- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أتْبَعَه بقيَّةَ أُولي العَزمِ الَّذين هم أصحابُ الكُتُبِ، ومشاهيرُ أربابِ الشَّرائعِ؛ لأنَّ مَن عَلِمَ له شَريكًا في أمرٍ اجتهَدَ في سَبقِه فيه [186] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/294). .
4- قَولُ الله تعالى: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا إذا كان الأنبياءُ يُسألَونَ -وهذا على قولٍ في التَّفسيرِ-، فكيف بمَن سِواهم [187] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/456). ؟!
5- في قَولِه تعالى: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ أنَّ السُّؤالَ ليس سُؤالًا خاصًّا بالمعانِدينَ والكافِرين، حتَّى الصَّادِقُ يُسألُ عن صِدقِه -وهذا على قولٍ في التَّفسيرِ-. فيتفرَّعُ عن هذه الفائِدةِ: وُجوبُ الحَذَرِ، ووُجوبُ الاستِعدادِ لهذا السُّؤالِ؛ فإذا كان الصَّادِقُ يُسألُ فما بالُك بالكاذِبِ؟! الكاذِبُ جزاؤُه وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا؛ لأنَّ الكافِرينَ لا يُسأَلونَ سُؤالًا يُحاسَبونَ عليه كمُحاسَبةِ أهلِ الخَيرِ [188] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 86). !
1- في قَولِه تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عِظَمُ المَسؤوليَّةِ على الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ وجْهُ ذلك: أنَّ اللهَ تعالى خَصَّصَهم بأخْذِ الميثاقِ، ويُستفادُ منها فَرعًا على هذه الفائِدةِ: عِظَمُ المسؤوليَّةِ على أهلِ العلمِ؛ لأنَّهم وَرَثةُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ [189] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 80). .
2- في قَولِه تعالى: وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا أنَّ النارَ موجودةٌ الآنَ؛ لقولِه تعالى: وَأَعَدَّ بلفظِ الماضي، والإعدادُ بمعنى: التَّهيئةِ [190] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 87). .
3- في قَولِه تعالى: وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا دليلٌ على أنَّ أهلَ النارِ يَذوقونَ العذابَ ويتألَّمونَ منه؛ لقولِه تعالى: أَلِيمًا؛ فيكونُ في هذه الفائدةِ رَدٌّ على قولِ مَن يقولُ: «إنَّ أهلَ النارِ يكونون جَهنَّميِّينَ؛ فلا يُحِسُّونَ بعذابٍ»! لأنَّهم إذا كانوا لا يُحِسُّونَ بعذابٍ انتفَى العذابُ [191] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 88). !
1- قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا هاتانِ الآيتانِ لهما مَوقعُ المُقدِّمةِ لِقصَّةِ الأحزابِ؛ لأنَّ ممَّا أخَذَ اللهُ عليه مِيثاقَ النَّبيِّينَ: أنْ يَنصُروا الدِّينَ الَّذي يُرسِلُه اللهُ به، وأنْ يَنصُروا دِينَ الإسلامِ [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/273). .
- قولُه: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ في ذِكْرِ ضَميرِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبْلَ الأنبياءِ المذكورينَ إيماءٌ إلى تَفضيلِه على جَميعِهم، ثمَّ جُعِل تَرتيبُ ذِكرِ البقيَّةِ على تَرتيبِهم في الوُجودِ. ولهذه النُّكتةِ خُصَّ ضَميرُ النَّبيِّ بإدخالِ حَرْفِ (مِن) عليه بخُصوصِه، ثمَّ أُدخِلَ حَرْفُ (مِن) على مَجموعِ الباقينَ؛ فكان قد خُصَّ باهتِمامَينِ: اهتِمامُ التَّقديمِ، واهتمامُ إظهارِ اقترانِ الابتِداءِ بضَميرٍ بخُصوصِه غيرِ مُندمِجٍ في بَقيَّتِهم عليهم السَّلامُ [193] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/525)، ((تفسير البيضاوي)) (4/225، 226)، ((تفسير أبي حيان)) (8/455)، ((تفسير أبي السعود)) (7/92)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/275). .
- وأيضًا جاء قولُه: وَمِنْكَ عقِبَ ذِكرِ النَّبيِّينَ؛ تَنبيهًا على أنَّ شأنَ الرُّسلِ واحِدٌ، وأنَّ سُنَّةَ اللهِ فيهم مُتَّحِدةٌ؛ فهذه الآيةُ لها مَعنى التَّذييلِ لقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ... [الأحزاب: 1-3] الآياتِ الثَّلاثَ، ولكنَّها جاءتْ مَعطوفةً بالواوِ؛ لِبُعدِ ما بيْنَها وما بيْن الآياتِ الثَّلاثِ المُتقدِّمةِ [194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/273). .
- وتَخصيصُ هؤلاء الأنبياءِ بالذِّكْرِ -مع اندراجِهم في النَّبيِّينَ اندارجًا بَيِّنًا-؛ للإيذانِ بمَزيدِ مَزيَّتِهم وفَضْلِهم، وكَونِهم مِن مَشاهيرِ أربابِ الشَّرائعِ، وأساطينِ أُولي العزْمِ مِن الرُّسلِ [195] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/225)، ((تفسير أبي حيان)) (8/455)، ((تفسير أبي السعود)) (7/91، 92)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/275). .
وأيضًا لأنَّ موسى وعيسى عليهما السَّلامُ كان لهما في زمانِ نبيِّنا قَومٌ وأمَّةٌ، فذكَرَهما احتِجاجًا على قَومِهما، وإبراهيمُ عليه السَّلامُ كان العَرَبُ يقولونَ بفَضلِه، وكانوا يتَّبِعونَه في الشَّعائِرِ بَعضِها، ونوحًا عليه السَّلامُ لأنَّه كان أصلًا ثانيًا للنَّاسِ؛ حيث وُجِدَ الخَلقُ منه بعدَ الطُّوفانِ [196] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (??/???). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قُدِّمَ محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هنا في قولِه: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؛ وذلك لِكَونِه أفضَلَ منْهم، وأكثَرَهم أتْباعًا. وقُدِّمَ نُوحٌ عليه السَّلامُ في آيةِ (الشُّورى) في قولِه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا [الشورى: 13] ؛ لأنَّ إيرادَه على خِلافِ الإيرادِ؛ فهناك أورَدَه على طَريقِ وَصفِ دِينِ الإسلامِ بالأصالةِ، فكأنَّه قال: شرَعَ لكمُ الدِّينَ الأصيلَ، الَّذي بُعِثَ عليه نُوحٌ في العهدِ القديمِ، وبُعِثَ عليه محمَّدٌ خاتمُ الأنبياءِ في العهدِ الحديثِ، وبُعِثَ عليه مَن تَوسَّطَ بيْنَهما مِن الأنبياءِ المشاهيرِ [197] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/525)، ((تفسير أبي حيان)) (8/455)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 458). .
- وجُملةُ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا أعادَتْ مَضمونَ جُملةِ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ؛ لزِيادةِ تَأكيدِها، ولِيُبْنى عليها وَصفُ المِيثاقِ بالغليظِ، أي: عظيمًا جليلَ الشَّأنِ في جِنسِه؛ فإنَّ كلَّ مِيثاقٍ له عِظَمٌ، فلمَّا وُصِفَ هذا بـ غَلِيظًا، أفاد أنَّ له عِظَمًا خاصًّا، ولِيُعلِّقَ به لامَ التَّعليلِ مِن قولِه: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ. وقِيل: المُرادُ بالمِيثاقِ الغليظِ: هو اليمينُ باللهِ تعالى على الوفاءِ بما حُمِّلوا، وعليه فلا إعادةَ؛ لاختلافِ المِيثاقَينِ [198] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/525)، ((تفسير البيضاوي)) (4/226)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 459)، ((تفسير أبي السعود)) (7/92)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/275). .
- وفي تَعقيبِ أمْرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أوَّلِ هذه السُّورةِ بالتَّقوى، ومُخالَفةِ الكافرينَ والمنافقينَ، والتَّثبيتِ على اتِّباعِ ما يُوحى إليه، وأمْرِه بالتَّوكُّلِ على اللهِ بهذه الآيةِ، وجَعْلِها قبْلَ قولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ [الأحزاب: 9] ... إلخ: إشارةٌ إلى أنَّ ذلك التَّأييدَ الَّذي أيَّدَ اللهُ به رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ معه -إذ رَدَّ عنهم أحزابَ الكُفَّارِ والمنافقينَ بغَيظِهم لم يَنالوا خيرًا- ما هو إلَّا أثَرٌ مِن آثارِ المِيثاقِ الَّذي أخَذَه اللهُ على رسولِه حينَ بَعَثهُ [199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/274). .
2- قوله تعالى: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا
- قولُه: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ مُتعلِّقٌ بمُضمَرٍ مُستأنَفٍ، مَسوقٍ لِبَيانِ ما هو داعٍ إلى ما ذُكِرَ مِن أخْذِ الميثاقِ، وغايةٌ له، لا بـ أَخَذْنَا؛ فإنَّ المقصودَ تَذكيرُ نفْسِ الميثاقِ، ثمَّ بَيانُ الغرَضِ منه بَيانًا قَصديًّا، كما يُنبِئُ عنه تَغييرُ الأُسلوبِ بالالتِفاتِ إلى الغَيبةِ، أي: فعَل الله ذلك لِيَسألَ يومَ القيامةِ الأنبياءَ، ووضَعَ الصَّادقينَ مَوضِعَ ضميرِهم للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّهم صادِقونَ فيما سُئِلوا عنه، وإنَّما السُّؤالُ لحكمةٍ تقتضِيه، أي: لِيَسألَ الأنبياءَ الَّذين صدَقوا عهْدَهم عمَّا قالُوه لقومِهم، أو عن تصديقِ أقوامِهم إيَّاهم، وسؤالُهم عليهم السَّلامُ عن ذلك على الوجهينِ لِتَبكيتِ الكفرةِ المكذِّبينَ [200] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/92)، ((تفسير الألوسي)) (11/152)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/276). .
- وإنَّما صَرَّحَ بسُؤالِ الصَّادقِ؛ بِشارةً له بتَشريفِه في ذلك الموقفِ العظيمِ، وطَوَى سُؤالَ الكفَّارِ؛ إشارةً إلى استِهانتِهم بفَضيحةِ الكَذِبِ [201] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/295). .
- قولُه: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا يجوزُ أنْ يكونَ حُذِفَ مِن الأوَّلِ ما أُثِيبَ به الصَّادقونَ، وهمُ المُؤمِنون، وذُكِرَت العِلَّةُ، وحُذِفَ مِن الثَّاني العِلَّةُ، وذُكِرَ ما عُوقِبوا به، وكأنَّ التَّقديرَ: لِيَسأَلَ الصَّادقينَ عن صِدقِهم، فأثابَهم، ويَسأَلَ الكافرينَ عمَّا أجابوا به رُسلَهم؛ فحُذِفَ مِن الأوَّلِ ما أُثبِتَ مُقابِلُه في الثَّاني، ومِن الثَّاني ما أُثبِتَ مُقابِلُه في الأوَّلِ، وهذه طريقةٌ بَليغةٌ [202] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/456). . ويُعرَفُ هذا بالاحتِباكِ.
- وجُملةُ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا عطْفٌ على جُملةِ لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ، وغُيِّرَ فيها الأُسلوبُ، وعُبِّرَ بالفِعلِ الماضي وَأَعَدَّ؛ للدَّلالةِ على تَحقيقِ عذابِ الكافرينَ؛ حتَّى لا يُتوهَّمَ أنَّهم يُسأَلون سُؤالَ مَن يُسمَعُ جَوابُهم أو مَعذرِتُهم، ولإفادةِ أنَّ إعدادَ عذابِهم أمْرٌ مَضى وتقرَّرَ في عِلمِ اللهِ [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/276). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب: 8] ، وفيما بعْدُ مِن السُّورةِ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب: 24] ، فاختلَفَ ما أُعقِبَت به كلٌّ مِن الآيتينِ مع تَقارُبِ ما بُنِيَ عليه التَّعقيبُ؛ ووَجْهُه: أنَّ اختِلافَ التَّعقيبِ مَرْعِيٌّ فيه ما تَقدَّمَ قبْلَ كلِّ واحدةٍ مِن الآيتَينِ؛ أمَّا الأُولى: فالمُتقدِّمُ قبْلَها قولُه تعالى: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1] ، ثمَّ لم يَعُدِ الكلامُ إلى شَيءٍ مِن مُرتكَباتِ المنافقينَ، ولا تَفصيلِ أحوالِهم، فناسَبَ هذا قولُه: وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الأحزاب: 8] ، والكافرُ بالنِّفاقِ كالكافرِ المتظاهِرِ بكُفْرِه.
وأمَّا الآيةُ الثَّانيةُ فتَقدَّمها قولُه تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا [الأحزاب: 12] ، ثمَّ تَتابعَتِ الآيُ مُعرِّفةً بسُوءِ مُرتكَبِهم وقَبيحِ أفعالِهم في ثَماني آياتٍ أو نَحوِها، إلى قولِه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] ، ثمَّ أعقَبَ هذا بذِكرِ حالِ المؤمنينَ، وذُكِرُوا بأحْسَنِ ما يَتحلَّى به الصَّادقُ في إيمانِه، فقال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22] ، إلى عَظيمِ ما وصَفَهم به سُبحانه، ثمَّ أعقَبَ بذِكرِ حالِ الفريقَينِ؛ فقال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب: 24] ، وقد أبقَى سُبحانه عليهم بقولِه: إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ؛ جَرْيًا على المطَّرِدِ مِن عَظيمِ حِلمِه وسَعةِ عَفوِه ورَحمتهِ، وكلٌّ مِن هذا واردٌ على أعظَمِ مُناسَبةٍ [204] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/405). .